الحوار الوطني.. الإجراءات سبيل للمخرجات (1)

 


 

 

أولاً لابد من التأكيد على أن حوار المؤتمر الوطني الذي أنطلق بقاعة الصداقة في العاشر من أكتوبر 2015، يهمنى كمواطن سوداني ليس من جانب كونه حواراً وطنياً حقيقياً يفضي لتحول وتغيير مرضي، ولكن من جانب أنه لابد سيؤثر على خارطة السياسة السودانية ربما لعقود وهذا ما ستسفر عنه الأيام. وهنا لابد أن أشير لبعض الأقلام التي تخلط بين الحوار كإجراءات، وبين الحوار كمخرجات ونتائج  ستنعكس على حياة السودانيين عامة، ففي اعتقادي أن جمع مقدر من المعارضين لهذا الحوار لا يرفضون مبدأ التحاور لتجاوز الأزمة القائمة، ولكنهم يرفضون إجراءاته وطريقة إدارته، وذلك وبشكل أساسي لانعدام الثقة في المؤتمر الوطني وما يرمي إليه من خلال إصراره على المضي قدماً نحو حوار وفق ما يشتهي وتشتهي قياداته ومن حولهم من المنتفعين من الوضع الراهن، لا وفق منطق التوافق الذي يجعل رفضه من جانب القوى المعارضة فكرة غير صائبة.

 إن الحوار الحقيقي يجب أن ينبني على الإطمئنان من جميع الأطراف لسلامة الإجراءات التي تجعل من رؤيتهم جميعاً محل تقدير، وليس بالضرورة محل إنفاذ، وهذا ما جعل السيد الصادق المهدي أو قيادات الجبهة الثورية وقوى الإجماع يشككون في جدواه، كما جعل جماعات قريبة من المؤتمر الوطني على المستوى الفكري، ساخطين ومنسحبين في آخر اللحظات، حيث تركوا مقاعدهم خالية إلا من مخلفات ولائم المتحاورين التي ينش عليها الذباب.

إذاً، الاطمئنان يرتبط بالإجراءات، والرؤى ترتبط بالمخرجات، والإنفاذ يتصل بالآليات، والحال كذلك، فإن انعدام الثقة هذا مردَّه للتجارب المريرة والأسيفة للأطراف الرافضة لمثل هذه الحوارات التي تبدأ بإجراءات عقيمة، وتتوصل لرؤى سليمة، ثمَّ تفضي إلى لا شئ ومنها: اتفاقية السلام من الداخل 1997،  إتفاق القاهرة 2005، إتفاقية أبوجا 2006، سلام الشرق 2006، التراضي الوطني 2008، وأخيراً إتفاقية الدوحة 2011، حيث لم يكن المؤتمر الوطني أميناً على العهود والمواثيق وحيث لم تكن هناك آليات واضحة لإنفاذ ما توصل إليه المتفقون، فحتى إتفاقية نيفاشا نفسها لم تسلم من الشد والجذب والخلافات بسبب عقم بعض الإجراءات التي سبقتها وضعف الآليات التي وضعتها على الرغم من سلامة الرؤية المرتبطة بها. والشاهد أن أغلب الرافضين للحوار اليوم هم ضحايا هذه الإتفاقيات مع أن العامل المشترك الأوحد هو وجود المؤتمر الوطني في الطرف الآخر، فماذا فعل المؤتمر الوطني ليزيل هذه المخاوف، وما هي الضمانات التي قدَّمها ليعبِّد طريقاً للثقة بينه والمعارضين، ويهدم جُدُر الشك التي باتت ترتفع كل يوم حتى كادت أن تسدُّ أفق التلاقي؟! ما فعله المؤتمر الوطني بدأ منذ إطلاق الوثبة في يناير 2014، فقبل المؤتمر الشهير الذي جاء بلغة غريبة ومصطلحات صماء، كانت هناك أماني في أن يحمل هذا الأمر "مفاجأة"، ولكن المفاجأة لم تكن غير ظهور الشيخ الترابي لأول مرة بدعوة من المؤتمر الوطني!

 ولا أذيع سراً إن قلت إن أغلب أماني المخلصين للقضية السودانية كانت تنحصر في أن يعلن الرئيس البشير تنحيه عن الحكم وفق مقررات واضحة، أو، إعلان تنحيه عن المؤتمر الوطني، أو على الأقل، أن يعلن فتح حوار دون قيدٍ أو شرط، مع إلغاء كافة القيود على الحريات بما فيها القيود القانونية والسياسية والأمنية، ولكن هيهات، فما طرحته الوثبة لم يكن إلا غابة من الرموز والألغاز الداخل إليها كما الخارج، وهو ما جعل المصري باسم يوسف مقدم برنامج (البرنامج) يصرخ: جاوب على أم السؤال؟! وتكرر الأمر في أبريل وفي نوفمبر من نفس العام دون جديد يذكر، بل استمرت جُدُر عدم الثقة في الارتفاع حتى طالت الإتحاد الأفريقي ومجلس السلم والأمن فخرج بقرار أهم بنوده إعطاء مهلة 90 يوماً للأطراف السودانية بما فيها الحكومة لتنفيذ حوار "منتج". وهنا يأتي السؤال؛ هل ما يقوم به المؤتمر الوطني وحلفاؤه اليوم حواراً منتجاً، وهل الأطراف المتحاورة الآن في الخرطوم هي الأطراف المعنية بكلياتها والمشار إليها في القرار 539؟! الواضح أنه بعد انتظار دام أكثر من عام من الوثبة، وبرغم الوعود والأماني والإعلام الذي سبق حوار السبت، لا مجال للقول بأن هذا هو الذي يحدث، ولا يبدو أن هناك تفاؤلاً بأن يفضي هذا الحوار وفق الإجراءات الحالية إلى أي مخرجات منتجة توقف الحرب وتحل مشكلة المنطقتين ودارفور أو مشكلة السودان ككل، وبذلك عاد هذا الاجتماع بأذهان الناس إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي أعلنته الإنقاذ في عام 1991 وسارت بعده سفينة الإنقاذ لا تبالي برياح التغيير من حولها، إلى أن رست بنا على وادٍ غير ذي زرع، فحتى كلمة "مفاجئة" التي تكررت قبل إنطلاق حوار السبت، لم تفِ بمعناها وكانت كسابقاتها!
نأتي في خاتمة هذا الجزء من المقال لنقول إن الإجراءات المعنية والتي لم تتم، وبخلاف وقف إطلاق النار وعقد الاجتماع التحضيرى الذي تصر عليه قوى المعارضة، والذي يجب أن يعقد  بمقر الاتحاد الأفريقى تحت رعاية الآلية الأفريقية الرفيعة برئاسة إمبيكى، تشمل فيما تشمل:

1-    أن تتم تهيئة المناخ العام من إلغاء القوانين المقيدة للحريات بما فيها حرية العمل المدني والسياسي، وفي هذا الخصوص، لا يكفي أن تطلق الموجهات من على المنصات في حين أن الواقع يشي بغير ذلك.

2-    أن يتم إطلاق كافة المعتقلين السياسيين بمن فيهم من حملوا السلاح وهذا أيضاً يجب أن يتطابق فيه القول مع الفعل.

3-    أن يتم الاتفاق بين الجانبين على مطلوبات الحوار بحيث يقرأ الجميع من صفحة واحدة.

4-    أن لا يكون البشير رئيساً للحوار، فليس من من المنطقي أن يكون الخصم هو نفسه الحكم، بل يجب أن ترأسه وتديره (شخصية قومية) حقيقية متفق عليها.

لا أعتقد أن هذه المطلوبات والإجراءات عصية على التنفيذ إن كانت هناك جدية في إزالة العقبات من الطريق الذي يفضي لحل حقيقي، عبر مؤتمر يجمع أهل السودان، ويقطع الطريق أمام تجار الحروب والمتكسبين من الصراع، ويفتح الأبواب أمام مخرجات ونتائج حقيقية ترضي النفوس وتعيد الحقوق وتبسط العدل والسلام، وهذا ما سنأتي إليه في الجزء الثاني من هذا المقال.
         
            
baragnz@gmail.com

 

آراء