في هذا المقال، استعرض بعض الملاحظات على حوار البروفيسور إبراهيم غندور وزير الخارجية السوداني والذي نشرته صحيفة الجريدة الأسبوع الماضي، وفي هذا فإن لدي ملاحظتين أساسيتين، الأولى حول العفو العام كمفهوم وتطبيق، ولكن وبالرغم من أن النقطة الأولى هذه قانونية بحتة وهي حول مفهوم العفو الذي أشار إليه البروفيسور غندور ضمن الحوار، إلا أننى استخدمت البحث العادي لسبر غور هذا المفهوم، مع اعتمادي على إفادة واحدة من أحد كبار القانون السودانيين، ورفدت رؤيتي بكتابات حول الموضوع من مختصين في دول شبيهة بحالتنا. أما النقطة الثانية التي أريد ان أناقشها ضمن حوار السيد غندور فهي حول مغادرة السيد الرئيس لجنوب أفريقيا والتي بحسب قوله كانت بطرق مشروعة.
وفي هذا الجزء من المقال، نستعرض تصريح السيد غندور والقاضي بأن العفو العام سيصدر حالما توافق الحركات المسلحة على الحوار، فقد سألته الأستاذة الصحفية مها التلب قائلة:
صدر حكم تنفيذ الإعدام ضد منسوبي حركة العدل والمساواة ألا تعتقد أن هذا الأمر سيعرقل العملية السلمية؟
فأجاب سيادته:
الأحكام السابقة عقب دخول أم درمان هي أحكام قضائية سابقة ولم تُنفذ حتى الآن، علماً بأن الرئيس البشير عقب حوار الدوحة أصدر العفو العام عنهم، ولكن في آخر الأمر نكصت حركة العدل والمساواة عن الاتفاق والتوقيع لذلك توقف العفو، ونحن نتمنى أن نصل قريباً إلى اتفاقٍ يوقف نزيف الدماء ويحفظ أرواح المواطنين.
في البدء نشكر البروف على تفهمه وحرصه على إيقاف الدماء وحفظ أرواح المواطنين، ولكن، ألا يتبادر للذهن بأن موضوع العفو العام وفق الشاكلة التي طرحها سيادته، يكون كما العصا التي ترفع في وجه الممانع، أي أنه العفو يفقد خصوصيته القانونية والغرض الذي وضعه له المشرِّع، بل ربما يخالف حتى القوانين السودانية نفسها ناهيك عن القوانين الدولية؟! فقد ورد العفوضمن المادة 32 من القانون الجنائي لعام 1991، وبما أن القانون أقر بأن " الدولة" التي في هذه الحالة يمثلها رئيس الجمهورية، تعطى حق الولاية لمن كان وليه مجهول المكان أو غائباً أو لا ترجى عودته، فلا مانع لدينا من أن نتعامل وفق هذا الوضع مع أحقية رئيس الجمهورية في إصدار العفو عن منسوبي الحركات المسلحة، ولكن قبل أن نذهب نحو تعارض مفهوم العفو كما أطلقه غندور مع ما هو مكتوب في القانون الجنائي، دعونا نسأل سؤالاً للمختصين: ماذا لو أن أحد المتضررين جاء إلى رئيس الجمهورية حاملاً أدلته بأن أحد المعفي عنهم قام بجريمة ضده أثناء فترة الحرب ولكنه لا يريد أن يعفيه؟! فالنص يقول إن أولياء المجني عليهم الذين لهم الحق في القصاص هم ورثته وقت وفاته(المادة 32-1)، وبذلك تنتفي ولاية الدولةالمنصوص عليها في(المادة 32-3). ثم، إن الصغير أيضاً له حق المطالبة بالقصاص حين النضج وفقاً للنص المشار إليه في(32-2) على الرغم من ربط ذلك برؤية المحكمة، وبالتالي فإن هذا النص وبشكله الحالي يضع عقداً كبيرة أمام منشارٍ صغير!
وحول تعارض النص القانوني مع تصريح غندور، لفت إنتباهي البند 6 من نفس المادة والذي يقول: (المادة 32-6) لا يجوز الرجوع في العفو إذا كان عفواً صريحاً صادراً عن رضا.
أنا لست من محترفي القانون وليس متخصصاً في القانون الجنائي، ولكن، ووفقاً للحدس السليم، ألا يشكل هذا البند تعارضاً بين تصريح السيد غندور والقانون، ثم، إلا يشكل تعارضاً بين النص والممارسات والأقوال والأفعال التي تصدر من الدولة، كأن يلغى مثلاً العفو بسبب عدم موافقة أو امتناع شخص أو مجموعة عن الالتزام بعهد ما! فقد قال السيد غندور بالنص: ولكن في آخر الأمر نكصت حركة العدل والمساواة عن الاتفاق والتوقيع لذلك توقف العفو. فتوقف العفو ليس بسبب قضية جنائية جديدة أو بسبب تغيير القانون، بل فقط، بسبب نكوص هذه المجموعة عن الاتفاق، وهذا يعيدنا إلى الفرضية القائلة بأن العفو في مفهوم رجال الدولة السودانية ونسائها، ما هو إلا مفهوم تحفيزي يُعطى أو يمنع وفقاً لرؤية المانع والعاطي بحيث لن يلتزم بالقانون إن هو رأي- حسب نظره وليس حسب القانون- أن هذا الحافز غير مستحق، وبالتالي فإن هذا المفهوم ليس مفهوم قانوني يستخدم لدرء مفسدة أو جلب الخير، بل هو مفهوم قهري يستخدم كما العصا والعصا طبعاً لمن عصى!
يقول الأستاذ الأستاذ أحمد الكبيسي المحامي في تعريفه للعفو العام: أن العفو العام هو قانون يصدر عن السلطة التشريعية يهدف إلى محو الصفه الإجرامية عن الفعل بحيث يصبح غير معاقب عليه فيغدو كأنه فعل مباح وبه يتنازل المجتمع عن حقه بمعاقبة الفاعل على فعله.
كما يقول الدكتور ضياء عبود من جامعة كربلاء في ورقة بحثية حول قانون العفو العام العراقي في العام 2012 نشرت في نفس التاريخ ما يلي: إجراء بمقتضاه تعطل الدولة الآثار الجنائية المترتبة على الجريمة ويقتصر أثره على الجرائم الواردة بالقانون دون غيرها فهو مرتبط بالجرائم وليس مرتكبيها.فإذا ما صدر القانون ترتب عليه سقوط جميع العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية، ومحو جميع الآثار المترتبة على الحكم الصادر بالإدانة، ويكون بمنزلة حكم البراءة، فلا تعد الجريمة المعفو عنها سابقة في العود، إذ يترتب على ذلك انتفاء الركن الشرعي القانوني للجريمة، ولا يكون له أثر على ما سبق تنفيذه من أحكام، فهو يزيل الصفة الإجرامية عن الفعل ويحيله إلى فعل مشروع، إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك صراحة.
هذا التعريفان، يوضحان بجلاء مكامن النقص في مواد القانون الجنائي الخاصة بالعفو، كما يبينان الخطأ القانوني المقصود أو غير المقصود، والذي يجعل الدولة، في الحالة المشار إليها بعاليه، تتعامل مع العفو كالعصا، فبحسب تعريف الدكتور ضياء فإن العفو يسقط صفة الجريمة عن الفعل المعني، أي، انتفاء الركن الشرعي القانوني للجريمة فكيف يستقيم أن يصدر العفو ثم يتوقف هكذا ضربة لازب، وما هو المسوغ القانوني الذي يمكن رئيس الجمهورية من منع العفو بعد صدوره. وكيف يضمن المعفو عنهم- في حالة الحركات المسلحة في السودان- استمرار العفو وعدم إيقافه، إن اختلفوا في أي مرحلة من المراحل مع رئيس الجمهورية الحالي أو من ينوب عنه، أو في حالة استمرار القانون بنفس الكيفية التي هو عليها الآن؟!
وجدير بالاعتبار أنه بالرغم من أن الدستور الانتقالي 2005 وضع ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية تفاصيل العفو العام وفق المادة (58-1 ط) بأنه: يصادق على أحكام الإعدام ويمنح العفو ويرفع الإدانة ويخفف العقوبة وفقاً لنصوص هذا للدستور والقانون القومي. إلا أنه صمت هذا النص كلية عن أي اختصاص للرئيس يخول له منع أو إيقاف العفو أو مراجعة القرار إن هو صدر.
ما يؤكد فرضية مقالي هذا، سؤال آخر ضمن نفس الحوار، جاءت بإجابة ربما تضع القانون والدستور ومنسوبيه في حيرة بالغة، كونها أولاً تصدر من رجل لا علاقة له لا بالتشريع أو القانون، وكونها ثانياً توضح كيف تدار أمور الحرب والسلم في بلادنا، فقد سألته الصحفية النابهة مها التلب بالقول: هل نتوقع عفواً عاماً في ظل أجواء الحوار والتفاوض؟
فأجاب سيادته دون مواربة: الرئيس وعد بأن العفو العام جاهز وقتما جنحت الحركات المسلحة إلى السلام.
شكراً سيادة الوزير غندور، فقد فهمنا متى سيحل السلام، ولكن تعذر علينا أن نفهم كيف تعرِّفون الجنوح للسلم والجنوح للحرب وهل الشجار على السلطة داخل صالات الفنادق في الخرطوم يعتبر جنوحاً للحرب؟!