ثمة اختطاف للثورة المصرية!
بسم الله الرحمن الرحيم
وقف شقيقي محمد عباس NASR البلوقر Blogger بإحدى الإصدارات الإسفيرية السودانية موقفاً سلبياً من انتفاضة 30 يونيو 2013 المصرية التي أتت بالسيسي في نهاية أمرها لرئاسة الجمهورية؛ وظل محمد مصراً على أن المسألة مجرد إنقلاب عسكري جاء بدكتاتور على شاكلة حسني مبارك وعمر البشير، وأنه سرعان ما سوف "يتوهّط" في السلطة مستغلاً ا"الشرعية الثورية"، ويشرع في تغيير قوانين اللعبة كما فعل الإخوان المسلمون من قبله، حتى "يتمكن" تماماً ويتحول إلى فرعون آخر يقهر الشعب المصري ويتجبّر ويعسكر الدولة ويجيّشها؛ وربما ينقلب على الجيران بعد ذلك، كما فعل الطغاة مثل صدام حسين، حتى يشغل جيشه بمعارك إنصرافية بعيدة عن القاهرة، وحتى يبرّر سياساته الإقتصادية الخرقاء بضرورات الأمن الوطني التي أملت بعض التحرشات بالجيران، كأنه سيف الدولة الحمداني، مع أنه في الحروب نعامة - (فيما يختص بالعدو الرئيس: إسرائيل).
ولقد اختلفنا مع محمد وناصبناه اللجاجة والمرج لأنّا كنا ننظر للمسألة المصرية من زاوية احدة، وهي أن الإخوان المسلمين خطر وشرّ لا بدّ من التخلّص منه أولاً، وما يأتي بعد ذلك أمر ثانوي، ولكل حدث حديث. وكنا نحسب أن إجماع الشعب المصري الذي شهدته شوارع القاهرة والأمصار والدساكر في الثلاثين من يونيو مشهد ثوري عبقري يعطي الإحساس بأن الشعب يعرف ماذا يريد، وهو في دكة القيادة بلا أدنى ريب، وأنه يستطيع أن يفعلها مرة أخرى إذا تعرضت انتفاضته لأي عملية سرقة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ولقد أطنبنا في تقريظ أهل الكنانة العباقرة الدهاة (الذين لا تفوت عليهم فائتة)، فهم ليسوا مثلنا، إذ صبرنا على الإخوان المسلمين لربع قرن كامل وهم ينهبون البلاد بإسم الدين ويفصلون الجنوب ويشعلون الحروب ويكممون الأفواه ويبطشون بالمعارضين. وعلى العكس منا، وأد المصريون الفتنة في مهدها، (وتغدّوا بالإخوان قبل أن يتعشوا بهم)، وخرجوا للشوارع عن بكرة أبيهم مستغيثين بالجيش باعتباره أحدالمؤسسات القليلة التي لم ينجح الإخوان المسلمون في اختراقها وتزوير إرادتها وتغيير عقيدتها العسكرية؛ وتصادف أن رئيس أركان هذا الجيش كانالفريق السيسي الذي لم يعرف عنه أي علاقة بالإخوان المسلمين، والذي لا يبدو عليه أي تعطش أو نهم للسلطة، إلا ما كان في السرائر التي لا يعلممكنوناتها سوى رب العالمين.
ولم يجد شقيقي محمد من يشاطره رأيه في حركة 30 يونيو، إذ وقف المثقفون التقدميون السودانيون مع تلك الحركة وراهنوا عليها بكل ما يملكون، خاصة عندما واجهتها بالعداء جهات مشبوهة كثيرة مثل قناة الجزيرة ورجب طيب أردوغان والقرضاوي وتنظيم الإخوان المسلمين الدولي، وتشكّكت فيها المخابرات الأمريكية والبريطانية ولم يرحب بها الإعلام الغربي، حيث أنها بعثت الأشواق القومية العربية المعادية للإمبريالية، وحيث أن كثيراً من المتظاهرين كانوا يحملون صور جمال عبد الناصر، وحيث أن ذلك قد ينذر بزلزال في الشرق الأوسط يهدّد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ويهدد المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وقد يضرب مثلاً تقتدي به شعوب عربية كثيرة أخرى ظلت تروم الانعتاق من ربقة الأنظمة الأوتوقراطية، وتنشد الحرية تحت ظلال دولة المؤسسات التي يتم فيها الفصل بين السلطات وترسيخ حكم القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وظل أخي محمد مصراً على رأيه وهو مقيم بأقصى غرب أمريكايناضل من أجل لقمة عيش صعبة المنال كأنه ينتزعها من شدوق الأراقم، فليست له مصلحة مادية في هذا الموقف، ولا يبتغي من ورائه مزايدة تقرّبه من هذا أو تبعده عن ذاك، فهو ما انفك واضحاً في رفضه للدكتاتورية الإخوانية في السودان، على الرغم من تعاطفه مع الشرعية التي جاءت بمرسي العياط لكرسي الحكم، وانقلب عليها الجيش في 30 يونيو حسب رؤية محمد. (وذلك لعمري عناد دمامابي أصيل، نسبة لجد أمي لأمها سيد أحمد أمامة أحد زعماء البديرية الدهامشة بقنتي الذي لاقاه نفر من جهادية الأمير يونس ود الدكيم وبطشوا به دون سبب، وخلعوا عمامته وخنقوه وجرّوه بها، فأقسم ألا يرتدي عمامة بعد ذلك، ولم يفعل حتى توفاه الله بعد المهدية بزمن طويل.)
بيد أن موقف محمد عباس صار يبدو منطقياً شيئاّ فشيئاً. ولقد وقفت ملياً عند حادثة الإعلامي إسلام البحيري الذي حكمت إحدى محاكم الإستئناف بالقاهرة بسجنه لمدة عام، نتيجة لشكوى تقدم بها الأزهر الشريف ضده متهماً إياه بسب المعتقدات الدينية، وهو نفس المصير الذي كان قد حاق بالدكتور نصر أبوزيد أيام حسني مبارك، والذي تعرض له عادل إمام أيام الدكتور محمد مرسي؛ إنه مصادرة لحرية التعبير ليس إلا.
فقد جاء في أخبار رأس السنة أن إسلام بحيري رئيس مركز الدراسات الإسلامية بمؤسسة "اليوم السابع" ومقدم برنامج (مع إسلام) حتى أبريل المنصرم، تمت إدانته بإحدى محاكم القاهرة في وقت سابق تحت مادة "إزدراء الأديان"، وحكمت عليه المحكمة بخمس سنوات سجناً، ثم خفّفت محكمة الاستئناف ذلك الحكم إلى سنة واحدة؛ وكان برنامج (مع إسلام) قد تم إيقافه من قناة "القاهرة والناس" في أبريل استجابة لطلب من شيخ الأزهر.
وجاء الآتي بصحف الخميس 31/12:
(أعربت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان اليوم عن انزعاجها الشديد على استمرار التردّي في أوضاع حرية التعبير في مصر. الحكم بالحبس بسبب آراء واجتهادات دينية يمثل صدمة هائلة وضربة قاصمة لحرية التعبير، وفي القلب منها حق النقد والاجتهاد الديني والأكاديمي، فضلاً عن استمرار إمساك العصا من المنتصف وترك الباب مفتوحاً لما يسمى بقضايا الحسبة السياسية والدينية، حيث ينصّب البعض أنفسهم وكلاء عن المجتمع ويلاحقون أصحاب الرأي أو الفنانين دونما صفة أو مصلحة مباشرة لهم في القضية.)
ونحن، أي المثقفون الوطنيون، لا نحسب أن هذا الكلام يهدف للتعاطف مع الإخوان المسلمين الذين تعجّ بهم السجون المصرية حالياً، إذ أنهم يتجرعّون من نفس الكأس التي كانوا يخططون لإلقامها الشعب المصري، ويتلقون ذات المعاملة التي ظل إخوانهم الإسلاميون السودانيون يعرّضون لها خصومهم منذ ست وعشرين سنة؛ إلا أننا في نفس الوقت نرى أن الحسم المشروع والناجع للإخوان المصريين لا يكمن في تكديس المعتقلات بهم، بل في تقديمهم لمحاكمات عادلة وفق القوانين والتشريعات الخاصة بالإرهاب والمتاجرة بالدين وهلم جراً.
كما أصبح لافتاً للنظر أن حكومة السيسي ليست جادة في الحرب على الإرهاب، فهي لم تشارك في المجهود الحربي الذي تقوم به السعودية وبعض دول الخليج لإستعادة الشرعية في اليمن من براثن الحوثيين المدعومين من النظام الإيراني والمتحالفين مع المخلوع على عبد الله صالح؛ولم تشارك حكومة السيسي كذلك في الطلعات الجوية على معاقل جيش بشار الأسد وعلى دولة داعش بالرقة في شمال شرق سوريا وبالمدن المحتلة بشمال وغرب العراق. ويبرّر نظام السيسي هذه المواقف السلبية بأن الإرهاب الداخلي مازال نشطاً بسيناء وفي غيرها من المدن المصرية بعد مرور سنتين ونصف على انتفاضة 30 يونيو، ومازال الجيش وقوات الأمن المصرية في حالة كرّ وفرّ واستنفار مستمر أوشك أن يرهقها ويفتّ في عضدها؛ وإذا استمرت هذه الحرب مع جماعات الإخوان الشبحية (كالرجل الخفيّ The Invisible Man) فإن الإجراءات والقوانين الاستثنائية الخاصة بالحجر على الحريات سوف تسمتر، متكئة على حجة "الدواعي الأمنية"، كما هو الحال في السودان منذ ربع قرن، أي منذ أن سطا الإخوان المسلمون على السلطةهناك، وكما كان الحال في المحروسة منذ 23 يوليو 1952 حتى إنهيار نظامحسني مبارك عام 2011؛ وهو الحال الذي أبدع أحمد فؤاد نجم في توصيفه:-
(كل الجنود كل الجهود للمعركة
والشعب صاع الشعب ضاع في المعركة
وأكلنا عيش إسود بلون المعركة.)
وفي الحقيقة، تعاطف التقدميون العرب والسودانيون مع إنتفاضة 30 يونيو باعتبارها ثورة ضد الطغيان ومن أجل الديمقراطية، وظنوها ستشرع فوراً في تثبيت دعائم النظام البديل الجديد بإصدار التشريعات الهادفة لخلق مجتمع تسود فيه القيم التالي ذكرها:-
- الضمان الكامل لحقوق الإنسان المصري في التعبير والتنظيم والعمل والعلاج والتعليم والتقاضي والسفر... إلخ.
- الفصل بين السلطة السيادية ممثلة في رأس الدولة والسلطة التنفيذية، أي الحكومة، والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، أي البرلمان الذي يتم انتخابه بشفافية ونزاهة، مع الآليات الكابحة والمحققة للتوازن بين هذه السلطات الأربع checks and balances.
- استقلال الإعلام تماماً، ويمكن أن تمتلك الحكومة قناة واحدة، على نسق هيئة الإذاعة البريطانية، لها مجلس إدارة محايد ومستديم ومؤلف من كافة الأحزاب والاتجاهات السياسية، وليس عشرات القنوات التي تصرف عليها الدولة مثل أجهزة البربوقاندا التي شهدتها ألمانيا النازية تحت إدارة قوبلز، والتي شهدتها الدول الاشتراكية قبل انهيار حائط برلين.
- انتهاج سياسة خارجية تضع مصالح الدولة المصرية في اعتبارها، ولكنها تجعل مصر نصيراً للسلام العالمي وضد مخططات الإمبريالية والصهيونية بالمنطقة، ومتضامنة مع حركات التحرر في باقي العالم، ومع الشعوب المستضعفة المناضلة من أجل الحرية والتقدم، بعيداً عن الأحلاف المشبوهة.
- وجود إيجابي وصحي عربياً وإفريقياً حتى تستعيد مصر دورها الرائد أيام الراحل جمال عبد الناصر الذي فجر الوعي الثوري العربي المناهض للإستعمار ولأحلافه وقواعده، والذي أنشأ حلفاً تقدمياً مع أفضل وأجمل القادة الأفارقة الموجودين في ذلك الزمن- الملك محمد الخامس المغربي وكوامي نكروما الرئيس الغاني، وأحمد سيكو توري رئيس غينيا ورئيس مالي موديبو كيتا؛ كما أنشأ علاقة وطيدة مع الزعيم الثائر باتريس لوممبا محرر الكنغو الذي سرعان ما تآمر عليه الغرب وأودى بحياته (وجاء عبد الناصر بأرملته وأطفاله للقاهرة حيث ترعرعوا وتعلموا وأصبحوا من كبار المثقفين والصحفيين المصريين/الأفارقة.)
لم يحدث أي شيء من هذا القبيل طوال الفترة التي حكم فيها السيسي، ويبدو أن الحكومة تريد أن تلجم إنتفاضة الشعب وتحيلها إلى تغيير شكلي في قمة الدولة، مع الإبقاء على المؤسسات والقوانين الموروثة منذ عهد حسني مبارك؛ ويبدو أنها مكبلة ومثقلة بالاعتبارات التالية، مما جعلها تقدم خطوة للأمام وخطوتين للخلف:-
- لازالت مصر ملزمة باتفاقيات كامب ديفيد التي جعلتها تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، وتتعهد بالسلام الدائم معهاوبعدم خوض أي عدائيات ضدها، وإلا....
- وإلا يتوقف الدعم الأمريكي اللوجستي والاقتصادي لمصر البالغ قدره ملياري دولار في العام، في شكل قمح وأسلحة وقطع غيار وتدريب... إلخ، (الذي لم يفعل سوى إثراء مؤسسة الجيش المدجّن).
- الإقتصاد المصري في حالة إنهيار تام منذ عدة سنوات، فقد أدت الهجمات الإرهابية المتكررة على الفنادق والمنتجعات إلى غياب السواح وكساد السياحة، وإلى تجفيف هذه الصناعة الإستراتيجية وتشريد مئات الألاف من المصريين الذين يكسبون عيشهم منها. ولقد لجأت الحكومة للمؤسسات المالية الغربية التي لا تمنح قروضاً أو تمويلاً إلا بشروط استعمارية قاسية لا تساهم إلا في المزيد من الإفقار للسواد الأعظم من الشعب، والمزيد من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والخنوع التام للرأسمالية الغربية.
- مليارات الدولارات التي ضختها الأنظمة العربية الصديقة لحكومة السيسي كانت مثل ماء في قربة مثقوبة، إذ أنها لم تذهب لمشاريع انتاجية متوسطة وصغيرة تنتعش بها الطبقات الوسطى، ومن ثم تدفع الإقتصاد المصري برمته نحو التقدم والرخاء؛ ولكنها ذهبت لسد الفجوات بجهاز الدولة المترهل، خاصة في قطاعه الأمني من قوات نظامية وأجهزة أمنية تتحجج بأنها في حرب عالية التكلفة مع الإرهاب، ويجب أن تكون لها اليد العليا والنصيب الأكبر من موارد الدولة (المحلية والخارجية).
- وجدت حكومة السيسي التي انبثقت عن انتفاضة معادية للإخوان المسلمين، وجدت نفسها مضطرة للتعاطي مع نظام للإخوان المسلمين كامل الدسم، وهو النظام الحاكم بالسودان الجارالجنب؛ ولقد نجم عن هذا الوضع مواقف متناقضة ومرتبكة ومخاتلة في كثير من الأحيان، إذ لا مفر من تأمين المساندةالسودانية لمصر في صراعها مع الدول الإحدى عشر المشاطئة للنيل، وعلى رأسها إثيوبيا منبع النيل الأزرق وصاحبة "سد النهضة" الذي أشيع بأنه يشكل تهديداً مباشراً لحصة مصر من مياه النيل. وبينما تخطب حكومة السيسي ود الإخوان المسلمين السودانيين، يقود الإعلام المصري حملة للتجهيل والتشكيك في حق السودان في مثلث حلايب الذي احتله الجيش المصري عام 1995 (بعيد محاولة اغتيال حسني مبارك بأديس أبابا التي كان النظام السوداني ضالعاً فيها)؛ بل تذهب تلك الحملة للتشكيك في حق السودان في الوجود كدولة مستقلة وذات سيادة، حيث أنه كان جزءاً من الممتلكات الخديوية في إفريقيا، وقد حان الوقت لاستعادته؛ أي أن طبول الحرب أخذت في الإرزام مستهدفة إثيوبيا، ولا سبيل لوصولها إلا عبر السودان.
- اتخذت حكومة السيسي مواقف مرتبكة أيضاً إزاء مشكلة "سد النهضة"، ولكنها في الغالب الأعم أرخت العنان للاتجاهات الشوفينية jingoistic والعدوانية التي عبر عنها بعض أنصاف المتعلمين بالإعلام المصري؛ ويبدو أنها تخطط لهجمة عسكرية ربما تبدأ بالسودان، (حيث تستطيع المخابرات المصرية أن تدبر إنقلاباً عسكرياً لصالحها كما فعلت فى 25 مايو 1969 وأتت بضباطها فى قيادته – نميري وخالد حسن عباس وبابكر عوض الله ومحمد عبد الحليم)، ممهدة الطريق للزحف نحو التخوم الغربية لإثيوبيا حيث يقبع سد النهضة على بعد عشرين كيلومتراً من الحدود السودانية. ولقد تبلور المخطط المصري في شكل عملية مخابراتية طفحت بها الصحف والفضائيات في الأسابيع القليلة الماضية، وهي ما قيل بأنها انتفاضة لشعب الأرومو رافضة لسد النهضة (تمهيداً للضربة الاستباقية التي ينوي الجيش المصري القيام بها لتدمير ذلك السد). إن شعب الأرومو أقل الشعوب الإثيوبية حظاً من التعليم والثروة، ولا يعيش في منطقة السد التي تحفها الجبال الصخرية الجرداء، ومن وسطها يتجه النيل بسرعة فائقة نحو مجراه الذي يشق السودان. ولا يعرف الأرومو شيئاً إسمه المظاهرات أو المواكب.ولقد أخذت أجهزة الإعلام لقطات لطوابير الإثيوبين أمام مراكز توزيع إغاثات الطعام التي وصلت إليهم بعد الموسم الزراعي الأخير الذي كان فاشلاً، ثم بثت تلك الصور على أٍساس أنها تظاهرات سياسية رافضة لسد النهضة، وهي إفك وفهلوة استخباراتية تدعو للضحك، بل تبعث على الشك في القوى العقلية لمروّجيها.
إن المتتبع لمجريات الأمور بمصر خلال العامين المنصرمين لا يحس بأي وجود لتداعيات الانتفاضة الشعبية الكاسحة التي أرسلت الإخوان المسلمين إلى مزبلة التاريخ؛ فليس هنالك طرح فكري وإعلامي وأكاديمي متماسك للمنهج البديل المفترض، ولا يعرف الشخص المصري العادي شيئاً عن الفلسفات التي عرفتها البشرية التي تخلصت من الحكم الثيوقراطي واتوقراطية الكنيسة، ولا عن مفهوم المواطنة الذي يجعل القبطي مساوياً للمسلم في الحقوق والواجبات، والذي يستطيع بموجبه أن يترشح لرئاسة الجمهوريةشأنه شأن المواطن المسلم. ولم تشهد الفترة الماضية صعوداً للحركة النقابية ومنظمات المجتمع، ولم نسمع بأي مؤتمر عام لمثل هذه الكيانات التي ترتكز عليها الديمقراطية الحقيقية أكثر من الأحزاب. ويبدو لي أن الإخوان المسلمين الموجودين بحرز الحكومة وفي غياهب سجونها لهم أشباح تأتى في الظلام لترسل الرعب في نفوس كثير من المسؤولين المصرين، مثل قادة الأزهر الشريف الذين يلاحقون عالماً ومفكراً موضوعياً وذا إجازات عليا من غرب أوروبا مثل إسلام البحيري، وما كان له ذنب سوى رفع راية التجديد الديني الذي طالب به علماء الأزهر أنفسهم.
أما فيما يختص بسياسة النظام المصري الخارجية، فهي تبعد بفراسخ عديدة عن ما كان يجسده الراحل جمال عبد الناصر أحد الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، والزعيم الملهم لحركة الوحدة العربية. صحيح أن الظروف مختلفة، وأن التاريخ لا يكرر نفسه بالمسطرة؛ وصحيح أن النظام الناصري تعرض لحرق الأصابع عدة مرات جراء تدخلاته الخارجية، من فشل الوحدة مع سوريا والعودة منها عام 1961، وفشل التدخل في اليمن بعد حرب استمرت من 1962 إلى مؤتمر اللاءات الثلاثة بالخرطوم عام 1967 بعد النكسة، ومن فشل لغزو ليبيا الذي قام به أنور السادات عام 1977، ومن هزيمة نكراء في يونيو 1967 أمام الجيش الإسرائيلي.
على الرغم من كل ذلك، يظل عبد الناصر رمزاً للتضامن العربي والإفريقي، ولقد كان عدوه الأساس هو الإمبريالية الغربية وربيبتها إسرائيل، ومن أجل التصدي لهذا التناقض الرئيس دعا الشعوب العربية والإفريقية للوحدة والتآزر مع بعضها البعض: (وحدة الهدف). أما أن تتجه الدولة المصرية الآن لحسم خلافاتها مع الجيران عن طريق الحرب والعدوان فذلك لن يعود عليها إلا بالخسران.
إن المتتبع لما يطفح به الإعلام المصري هذه الأيام من تحريض وتنمر وتهيئة سايكلوجية للاعتداء على اثيوبيا، ربما عبر صفقة مع نظام البشير القابل للشراء تحت كل الظروف، لا يملك إلا أن يتفق مع رؤية محمد عباس بأن ما حدث في مصر مجرد انقلاب عسكري، أتى للسلطة بضابط طموح ضئيل الثقافة السياسية وأداة طيعة في يد الجيش المتضخم والمرفود بالمؤسسة العسكرية الرأسمالية الأخطبوطية، والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية . وإذا صحوتم ذات يوم ووجدتم الجيش المصري على مشارف الحدود السودانية الإثيوبية، فلا تستغربوا؛ فقد فعلها السادات في 21 يوليو 1977 عندما توغل جيشه بمسافة مئتي ميل داخل الحدود الليبية، وبقي هناك لأربعة أيام كاملة قبل أن تجبره الأسرة الدولية على المغادرة في نهاية الأمر.
ما كان العشم أن تستحيل الثورة المصرية إلى ملك عضود، شأنها شأن البلشفية والبعثية، وشأن جماعات الإسلام السياسي التي حكمت بلداً كالسودان وطغت وتجبرت فيه، وأحالته إلى بلقع يباب وأشعلت فيه نيران الفتن الطائفية والقبلية والمناطقية.
كان العشم أن تلهمنا الثورة المصرية بارتيادها فجراً جديداًتعلوه رايات العدالة الاجتماعية وكفالة الحقوق الإساسية، واحترام الجيران والسعي للتكامل والتعاون الاقتصادي معهم، وليس لتصفية الحسابات بالطرق العسكرية غير مضمونة العواقب.
وهكذا، فقد سرق الإخوان المسلمون انتفاضة الربيع المصري العربي في 25 يناير 2011م، ويبدو الآن أن الجيش يتربص بانتفاضة 30 يونيو 2013 التصحيحية، بغية وضعها فى جيبه وتجريدها من مضمونها التقدمي، وكأنا يا بدر لا رحنا ولا جئنا.
والسلام
fdil.abbas@gmail.com