امرأة العزيز للشاعر محمد المهدي المجذوب

 


 

 

كتبها الشاعر عام 1943
القصيدة من ديوان الشاعر " نار المجاذيب "

(1)

للشاعر قدرته على استجرار المُخيّلة ، واعتصار الكائنات المجاورة لتمهيد الطريق أمام  البُرهة المُبدعة لتتجلى، رغِب هو أم لم يرغبْ، فإن التصادم الخلاق يأتِ مثل ومضة الشُهب ،منْ يقبض عليها ، يمتلك قدرة التفكيك وإعادة التركيب المُدهشة. لذا من الصعب علينا تصور ما يدور داخل ذهن الشاعر الخلّاق ، حين يستجمع الخواطر الشاردة ، ويلُفها بخيط الوهم الرفيع.  

(2)

نختار أبياتٍ من القصيدة لنعيد النظر الدرامي لأحداثها من خلال ثغرات الشِعر ، ورسم معانيه الهلامية وهي تجري على موسيقى القريض ، وصناعة موسيقى الكلمات . وهي لغة أخرى لا نستطيع أن نُحاكي مسيرتها ، فلا هي قصة ،ولا هيّ وقائع . لا نُكشف حياة القصيدة ، ولا نأمل قراءة نفس الشاعر وخباياه الدفينة. فهو في بستانه الملائكي ، لن نُزيحه من كُرسي الشِعر وملكوت الكلمات الساحرة، فهو شاعر له وهجٌ و ثقلٌ وسعة وغزارة انتاج مُذهِلة في إبداع اللغة وصناعة المعاني والأحداث عبر الصحو وفي الأحلام .

(3)

أيمكننا أن نقرأ سيرة امرأة العزيز الأخرى في قصيدة تشهد بالعشق الأسود في ليل متلوِن بالغرائز ، بين " عزيزٍ " نائم " وامراته الصاحية والليل كساء؟. فمال شاعرنا يُكشفُ خطيئةً كادت أن تُحاكي القصّة الواردة في تاريخ الناموس القديم. ليس بطل الأُقصوصة الشِعرية نبياً ،تُلاطفه الملائكة، ولا تقيّاً تُحْصِّنه أوراده. فهو من طين لازبٍ وعجين يُحسّ. أن الدنيا تذوب حُسنا وتنضحُ ألقاً . عاصفة لولبيةصامتة وهمساتٍ تدور . وتنفتح مصاريع الأبواب المغلقة ، ولكنه ذنب الذي تتكوّر قرب حية ناعمة، تتحرك هادئة، تبُث روائحها المُغرية. صليلها يخيف ، ونظراتها طاقة نفسية منوِّمة. وهو فتىً تشتجر في نفسه النقائض كلها :

نَهْدٌ يُمازحُ ظلّه  أَلقٌ .. في سمرةٍ كالفجر نَعْسانا

وعلى خدودِك بَهجةٌ وهوى .. ضحِكتْ به عيناكِ عُريانا

والكرمُ أَنوارٌ مُشَعْشَعةٌ .. في ناظريكِ ترِّفُ ألوانا

ما بال ثغركِ رفَّ مُنفرجاً .. أّيُقبِّلُ الأطيافَ وَلْهَانا

كالزهرة البيضاءِ باح بِها .. كمٌ سَقاها الطَلَّ رَيَّانا

(4)

امرأة العزيز تعاود نهجها منذ التاريخ القديم ، إلى أن دقّت ساعة الحرب الكونية الثانية ، فانكشفت الدُنيا. وبان زُخرفها والنقوش الملونة والدم. مصنع " كوستي " يعُبّ من اللّحم المُعلب لجنود "العلمين"، الذين تدفقوا لحرب الصحراء وثعلبهاالماكر يقرأ الرمل ويرسم خديعة الحرب.

نعود لصاحبنا في عالم القصيدة الآخر، تطرُق قلبه المطارق لتُعجِّل نبضاته.وصعدت الرغبات طامحة بلا حدود. ها هُنا الكأس المُزججة تورق من جديد،فالندى أصدق دليل . و" زليخة " في القصِّ المقدّس قد هامت بفتاها حُباً ، بعد أن كَبُر عندها طفلٌ غريبٌ، أرادت أن تُجدد ناموس الحياة الرتيبة التي كانت تحيا. فالمحبة نمتْ وربتْ وازدهرت ، وتفجّرت الرغبات العميقة التي لا تعرف الأسوار ولا الموانع، في تضادها مع الأعراف. وللفتى النبيّ وَسامةٌ وحُسنٌ وفتنة لا ترتوي.وبطل القصيدة ، ساقته الأيام لمصيره، لا تمنعه نبوة وقد وقف عارياً من كل شيء إلا اختياره. والنبيّ من قبل وقف ذات الموقف، بل كاد أن ينهار حين همّت به و همَّ بها ، ومنعته قدرة ربه ، لا أشواقه ولا رغباته .

(5)

طَفَرتْ دُموعي لا أُميِّزها .. ولَمَستُها فوجدتُ أحزاني

عَتَبَتْ عليّ وَبِتُّ أسمعُها .. تبكي عَلى غَدري ونِسياني

الدَّمعُ يشفيني كعَاتِقَةٍ حمراءَ .. مثل مَدامعي ودَمي

**

ووجدتُ سَمعي بَعدَ غَفلَتهِ .. يُصغي إلى صوتٍ يُناديني

صوتٌ وراءَ النَّفسِ مُنتَحبٌ .. مُتقَطِّعٌ في صدرِ مَغْبُونِ

وأَضاءت عينيّ بعدَ ظُلمَتِها .. أَرنُو إليها وهي تَدْعُوني

**

وتُلِحُّ فَهي كَوردةٍ فَتقتْ .. أكمامُها في النُّورِ تَحْتَدِمُ

وجَهِلتُها وحَسِبتُها وَهَمتْ .. بي كم عَلِمتُ فَشاقَني الوَهَمُ

**

ما بالها أرختْ مَحاسِرها .. ورَنتْ إليَّ وَحُسنَها غَرِدُ

أَأَتى الربيعُ بغير مَوعدهِ .. وَروَاؤها مِنْ مائهِ يَرِدُ

وتجرَّدتْ فكأنها ثَمَرٌ ..في نُضجه الفوَّار يَتَّقِدُ

**

أوأنتَ كنتَ هُنا ومن عجبٍ .. أَني أشحْتُ ومِلتُ أَضَّجِعُ

**

وأَفقتُ أُبصِرُها وأَعرفُها .. وبِها وبِي مِن شَهْوةٍ فَزَعُ

أَو تَذكُرينَ وقد لعِبتِ به ..حتَّى أَسَاغَ لحبكِ البِدَعَا

قد عاد للمحراب منكسرا .. يُخفي الجراحَ ويُظهرُ الوَرعا

لا تَسأليني عن مَصَائرِهِ .. بعدَ القَطيعةِ واسألي الوَدَعَا

**

أَجْرَى بِغُصنِكِ مِن شبيبتِه .. ما لَيسَ يَمْنَحُه فَتَى الحُلُمِ

فدعيه في محرابه أَسِفا .. ليذوقَ فيه حلاوة النَّدَمِ

الحورُ تُحْسِنُ ظنها بفتى .. متَأَثِّمٍ كَحَمامةِ الحَرَم

**

قيثارُك الهتّافُ ما بَرِحَتْ .. أوتارهُ تَتَذَوَّقُ الفَرَحَا

إني لأَعْذُرُ وَرْدَةً عَرِيتْ .. يُغري الفراشَ رحيقُها نَضَحَا

فَضَحَ النسيمُ غَرامها وسرى .. مُتَحَمِّلاً بالعِطر مُفْتَضِحَا

عبد الله الشقليني

15 نوفمبر 2015

abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء