عندما تنطفئ الحضارة

 


 

 

 

" هكذا تفعل الحضارة بالإنسان، تستهلكه كمادة خام، وتصنعه إنساناً متفوقاً، ويخرج منها مُتبخر الطاقة الإبداعية. يظهر بعدها على السطح إنسان يُتقن التمثيل ويؤدي كل الأدوار بدءاً بالصعلوك وانتهاء إلى الإمبراطور "

هشام علي حافظ

جودت سعيد

خالص جلبي

(1)

لن نرضى حتى بالعشى الليلي، التي تريد مؤسسة الإخوان المسلمين أن تُسلمنا عصاه، ليسهُل قيادنا.

للعيون الخمرية اللون أن تستقبل الوعي، وترتقي لنكون أهلاً لصحبة رفاقنا في الإنسانية. لينتهي وإلى الأبد سلطة من لا يستحقون. ليس هناك مرضٌ عُضال، يوصمون به كل الأجيال السياسية التي خلفت الاستقلال، بل هم وحدهم أصحاب الداء الذي لا شفاء منه. جربٌ أحاط بخلايا العقول التي أنبتت قصة المُرشِد والتوابع، الذين بسطوا سلطة الهدم.

(2)

أمامنا في كل وقت دولاً قامت من القاع، ثم نهضت. العمى هو حال المسميات العديدة للإسلاميين الذين يزعمون أنهم الفئة النّاجية، وأنها صاحبة الحق في المطالبة بدم " عثمان ". لم يكن الديّن في السودان في مِحنة، حتى قام من أموات التاريخ من حملوا المصاحِف على أسنّة الرماح، ويقولون بملء الأفواه " الشريعة هي الحلّ "! 

عندما استدرج الإخوان سلطة مايو وانفردوا بها لإعلان الشريعة السياسة، حتى انفضّ سامر الحياة المدنية، والسلم الأهلي، وصارت المقولة التي تهزم الحضارة القانونية هي السائدة:" الاستئناف بعد الجلد " هي سلطة الإرهاب الحقيقية، وبذرة المشروع الإرهابي الكبير الذي التقط جماعة البؤس الإخوانية قفازه وصعد مُطالباً بالخلافة الإسلامية!

من كان يُصدّق أن حفنة طُلاب إخوانيين سيتسلمون السلطة قهراً وبليل في بلد ذاق الديمقراطية منذ 1954؟ . معلوم بالضرورة ألا سابقة ديمقراطية للسودان في تاريخه قبل الحكم الثنائي. وأن للديمقراطية الحقيقية مئات السنوات من الحروب والثورات حتى وُلدت أوروبا جديدة.

(3)

تاريخنا ممتلئ بالتجارب الفطيرة. حال كل الدول التي تغتال المفكرين، عندما يقولون كلمات الحق. ولكن الإخوان جاءوا من حيث لم نحتسب. جاء القتلة بثوب الرُهبان ويدّعون أنهم يقطنون السكن العشوائي مثل المهمشين!، أو الذي قالت أمه ذات يوم أنه جاء من انتداب الخليج وسكن معنا في غرفة واحدة هو وزوجه. قال أحد قادة الانقلاب الإنقاذي " نحن نصرف مرتبات الوظيفة العسكرية " دون غيرها!

ويا لبؤس التشبيه. ذات الوظيفة العسكرية التي خرقت الدستور، وذاع من أذاع " إنهم حملوا رءوسهم بين أيديهم "!!. قال قائد منهم: " حضرت من الجنوب، وقضيت شهراً في الأبيض تمويهاً " !!!

نعم كان تمويهاً أن يصرف مرتب الوظيفة العسكرية، حتى يُعد المجلس تسجيلاً له، وهو يتحدث عن قضايا عادة يتحدث عنها كل الانقلابين في التاريخ: جئنا نُزيل الفساد، ولكننا غُصنا فيه أعمق!

لقد استطاع الكاتب الروائي الفخم " الطيب صالح " أن يُنزل من عبقريته عبارة بليغة  "وصفاً وختماً ":(من أين جاء هؤلاء؟).

(4)

لقد تفاءل الصادق المهدي، حفيد الإمام، بأن تتنزّل الإنقاذ كلوح الزجاج، وأن " كوديسا" سودانية كان يراها ستُجنبنا الفوضى الصومالية. نعم أراد المهدي أن يُجنب القتلة ثارات القبيلة التي نهضت من مدافن التاريخ، بعد أن أزكتها الإنقاذ، وصارت القبيلة عنوان الهيئة التي تُنظم الأفراد في المسميات الجديدة لحملة الإسلام على أسنّة الأغراض، وهدم الدولة وما عرفنا من مؤسسات، وبيع الوطن أراضيه مغانم، وماله فيئ، وبساتينه للنار، أو لتربية النفرات الجهادية للمهووسين في أطراف الأرض.

نحن في حقيقتنا دولة مُستضعفة، وليس من داعٍ لنتولى توحيد أهل القبلة، فليست لدينا كعبة مُشرفة، وليس لدينا أزهرٌ شريف، وليس لدينا مَسجدٌ أقصى. نحن على الهوامش والتخوم. نقتل مُفكرينا على قلّتهم، ويبتاع الأهالي المياه الملوثة من ماء النيل وهم على طرف كيلومتر أو اثنين من النيل العظيم، بعد ربع قرن من حكم الإخوان المسلمين!

هذا هو اليوم الذي يتعين أن نقول فيه حقيقة واحدة: أن الأمر قد تمَ، حين قال يسوع المسيح على عود الصليب: " يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون "،

ولكننا نعرف أن بين أظهُرنا طغاة، يدرون ما يفعلون، ويعرفون أنهم قتلة، حتى فيما بينهم. لقد ابتاعوا آخرتهم بدٌنياهم. ارتفعت السيقان عن عِظام الشيطان، فهم لا يريدون خيلاء النعيم، جباههم ناتئة بصنيع الدنيا ليظهروا تقاة وأهل آخرة، وهم يكنزون في قلوبهم القول الحق:

في سبيل الله لم نقُم لنرفع اللواء

 نعم لدنيا قد عملنا نحن للدين خواء

 فليعد للدين مجده وتُرَق منا الدماء

(5)

لكل أجل كتاب، وتجمعت " الغبائن " بعضها يحمل البعض الآخر. الخوف والرُعب من غليان الجماهير هو الذي جعلهم يتخبطون من المسّ. لقد اختبروا أن الحُشود التي التفّت من حولهم أهل منفعة، وليسوا " أهل حارة "وإن اليوم الموعود قد أطلّ فجره الدامي. وآن لأبناء السودان أن يتمدد الوطن الجريح بين أيديهم، بعد أن خربه القتلة. ليسوا كذبة فحسب ولا قاطعي طريق، بل هم مُجرد قتلة، يقتلون وبفجور يُهللون باسم الله.

يبدو أن المهرجان الهزيل الذي أرادوا به الانفتاح، وإنهاء الحصار، لم ينطلي على أصحاب الشأن من وراء بحر الظُلمات. وأن تمزيق الوطن ليكن لقمة صائغة لإرهابيي العالم، كان له ثمن، غير ما كانوا يحسبون. لقد نفذوا مطلوبات الفوضى الخلاقة بلا عراك. ومن بؤسهم كانوا ينتظرون " رد الجميل "!

(6)

لن نقوم بجرد الحساب، فلم يعد هناك ما ينتظر الإحصاء، بل ينتظر الوطن سواعد وطنية، تبني على رشدٍ من معرفة ونقاء خالٍ من الفساد والرِشوة والتمكين ، وأن يقوم التعليم على أسس جديدة، أن يعود للسودان لغة إنكليزية وعربية على أكتاف بعضها. وأن يكون القانون عادل مُشتمل لحقوق الإنسان ومواريث الإنسانية، ويتم دفن كافة الدساتير الإنقاذية وقوانينها في مزبلة التاريخ، وليذهب رجالها ونساؤها لحاضنتهم التي ابتنوا مجدها، غير مأسوف عليهم. وأن تُغادر القبضة الأمنية أصحاب الرأي لتذهب من أجل الوطن وضد الذين دمروه. وأن يعيد الاقتصاد دورته من عند ما وصلت الإنسانية. لن يعود مشروع الجزيرة لحاله التي كان عليها قبل ربع قرن، ولا عودة للري الانسيابي، بل أساليب الري الحضارية، وقسمة المشاريع مع أهلها بالعدل. ووقف الجبّاية التي هدمت الاقتصاد الزراعي والصناعي. وأن يُمجّد الاقتصاد المُنتجين ويحفّزهم، وأن تذهب الولاءات الطائفية إلى مكانها الطبيعي عند المحبين وأوكار المريدين، وليترك قادتها أمر الدولة وتسييرها، ولينهض الشعار الحقيقي:

" لا قداسة مع السياسة "

وأن تكون الشفافية ديدن أهل العمل العام، الذين يخدمون المواطن، لا ينهبونه. انتهاء الصرف على جيوش المتعطلين والمتعطلات المتضخم في وظائف الدولة الفدرالية وفي الولايات. ومحاسبة كل من أجرم في حق الوطن والمواطنين والمواطنات.

 عبد الله الشقليني

7أكتوبر2015

abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء