تحذير ثقافي: هذا الكتاب ضار بالتشويش ومثير للإنتباه

 


 

 

مثلما تكتب مصانع السجائر تحذيرا رسميا بأسم السلطات الصحية أن التدخين ضار بالصحة. فأنا قمين ان اكتب تحذير ثقافي بين يدي هذا الكتاب أنه ضار بالتشويش ومثير للوعي والإنتباه. لأن موضوعه دولة الخلافة (داعش) وإدارة التوحش بأسم الإسلام، و وسيلته التقصي والبحث الموضوعي وعرض الحقائق المجردة، وهدفه المعرفة والوعي والدرس المتأني لسبر غور ظاهرة التطرف العنيف في تجلياتها الفكرية وتمظهراتها السياسية والإجتماعية. ومحاولة تكييفها في سياقها الإسلامي والفكري والإنساني.

هذا كتاب يمضي سربا بين بردة الشاعر وبرادة الحديد، إذ ربما يأسرك سحر البيان من لدن شاعر مفلق عجم حروف المعاني ونثر قوافيه بين ضروب الشعر المختلفة مدحا وهجاءا ونسيبا ووصفا،  واسترضعت قوافيه حليب الرصانة واستدرت بلاغته سحر التعبير، فهو رب الشويهة والبعير إذا سخط ورب القرنفل والخورنق والسرير إذ رضي. وربما استوقفتك سيرة الكاتب العملية فهو دبلوماسي تدرج في سلك العمل الخارجي حتي بلغ مناصب مرموقة منها سفيرا لبلاده في المملكة المتحدة ووكيلا لوزارة الخارجية. لكن حيثيات هذا الكتاب تقف ضد الشعر وضد الدبلوماسية وضد استكانة الحاضر.

ضد الشعر: لأنه لا يخاتل ولا يمضي مثل نفثات التبغ في فراغات الخيال.

وضد الدبلوماسية: لأن لغته لا تحتمل التأويل وحقائقه الصادعة لا تحتمل اللون الرمادي.

ضد استكانة الحاضر: لأنه يفجر الأسئلة المسكوت عنها في المستقبل.

فقد عاد الزمان بالسفير عبدالله الأزرق القهقري فخلع بردة الشاعر وارتدي برادة الحديد، إذ تفتحت اعينه وهو قاعات الدرس بالولايات المتحدة في النصف الأول من عقد الثمانين من القرن الماضي علي معمعان الحراك الإسلامي والعمل الجهادي بين اقليات مهاجرة في منطقة نيويورك الكبري. وشاهد وعاصر كيف تم القبض علي مجموعة من السودانيين بتهمة التخطيط لعمل إرهابي، وستجد عزيزي القاريء في مقدمة المؤلف تفاصيل ربما تطالعها للمرة الأولي عن الخدع والمؤامرات التي ساقها العملاء المزدوجون ضد بعض السودانيين الأبرياء ممن تحلقوا حول الداعية المصري الشيخ عمر عبدالرحمن. يقول المؤلف "لم يكن السودانيون الخمسة الذين اعتقلوا والتقيتهم في السجن المشدد الحراسة في نيويورك اعضاء في القاعدة، بل لم يشكلوا هم حتي منظمة جهادية لكنهم يتشاركون مع مئات الملايين المسلمين في التعاطف مع اخوانهم المضطهدين ويتوقون لنصرتهم". ولم تنطلق شهادتة المؤلف من رصد اكاديمي بارد وتراجم لقصاصات لصحف بل من مقابلات حية ومباشرة داخل سجون نيويورك.

وربما يشب سائل ويسأل مستفسر، لماذا التنويه بموضوع أهريق فيه حبر كثير وطحنت فيه المطابع مئات الكتب وآلاف الأطنان من الصحف؟ وعقدت حوله الندوات وسلطت عليه وسائل الإعلام الضوء الكثيف؟ والإجابة ببساطة أن هذا الكتاب الموسم ( داعش إدارة التوحش) والذي بذل فيه مؤلفه جهدا بحثيا عظيما يتمتع بمزايا جمة تتفوق علي ما هو مطروح في سوح الفكر والتحليل. قال الدكتور مصطفي عثمان اسماعيل وزير الخارجية الأسبق في تقديمه للكتاب "استطيع أن اقول وبكل ثقة أن هذا السفر يحوي الكثير الجديد الذي لم يطرقه الآخرون". وتعضيدا لذلك قال: سبق وأن حضرت مؤتمرا عن الحركات المتطرفة بالمغرب وعندما دار الحديث عن داعش ولم يقدم احد اجابة مقنعة او شافية حتي اطلعت علي كتاب عبدالله الأزرق فوجدتالإجابة.

يعتبر الدكتور مصطفي عثمان مؤلف الكتاب السفير عبدالله الأزرق بأنه امتداد طبيعي للرواد الأفذاذ من الدبلوماسيين أمثال المحجوب وأحمد خير وجمال محمد أحمد لما يتمتع به من مواهب بلاغية وقدرات دبلوماسية ورصانة أكاديمية. ويؤكد أن اهمية الكتاب تنبع من أن مؤلفه عاصر وتابع نشاط هذه الحركات المتطرفة في كينيا وباكستان وتركيا وأمريكا وأوروبا. ومع أمكانية الإختلاف مع تحليلات واستنجابات الكاتب إلا أن مصطفي عثمان يؤكد أنك لا تستطيع إلا أن تعجب بقدرته العالية علي التتبع والتحليل للأحداث.

ويرد البروفيسور حسن حاج علي عميد كلية الإقتصاد بجامعة الخرطوم تميز الكتاب رغم غزارة المؤلفات عن هذا الموضوع بجميع لغات العالم الي عاملين، هما شخصية المؤلف وموضوعات الكتاب. ويقول في شهادته الأكاديمية المحايدة "إن هذا الكتاب يسد ثغرة مهمة في القضايا التي اثارها".

فقد سبغ المؤلف شخصيته وخبرته علي منهج الكتاب وطريقة التحليل لأنه بحكم خبرته العملية ربط بين المسطور والمستور علي قول بروفيسور حاج علي خاصة وأنه تنقل بين العديد من العواصم والبلدان في العالم. أما العامل الثاني وهو موضوعات الكتاب فقد كشف المؤلف عن تحيزات الإعلام الغربي ضد تنظيم دولة الخلافة (داعش)، ولكن يغامر الكاتب بشجاعته المعهودة وهو يؤكد أن هذا التحيز موجه ضد الإسلام في الأصل. ويشير بروفيسور حسن حاج علي الي خطل تصنيف ووضع كل حركات الإسلام في سلة واحدة كما اشار الكتاب، إذ أن الجماعات الإسلامية تتباين في مدي متدرج في فهم القضايا وتنزيلها علي الواقع. واهل الإسلام النصي منقسمون بين فسطاطين السلفية الجهادية مثل داعش وبوكو حرام والسلفية الإصلاحية، وبينهما تنظيمات تميل الي التشدد والوسطية.

يفجر الكتاب قضايا فكرية جمة في إطار تحليله لنموذج تنظيم دولة الخلافة (داعش)، إذا يقدم شرحا يؤكد فيه أن الدولة الإسلامية في العراق والشام أقامت نظاما مطابقا في مؤسساته الإجتماعية والسياسية والإقتصادية للحقبة الأولي للإسلام بما فيها من سبي وأسترقاق. وكما يشير بروفيسور حاج علي كأن (داعش) مسحت بجرة قلم كل جهود التجديد والإجتهاد في الإسلام من لدن محمد عبده ومحمد الغزالي والقرضاوي وحسن الترابي وغيرهم، لأنها عمدت الي تجميد التاريخ في العهد الإسلامي الأول.

لم يغازل المؤلف جحافل الشاجبين والمنتقدين لداعش وهم الكثرة الغالبة مما يؤثرون السلامة والبعد عن التصنيف، كما لم يرتهن الي تهديد المتطرفين بالسنان أو من يسلقونهم بألسنة حداد من عداتهم، ولكنه يقف بما يمليه عليه حياده البحثي واستقلاله الفكري، ولم يتهيب أن يقول (داعش) جزء من حظيرة الإسلام، وربما تكتمل عندها اركان الحركات الثورية. و يري المؤلف أن المغامرة التي قام بها الباحث الألماني يرقن تودنهونفر الي ارض داعش وما خرج به من نتائج وخلاصات تستحق التنويه والإشادة لأنه عمد الي اخراج الحقائق وليس الإستكانة لأساليب الدعاية العمياء، فقد قال تودنهونفر : "إذا اردت أن تهزم عدوك فلا بد أن تعرفه جيدا". ويتفق معه إن داعش دولة مكتملة الأركان وأن الحرب بينها وبين الغرب ستستمر الي عدة اجيال قادمة. ولهذا فإن السفير عبدالله الأزرق أشد قناعة في كتابه الذي بين ايدينا أن افضل السبل لهذه المواجهة الحضارية هي مخاطبة الشروط السياسية والفكرية والدينية التي انتجت ظاهرة التطرف في بلاد المسلمين، وهو لا يستبعد هزيمة داعش عسكريا وطردها من كل الأراضي التي احتلتها ولكن الحرب وحدها لن تهزم الأيدلوجيا لوجود مئات الآلاف ممن يحملون هذه الأفكار وهم يطوفون مختلف أنحاء العالم، ويستدل بدليل واقعي بأن الهزيمة العسكرية للقاعدة في افغانستان ادت الي بروز داعش في سوريا والعراق.

ويتساءل المؤلف عن الأسباب الحقيقة لوجود أكثر من خمسة ألف فرد تركوا رغد العيش في الغرب وانضموا لداعش؟ وهل كلهم هم من السذج و المغرر بهم؟ رغم ذلك ينتقد المؤلف ترخص داعش واستحلالها لدماء المسلمين دون وجه حق، وتجميدها للتاريخ في العصر الإسلامي الأول، كما انتقد الكتاب عدم احترامها للحريات الأساسية خاصة حرية الإختيار ومبدأ المشاركة السياسية والديمقراطية، وكذلك فرضها عزائم بن عمر علي الجميع والغاء مبدأ التدرج في التطبيق والأحكام. وأنتقد الكتاب أيضا سبي اليزيديات واستباحة أجسادهن متعة لمقاتليها وأن هذا الغلو والتطرف قد أحدث تشوها عظيما لصورة الإسلام في الغرب.

يرجح المؤلف بروز (داعش) الي خطل السياسات والتدخلات الغربية في المنطقة وأن الحل العسكري سيفشل لأن السلاح لن يهزم الأيدلوجيا مما يحتم ضرورة مخاطبة الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية وتنخيل المرجعيات الفكرية والفقهية.

هذا كتاب يمشي في طريق ملغوم مليء بالأشواك، لأنه يحاول ان يقدما تحليلا موضوعيا علي ظاهرة معقدة ومختلف عليها بالسنان واللسان، إذا تحري أي باحثالإنصاف غامر باتهامات التعاطف مع التطرف وإذا ساير الشجب والإدانة خرج من ديدن البحث الرصين والحياد الأكاديمي المطلوب. ورغم ذلك يتقحم المؤلف لجج الكتاب وقضاياه المعقدة بشجاعة يحسد عليها وهو غير هياب أو متردد، بل يمشي علي حقل الألغام السياسية والفكرية بتؤدة وحكمة. يجمع هذا الكتاب بين متعة التحليل وسلاسة السرد وعمق التحليل وغزارة المادة والمعلومات وجرأة الطرح وتعدد المظان وتنوع المصادر من كتب ومقابلات شخصية  ومراشد التعليم والتدريب الداخلي في داعش ومراجع فكرية وفقهية وفكرية للتنظيم وقصاصات الصحف والمجلات والمقالات والتقارير المنشورة هنا وهناك.

يقع الكتاب في 284 صفحة وينقسم الي ستة فصول هي:

الفصل الأول عن الإستراتيجية الأمنية والبناء ويناقش الخطة العجيبة والتمدد والتحالفات والدور الأمريكي. الفصل الثاني: من أين أتي هؤلاء؟. وهي العبارة الشهيرة للطيب صالح.  ويتناول الفصل مورد انضمام المقاتلين الي داعش من الجنسين ومن مختلف أنحاء العالم ويناقش بعض الحالات من انضمام الغربيين خاصة النساء ودوافعهن لذلك. الفصل الثالث عن الأسس الفكرية والسياسية والتأصيل العملياتي وهو يتناول إدارة التوحش وهي مرحلة التأسيس والترهيب في فقه داعش وحرب الأفكار، واستمالة القلوب والعقول. الفصل الرابع عن الحياة في ظل الدولة ويتناول إدارة الدولة واقتصادها والقوة العسكرية وشهادات بينامين ايقون والألماني يرقن تودنهوفر ومعاملة الأقليات خاصة اليزيدين وتحطيم الآثار. الفصل الخامس عن داعش والغرب ويتناول جذور الكراهية وحملة تشويه الإسلام في الغرب مع نماذج توضيحية مثل أيان حرصي وحملات السخرية والإزدراء ورد الفعلي الغربي الذي تراوح بين سياسة الإحتواء واستثارة مواجد المسلمين والعمليات العسكرية. اتي الفصل السادس والأخير تحت عنوان الحال والمآل وتناول داعش والعلماء، وداعش حركة ثورية وأخيرا أفكار في الحال والمآل.

صحفي بارز قال انه كتاب مهم لن يرضي عنه مناصرو داعش ولن يرضي عنهاعداؤها.

مثقف بارز قال أنه كتاب مدهش.

بروفيسور حسن حاج علي قال انه شيق ويدفع الملل.

صديق مثقف قال أنه لم يطالع مثله قط في السنوات الأخيرة. وهذا يعني أن القاريء لن يضعه جانبا حتي يقلب صفحته الأخيرة.

مثلما حط رهطه الأوائل خيمة ترحالهم من ديار المجاذيب وهم يحملون القرآن ويحتقبون العلم ومخلاة الشعر وترنيم القوافي علي سهول القضارف الفياضة وضع عبدالله الأزرق ميسم بحثه وجماع خبرته وشكيمته في تقحم صعاب الفكر ومنعرجات السياسة في هذا الكتاب. فهو نتاج سائغ لمعاناة الفكر والجسد،وشجاعة الجنان والوجدان، فقد عكف علي جمع مادته وتحريره وهو في سرير النقاهة من عملية دقيقة غرست مشارط الأطباء في جسده ، ورأيته بأم عيني وهو يصل خيوط الليل مع أضواءالفجر وهو منكب علي البحث والتنقيب والكتابة دون معين سوي همته ومثابرته علي الإنجاز وهي خصلة عرف بها في الصحة والمرض. بقدر احتفاءنا بالكتاب في موضوعه وجدته ومنهجه ولكننا نحتفي ايضا بأنه ثمرة كفاح ومثابرة في قضية معقدة وخلافية لن يخرج منها احد نظيف الثياب وطلبها وهو في ذروة اشتداد العلة وخلايا الجسد تكابد الرهق وهي اشد طلبا للراحة لكنه رجل جبل علي نشدان المعالي فأصاب ما أراد.

 
khaliddafalla@gmail.com

 

آراء