المدرسة الأهلية الوسطى بأم درمان: الغيبة الكبرى

 


 

 


(1)    

منذ مطلع الستينات، وإلى اليوم لم أزل أذكر لجنة تحديد المقبولين في المدارس الوسطى التي انعقدت في مدرسة أم درمان الأميرية الوسطى. وتم توزيع التلاميذ الناجحين على المدارس، وتمّ استدعاء أولياء الأمور لتقدير الرسوم السنوية بعد القبول حسب مدخولهم ووظائفهم. لم يكن التعليم مجانياً ولكن الرسوم وفق الدخل الشهري لولي الأمر . تم القبول إلى  المدرسة الأميرية أم درمان ثم المدرسة الأهلية الشمالية الوسطى ، فالجنوبية قرب منزل الزعيم الأزهري  ومدرسة ود نوباوي ...

(2)

في بداية الستينات تمددت المدرسة الأهلية الوسطى بنين إلى مدرستين، الأهلية الشمالية والأهلية الجنوبية، لكل مدرسة ثلاثة أنهر، وكل نهر ثلاثة فصول ، والمدارس الوسطى كانت في ذلك الزمان أربع سنوات، وبكل فصل أربعين طالباً.

تجاور المدرستين غرباً بعد الطريق حديقة مثلثة، أقام عليها الحكم العسكري الأول جهاز تلفزيون أسود وأبيض على منصة عالية ترفيهاً للعامة من الناس، كانت حكومة برلين قد اهدتها لجمهورية السودان مطلع الستينات، ومثيله كان جهازاً في حديقة المجلس البلدي بأم درمان.
يوجد الميدان الرياضي شرق مباني المدرستين، وهو ميدان كرة القدم المخصص للتلاميذ. وعلى الطرف القصي من الجنوب الشرقي للميدان، كان يقبع " مُدفع رمضان ". كنا نسمعه في كل أم درمان القديمة التي تمتد إلى بانت جنوباً والعرضة غرباً وشارع الموردة شرقاً و"القماير" شمالاً.

(3)

نعود لتاريخ المدرسة الأهلية الوسطى، وقد نهضت فكرتها من بعد إصرار الإرسالية الأمريكية على تعليم أولاد المسلمين الديانة المسيحية، بحكم أنها لن تغير مُقررها التبشيري. وطالبت أولياء الأمور بكتابة تعهد بالموافقة على ذلك أو سحب القبول من التلاميذ  . فتحمس عامة المواطنين وهبوا  لإنشاء  مدرسة أهلية. ذكر البكباشي " محمد نور" وقد كان وكيلاً لمفتش مركز أم درمان، أن ثورة الأهالي قد تمددت وطالبت بانشاء مدرسة أهلية بديلة . وجاء جماعة من الأهالي يستشيرونه، ولم يكتفوا بذلك بل أخطروا "ثابت " نائب المأمور. وقدم الأهالي طلباً بإنشاء مدرسة أهلية. وتم إعلام المفتش. وطلب المفتش شخصين للاجتماع بهم من الأعيان، ووقع الاختيار على السيد إسماعيل الأزهري الكبير "مفتي السودان " والشيخ أبو القاسم هاشم" شيخ العلماء"، ووعد المفتش بعد الاجتماع النظر في أمر التصديق. وتم توضيح أن المواقع التي عرضتها الحكومة غير مناسبة وتم عرض وثيقة للمسؤول الإداري تكشف موافقة أحد رجال الأعمال السودانيين على تخصيص قطعة ارض تسع أكثر من ألف متر مربع، بديلاً عن الأرض الحكومية. وفي اليوم التالي جاءت رسالة  تلفونية من الخرطوم إلى المفتش تأمره أن يمنح لجنة المدرسة أية قطعة أرض يختارونها في أم درمان. تم فتح المدرسة في منزل تبرع به رجل الأعمالوالبر والإحسان " أحمد حسن عبد المنعم "، وكان رجلاً له حماسة وثورية شجعت زملاءه التجار لدعم المدرسة الأهلية. وكتب الشاعر والمهندس واليوزباشي والسفير يوسف مصطفى التّني  القصيدة المشهورة بمطلعها:

بديني أفخر وأبشّر

ما بهاب الموت المكشر

وما بخش مدرسة المبشر


(4)

تم افتتاح المدرسة الأهلية ووضع حجر الأساس للبناء عام 1927. وتم إقامة جمعية لخريجي المدرسة الأهلية لتكون حلقة اتصال بين المدرسة والخريجين. وتم عمل مسرحيات بنادي الخريجين بأم درمان وأسواق خيرية لريع المدرسة الأهلية. نمت المدرسة الأهلية وصارت أماً للمدارس، حتى جاء مؤتمر الخريجين لينشئ المدارس الوطنية. وكان إصرار الوطنيون على الصبر حتى ينتشر التعليم وتأت أكله، مع الأخذ بيد الفقراء والنابهين. وكان لقائمة من الرموز الوطنية شأن في التبرعات والأخذ بيد المدرسة الأهلية. منهم السيد إسماعيل الأزهري والشيخ أحمد حسن عبد المنعم والشيخ سيد أحمد سوار الدهب والشيخ عثمان صالح والشيخ بابكر الشفيع والشيخ الأمين عبد الرحمن والشيخ حسين تربال والشيخ عمر إسحاق والشيخ حامد محمد علي والشيخ محمد حسن دياب والسيد حسن الطاهر والسيد الدرديري محمد عثمان والسيد ميرغني حمزة والسيد عثمان حسن عثمان والشيخ محمد أحمد البرير.

(5)

النظام الدراسي في الستينات كان : أربع سنوات للمدرسة الأولية ، وأربع للمدرسة الوسطى حيث يبدأ تعليم اللغة الإنكليزية ، ثم أربع سنوات للمرحلة الثانوية قبل الالتحاق بالجامعات . قبل أن تلحق التعليم فوضى تعريب المرحلة الثانوية الهمجي الذي تمّ عام 1965 ، على يد وكيل وزارة التربية والتعليم ، بقرار فردي، وجاءت الخيبة الكبرى على يد الدكتور محي الدين صابر من بعد مايو1969، مُطبقاً هيكلة القومية العربية نظاماً دراسياً لما قبل الجامعة في السودان ، وعرفنا لأول مرة جغرافية الوطن العربي ... ، واكتملت الحلقة الشريرة لهدم التعليم بعد 1989، وما يسمى بأسلمة التعليم .

(6)

في كل مرة لا نَملّ الكتابة أننا دون كافة شعوب الأرض، كان ماضي الاستعمار عندنا أفضل للوطن والمواطن  من الحاضر الذي نعيش. لا رؤيا توجه المسيرة، ولا أصحاب كاريزما من المُجددين فلتوا من الاغتيال، فقد كان البناء الاجتماعي والقبلي والطائفي يكره التميّز، ولا يرغب التغيير، وقد ساق المستعمر الأرض وما عليها جبراً لتأسيس بُنية تحتية ،بها طرق ممتدة من المواصلات، تصل منابع الانتاج بدءاً وبميناء التصدير انتهاءً. تم توزيع وتقسيم الأراضي ، وتشييد المباني الحكومية ، واستخدم الإنكليز أموال مصر لدفع تكلفة البنية التحتية بالسودان.

(7)

نسمع كثيراً هذه الأيام عمن يتناول سيرة مؤسسي مؤتمر الخريجين ومنْ قبلهم بأنهم سبب الخراب والفشل الذي نشهده اليوم. ونعرف أنهم أبرياء وأن الداء بيد الذين في عهدهم تمّ استجرار القيّم والأخلاق النبيلة للمجتمع والدولة إلى المزبلة، لينعم من كانوا في القاع بالفيء، ويتركوا  ذئابهم المسعورة بعد أن أصابها داء " الكَلَب " السياسي ،لتعُض بلا تمييز ، حتى يشيع الداء بين الآخرين، ويهربوا هُم  من المحاسبة. لا أحد يُعفيهم من المساءلة والمحاسبة ودفع الثمن. لم يعُد أهل البلاد طيبين، ولن يتنازلوا عن الحق والعدل والمحاكمة العادلة.

هذا ما فعله تنظيم الإخوان المسلمين الدولي داعماً لفرعه بالسودان ، فهبّ نصراؤه من إرهابيي العالم، ووجدوا ملاذهم في دولة، صار أهلها رعايا، وصار الإرهابيون أهل حقٍ وسلطة. ونعرف أن الفرع والأصل لم يكن أصحابهما سياسيين لهم أخطاءهم فحسب ، ولكنهم قتلة ارتدوا لباس التقاة، ونهضوا ليتملكوا الأرض والزرع والضرع ويستعبدوا الناس، باسم العقيدة، التي تمّ جرّها لصراع هدّ سلطتها الروحية الراعية للنفوس، وساد أقل الناس شأناً وارتفعوا بالبنيان ،وكانوا في السابق على حافة الفقر ،حتى كادوا أن يتسولوا .  تعلموا السرقة بدأ من السلطة ثم صعدوا إلى القتل بلا مُبرر سوى الخوف من ذهاب الحكم وعودة المحاسبة. وصار همهم أن يسودوا على الآخرين. هدموا الدولة، وسوّقوا القبلية والعنصرية البغيضة، لكي يعيدوا كتابة تاريخهم الأسود، ليقولوا أنهم مؤسسي السودان، تاريخه وبطولاته. ولوثوا جلال العقيدة، فصار التهليل والتكبير بأصبع السباب، ظناً منهم أنهم باستجلاب الضعاف الراكضين وراء الرزق ، سوف يشتروا الافلات من المحاسبة، وأن أهل السودان طيبون، يمكن أن تنطلي عليهم سلسلة الأكاذيب السمجة، وظنوا بأن التُهم التي تلبسهم، ستستعصي على القانون الحق والقضاء العادل ،ولن ينال منهم أحد، وأنهم مستعدون لفتح السلطة للشراكة عبر مؤتمرات الحوار. وأن الأخطاء القاتلة التي نفذوها وهُم في سُدة الحكم، قد أذاقت أهل السودان في الداخل الويل والمهاجرين في الخارج ويلات عظام. كالكلاب المسعورة، كانوا يسبّون الجميع، فما أكسبوا الوطن إلا كل مُتردية ونطيحة جاءت تتحدث باسمه، ولم يجدوا غير الإرهابيين عوناً لهم، وجاء مُنحرفي النفوس، على سفائن الريح، ينعمون بالسودان بعد أن لفظتهم أوطانهم الأصل. وصار جواز السفر السوداني، شبهة تُحْرِم المواطنين السودانيين الأبرياء من المعاملة الإنسانية.

(8)

تُرى ماذا فعل الإخوان المسلمين الآن بمباني المدرستين الأهليتين بأم درمان ؟ .لقد فعلوا بهما ذات الفعلة التي بموجبها تم إزالة صروح مباني  مؤتمر الخرجين كي لا يكون للوطن ذاكرة .

عبد الله الشقليني
18 أكتوبر 2015

<abdallashiglini@hotmail.com>;

 

آراء