استفتاء دارفور.. هل هو مؤشر لأزمة جديدة؟!
بالرغم من أهمية موضوع الحوار السوداني والذي يشهد أزمات عديدة، ابتداءً من الإجراءات التي تتبعها الحكومة لإنجازه ومروراً بضعف مشاركة الأطراف المعنية،
بالرغم من أهمية موضوع الحوار السوداني والذي يشهد أزمات عديدة، ابتداءً من الإجراءات التي تتبعها الحكومة لإنجازه ومروراً بضعف مشاركة الأطراف المعنية، وانتهاء بتوقعات عديدة للمهتمين بصعوبة وصوله لما هو مرجو من نتائج بشكله الحالي، إلا أن الأيام والساعات تبرز على السطح وبشكل مضطرد، قضايا جديدة تتصل وتؤثر وتتأثر بالقضية ذات الأولوية وهي الحل الشامل للأزمة السودانية.
وكنت في مقالات سابقة قد بدأت الكتابة عن أزمة الحوار التي أدخلتنا فيها الحكومة باصرارها على المضي قدماً نحو إجراءات ووضع رؤى بمعزل عن أطراف مهمة يعتبر وجودها في موضوع الحوار أولويات لا نوافل، ولكني آثرت التوقف قليلاً عند موضوع استفتاء دارفور الذي يبرز هذه الأيام بطريقة ستضع الأزمة على الأزمة، فتصبح مركبة يستعصي حلها في القريب. فقد جاء في الأخبار أن الرئيس السوداني عمر البشير قال إن الاستفتاء الخاص بتحديد الوضع الإداري لإقليم دارفور غرب البلاد سيجري في أبريل المقبل. وأضاف البشير في كلمة ألقاها أمام البرلمان أن الترتيبات تسير بشكل حسن لإنجاز الاستفتاء الذي سيرسي دعائم المستقبل والسياسة الراشدة في هذا الإقليم!
حسناً، لكي تتضح الصورة علينا أولاً أن نسترجع بعض المعلومات المهمة، فقد ورد موضوع الاستفتاء في اتفاقية أبوجا 2006 واتفاقية الدوحة 2011، وأصدر رئيس الجمهورية مرسوماً جمهورياً رقم(4)لسنة 2011م يقضي بإجراء هذا الإستفتاء لتحديد الوضع الإداري الدائم لدارفور، فصدر على إثره بيان مشترك في أبريل 2011، موقع من ثلاثة أطراف ضمَّت العدل والمساواة بقيادة د.خليل ابراهيم، وحركة/جيش تحرير السودان بقيادة مناوي، وحركة/جيش تحرير السودان الأم بقيادة أبوالقاسم إمام، انتقدت من خلاله هذه الأطراف الشكل الذي تنوي الحكومة المركزية اتخاذه لإجراء الاستفتاء، كما أشار بيانهم في (الفقرة 6) إلى أن تحديد الوضع الإداري الدائم لدارفور يتطلب بالضرورة وجود كل أطراف دارفور، حركات مسلحة ونازحين ولاجئين، وأن يسبقه تعداد سكاني سليم ومناخ آمن ومستقر يتاح فيه لشعب دارفور ممارسة حقه الطبيعي في اختيار الوضع الإداري للإقليم. فماذا حدث بعد ذلك؟
ما حدث أن الحكومة المركزية مضت في تنفيذ اتفاق الدوحة بالرغم من استمرار النزاع في بقاع واسعة من الإقليم، وبالرغم من تزايد أعداد النازحين وعدم استقرار أجزاء أخرى من السودان متاخمة للإقليم. بل أخذت الأزمة منحنى جديد إثر نشوب نزاع بين الأطراف الموقعة على اتفاق الدوحة(السيسي/أبوقردة) وهو ما تحاول الحكومة السيطرة عليه بطريقة (بدائية)وغير خلاقة، لأنه بالتأكيد مؤشر ودليل على انهيار الإتفاقية نفسها، وهو ما لا تريد الحكومة الاعتراف به.
إن استفتاء دارفور يتم في ظروف بالغة التعقيد بالنسبة للإقليم وكذلك بالنسبة للسودان ككل، كما أن هناك أسئلة لم توجد لها الحكومة الإجابات المناسبة بعد، فهل أوفت الحكومة بالتزاماتها تجاه تعويضات النازحين واللاجئين وهل وفرت لهم الأمن اللازم، وهل عادوا طوعيًّا إلى مناطقهم، وهل أغلقت المعسكرات التي أضحى دخول بعضها ضرباً من الانتحار، وهل تمت محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في حق أهل دارفور، وهل أجريت مصالحات بين مكونات أهل دارفور؟! كل هذه الأسئلة وغيرها تصبح بدون إجابات ولكن على الرغم من ذلك تصر الحكومة على أجراء هذا الاستفتاء، وهنا يحق لنا طرح بعض وجهات النظر التي من شأنها الإعانة على معرفة الغرض الأساسي من المضي قدماً نحو إجراء لن يأتي بنتيجة.
تقول المادة 76 من وثيقة الدوحة: يجرى الاستفتاء على نحوٍ متزامن في ولايات دارفور في فترة لا تقل عن عام بعد التوقيع على هذا الاتفاق. وبعد مرور العام، سيقرر رئيس الجمهورية، بالتوافق مع رئيس سلطة دارفور الإقليمية، إنشاء مفوضية الاستفتاء والتي سوف تجري الاستفتاء، وتُضّمن النتيجة في الدستور الدائم. ويجري تقديم الخيارات التالية في الاستفتاء:
1- إنشاء إقليم دارفور الذي يتكون من ولايات دارفور؛
2- الإبقاء على الوضع الراهن لنظام الولايات. وفي كلتا الحالتين، يتم احترام طابع الإقليم الذي تحدده التقاليد الثقافية والتاريخية.
مما سبق يتضح الآتي:
1- إن إصدار دستور جديد ليعتبر دستور دائم للبلاد هو إحدى أولويات الحكومة الآن خصوصاً مع إنطلاق حوارها الداخلي الجاري، فقد صرحت بدرية سليمان نائبة رئيس المجلس الوطنى، بأن إجماع الشعب السودانى على دستور دائم للبلاد سيشكل أهم مخرجات الحوار الوطنى، مبينة أن الحوار الوطنى مدعوم بقرارات رئاسية هى وقف العدائيات ووقف اطلاق النار وهى ملزمة لكل الجهات والأطراف بموجب السلطات الدستورية لرئيس الجمهورية(سونا 10/10 /2015).
والمتتبع لبدرية وما تقوم به من نشاطات على مستوى الدعم القانوني والدستوري للحكومات المختلفة، يتبين أنها تقوم بتنفيذ رغبات هذه الحكومات لتعطيها الشرعية اللازمة وفقاً لخبرتها الممتدة في هذا المجال. ولكن ما يجب أن يعض عليه بالنواجذ، هو أن دستور 2005 وعلى الرغم من أنه خرج من صلب إتفاقية ثنائية أفضت لإنفصال جزء عزيز من الوطن، إلا أنه يعتبر دستوراً مقبولاً لأطراف عديدة على مستوى النص، ولذلك المساس به أو نسفه وإلغائه للإتيان بدستور جديد، سيعيد البلاد إلى شدٍّ وجذب هي في غنى عنه، ولذلك الواجب المقدم الآن، التأكيد على أننا لسنا في حاجة للإتفاق على دستور جديد، تشكل له اللجان ويصرف عليه من خزينة الدولة، ويعمل من أجله الخبراء باعتباره مصدر دخل، وتترأس لجانه بعض الشخصيات التي نعرفها ونعرف نواياها لتتصدر صور هذه الشخصيات وكالات الأنباء والصحف والتلفزيونات..لا لا، بل ما نحن في حاجة إليه، هو إصدار قوانين تتوافق وتتماشى مع هذا الدستور، وترسيخ ممارسة لا تنتهكه، خصوصاً وثيقة الحقوق المضمنة به، والتي تأخذ منها القوانين الحالية كل مأخذ، وتمرمطها الممارسات القائمة حد المرمطة. ما تريده الحكومة، هو الاستعجال بالاستفتاء لتضمين نتيجته في الدستور الدائم الذي تنوي العمل من أجله خلال الفترة القادمة، وهو ما يتضح جلياً من خلال تصريح بدرية وغيرها من رموز الحكومة وسعي الحكومة لوضع الجميع أمام الأمر الواقع من خلال إنفاذ مخرجات حوارها الحالي ومن ضمنها الدستور وذلك عطفاً على نص اتفاقية الدوحة نفسها التي ستستكمل شرعيتها بتضمين نتيجة الاستفتاء المقرر في الدستور الدائم.
2- إن أياً من الخيارين اللذين يستهدفهما الاستفتاء، يعتبران في الوقت الحالي وبالاً على قضية دارفور وقضية السودان ككل، ففي الخيار الأول وهو القاضي بإنشاء إقليم دارفور الذي يتكون من ولايات دارفور، سيكون من السهل الحديث عن إنفصال أو حكم ذاتي، وعلى الرغم من أن الإنفصال أو الحكم الذاتي حق أصيل لمن يشاء أو من تشاء من مجموعات، إلا أن هناك شروط يجب توفرها لإيفاء مستحقات هذا الحق، فكيف يستقيم أن تقرر مجموعة واحدة هي نفسها منقسمة على نفسها وفق إتفاقية منقوصة، في مصير شعب وبلد كامل؟! ثم كيف يستفتى من يبحث عن شربة ماء ليروى عطشه، ومن يعيش في معسكرات النزوح بحثاً عن أبسط الحقوق بل بأدني مستوى من مقومات للحياة؟! هذا إلا إن كانت الحكومة والسلطة الانتقالية تريد أن تستفتي سكان المدن الكبرى التي تسيطر عليها حصراً، ثم تستفتى قلبها من بعد، لتقرير نتيجة هذا الاستفتاء.
أما الخيار الثاني فمن أغراضه إن ساد، توزيع المناصب والوظائف بين المصطرعين، وهي عادة الحكومة التي درجت عليها كلما وقعت مع فصيل، وهو ما يؤكده ورود النص في البند 83 من الوثيقة: في حالة تكوين ولايات إضافية، تسمى الحركات مرشحين اثنين ويوافق عليهما رئيس جمهورية السودان بوصفهم ولاة مكلفين يتولون تسيير اثنتين من الولايات الجديدة بصفة مؤقتة لحين إجراء الانتخابات. يأتي هذا النص على الرغم من أن هذا الخيار إن تم، سيطعن في واحدة من أهم بنود إتفاق الدوحة نفسه، فقد جاء في البند 79 من وثيقة الدوحة أنه: إذا أدت نتائج الاستفتاء إلى الإبقاء على الوضع الراهن، تستمر سلطة دارفور الإقليمية بوصفها الآلية الرئيسة لتنفيذ هذا الاتفاق لفترة أربع سنوات من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق.
الغريب أن موضوع الاستفتاء جاء بناء على ما ورد في البند 75 القاضي بتقرير الوضع الإداري لدارفور، فكيف تستمر السلطة الإقليمية وقد انتهى أجلها وفقاً لنص الوثيقة نفسها، بل كيف سيقوم الاستفتاء وتنفذ بعض مستحقاته إن كانت بعض نتائجه ستكون مجافية للوثيقة ومتناقضة وغير مستوفية للمشروعية؟!
baragnz@gmail.com