النص التاريخي: ما خفي أعظم

 


 

 

الجميع يفكر في تغيير العالم ولا أحد يفكر في تغيير نفسه .

ليوى تولستوي

أصعب معركة في حياتك أن يدفعك الناس إلى أن تكون شخصاً آخر .

وليم شكسبير

أهم درس يمكن أن تستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من  دروس التاريخ .

ألدوس هكسلي

 
(1)  

لنسأل أنفسنا ماذا نفعل مع التاريخ ؟ .

أهو خبر الأولين وينتهي الأمر  أم هو درس لنا ؟

لنا أن نتخذ ما نراه من المناهج ، ولكن يتعين ألا نحكم على وقائع الماضي بتجاهل تام بمكونات حيز الزمان والمكان التاريخيين. من الأهمية بمكان معرفة الصراعات بين الطبقات الناشئة من بعد عقدين ونصف العقد من سيطرة الحكم الثنائي بعد مجزرة " كرري " إن طبقة جديدة  من التجار تكونت وصارت العليا ثم طبقة متوسطة تشكلت أيضاً من المتعلمين وضباط القوات المسلحة ، وتحتها الحرفيين ثم عامة الناس بما فيهم المزارعين  . لقد أنجز المستعمرون مسح حدود السودان في سنواتهم الأوائل ، وقد كان البلجيكيون والفرنسيون ينتشرون من أجل الاستعمار وثماره . تم ترسيم كلالحدود التي بين الدول التي تجاور السودان " القديم " ،عدا الحدود مع مصر، لأن أمل مصر - الشريكة الأضعف في الحُكم الثنائي - هو أن يعود السودان لمصر وعودة الشعار " ملك مصر والسودان " ليصبح حقيقة .

(2)

بعض من تاريخ نضال الشعوب السودانية ضد الحكم الثنائي :

منذ احتلال السودان عام 1898 م ، وفدائية السودانيون في كرري ، قاومت الشعوب السودانية المستعمر ، وتمكن المستعمر بقوة الآلة العسكرية من حسم الصراعات ، ولكنها لما تزل تتجدد في كل زمان .
أخمدت ثورة علي دينار 1916 .عام 1903 قتل بعض أفراد " دينكا أجار " ضابطاً بريطانياً " الأمباشي باربور ، وأرسلت الحكومة قوة حرقت القرى وقتل الشيوخ وصودرت المواشي .عام 1903 أرسلت حملة للقضاء على تمرد " دينكا أتوات " على نهر لاو وأرسلت حملات عام 1907 و1910 .عام 1903 ثارت قبيلة نيام نيام بقيادة السلطان " ريكتا " بن سلطان يامبيو، ثم ثورة " ود حبوبة " 1908 .تمرد الشلك عام 1915.ثورة الأنواك 1912 .عام 1903 رفض النوبة دفع الجزية المفروضة للحكومة .تمرد في مركز تلودي في جبل براني .تمرد في هيبان 1911.تمرد في توقوي 1910 .تمرد في الطين الأخضر 1914-1915. تمرد مركز كادوقلي في الداير 1904.تمرد في الليري 1906.تمرد في نيانج نيانج 1906 .تمرد في كيله كرون 1910 .تمرد في ميري 1915 .وفي الدلنج تمرد في مُندال 1914 و 1914.في كاندرو تمرد عام 1906.في فاندو تمرد 1908.في كيلا كيدو تمرد عام 1914.في نيما تمرد 1908 حتى عام 1918 .لم يتم إخضاع " التبوسا " إلا عام 1926.ولم يتم إخضاع جبال النوبة إلا عام 1929 .حركة علي عبد الكريم 1900 تمرد ود حبوبة 1908 وأعدمته الحكومة .تمرد عبد الوهاب بجزيرة تنقاسي 1908.تم القبض على الفكي نجم الدين عام 1910 وأعدم .أعدم الفكي عكاشة عام 1912 .أعلن أحمد عمر أنه نبي الله عيسى عام 1915 وأعدم .وأعلن الفكي محمد الحرين عام 1902 أنه المهدي المنتظر وأعدم.تمرد محمد الحاج سانبو في شرق السودان عام 1918 ، تمرد محمد السيد حامد ابن أخت المهدي وفي 1919 أعدم .

ولم يتخلف أحد عن النضال ، منهم من ذهب لحاله في الدولة الإفريقية الجديدة(2011) ومنهم منْ ينتظر في ظل الشعار الخادع ( استفتاء تقرير المصير )
المرجع :
" تاريخ الحركة الوطنية في السودان " 1900-1969 – بروفيسور محمد عمر بشير  


(3)

نعرف أن مادة التأريخ ليست جاذبة ، لأنها لا تغني من جوع . وأن الكثير من أصحاب الأغراض في بلد لا يعرف تاريخه حق عرفانه ، ينتزعون مادة مبتورة الأصل ، ويعيدون خلطها في أزمات الحاضر . كل التاريخ موجود وكثيرون كتبوا عنه ، ولقادة السودان أيام الاستعمار تاريخهم ، به الإخفاق وبه ما يستحق الحفاوة . لا سيما وأن تاريخ الإنجليز منذ كرري كان غليظاً باتراً لأي معارضة ، حتى لو كانت بقراءة " راتب المهدي " الذي ترتب عليه إعدام أبناء المهدي " الفاضل " و"البشرى" و " الخليفة شريف" ميدانياً في معركة كانت تسمى " معركة الشُكابة " من بعد كرري وقبل معركة "أم دبيكرات ". بل ومن بعدهم كل من عارض حكم الإنجليز يتم شنقه في السوق ، كما تم لود حبوبة وغيره في مدن وأرياف السودان ، جنوبه وشماله . وهو الذي بسط سلطته في العقد الثاني من القرن العشرين . وصار غليظاً ليس من السهل معارضته.

(4)

  نقطف من سفر " السودان عبر القرون " للدكتور "مكي شبيكة" : ص 504 – 508:
{بعد أن تم معرفة إعلان حالة العداء بين تركيا وبريطانيا وفي 6 نوفمبر 1914 ، قابل الحاكم العام في نفس اليوم فئة من العلماء وشرح لهم الحالة أيضاً . وفي يوم 8 نوفمبر دعا للسراي المشايخ والعلماء من المدن الثلاثة، وأبان لهم الثمار التي جنتها البلاد من الحكم الحالي ومناصرة حكومته للإسلام والمسلمين. وتحمس كل الحاضرين ووقعوا على وثيقة ولاء وإخلاص ونحا نحوهم أعيان العاصمة المثلثة الذين لم يحضروا الاجتماع، وكذلك فعل زعماء العشائر وأعيان الأقاليم ورجال الدين وكبار الموظفين بالعرائض والتلغرافات. وجمع صاحب "جريدة السودان "كل ذلك وطبعه في كتاب أسماه " سفر الولاء: وورد فيه :
{ حكومتنا العادلة التي لم ير الإسلام والمسلمون منها إلا كل خير ديني ودنيوي ، وجميعنا في استياء من قيام تركيا في هذه الحرب التي نتبرأ منها فإنه لا مصلحة فيها للمسلمين بوجه من الوجوه . وسترون بلادنا هادئة راتعة تحت ظل العلم البريطاني الظافر بالنصر على أعدائه قريباً إن شاء الله " دولة العدل والشرف على سائر رعاياها في جميع أنحاء المعمورة وخصوصاً في السودان بعد أن خلصته من المظالم والاستبداد، وسهلت لنا طرق الحج وزيارة قبر النبي}

(5)

المهدي يهدي الملك سيفاً وحينما مثُل السيد " عبد الرحمن المهدي " .قدم له سيفاً مقبضه وحمائله من الذهب الخالص ، وهو سيف النصر " سيف والده الإمام المهدي ، وقدمه دليلاً على خضوعه وولائه . وألقى كلمة قال فيها إنه يقدم ذلك السيف التاريخي دليلاً على ولائه للعرش :
" ولكي يكون تسليمه لجلالتكم دليلاً قاطعاً ثابتاً لرغبتي في أن تجعلوني وجميع أتباعي وأهلي بالسودان ، في دائرة سلمكم وعطفكم بعد مرور هذه السنين الطويلة التي برهنت فيها لرجالكم العاملين بالسودان ، عن الإخلاص بالعمل في ظروف مختلفة . وفي السودان الآن أعداداً كبيرة من المواطنين تنتظر عودتي حائزاً على جزيل عطفكم ، وهم يرجون أن تعتبروهم بين رعاياكم المخلصين "
ويرد عليه الملك مقدراً ما أسماه " عاطفة الولاء " التي دعته إلى تقديم السيف كدليل إخلاصكم وعواطفكم نحوي ... وإني أقبله منكم وأعيده لكم ولورثائكم من بعدكم ، للدفاع عن عرشي وإمبراطوريتي ، وبصفة ذلك مني دليلاً على قبول خضوعكم وخضوع اتباعكم "
المهدي يشرح موقفه :
ويتحدث سيادة المهدي عن زيارة الوفد لبريطانيا فيوضح الأسباب التي دعته لتقديم سيف والده لملك الإنجليز ، ويصف حالة الريبة والحذر التي كانت تحيط بها الإدارة الجديدة ، وتحيط بها أتباعه ، والقيود التي كانت تفرضها على تحركاته مما كان يسعى لدى الملك للخلاص منه ، يقول :
" في عام 1919 دعت الحكومة البريطانية وفداً من زعماء السودان وأعيانه لزيارة لندن لتهنئة الملك بالنصر في الحرب العظمى ، وسررت بهذه الدعوة لأنها تنطوي على نوع من الاعتراف بالمكانة التي كان خصومي يعملون جاهدين لإنكارها . واعتقدت أن تلك الزيارة تتيح لي فرصة أوضح فيها للإنجليز في بلادهم أن الحرب التي كانت قائمة بيننا انتهت منذ سنين ، ورغم ذلك أعامل من وكلائهم في السودان وكأنها قائمة ... وأن أوضح لهم أيضاً أنه من حقي أن أعيش في وطني كمواطن له من الحقوق ما لسائر السودانيين ."
" وفي لندن قابلت ملك الإنجليز ، وقلت له حديثاً في هذا المعنى المتقدم ، وقدمت له سيفاً كهدية ورمزاً للصداقة ، وقبل الملك السيف ثم تفضل بإعادته لي قائلاً " احتفظ بهذا السيف لك ولأولادك " ، وعلى الرغم من أن الملك أبدى لي إحساساً طيباً ، إلا أنني لما رجعت إلى السودان ، لم أجد تغييراً في مسلك الحكومة نحوي . وقد قال أحد كبار الإنجليز في تبرير تحديهم لرغبة ملكهم ، إن مقابلتي للملك كانت خصوصية لم تُرتَب عن طريق حكومة السودان ، وهي لذلك لا تتقيد بنتائجها "
ويضيف المهدي :
" استقبلتنا الصحافة البريطانية بعناوين ضخمة في صفحاتها الأولى وكتبت بعضها تقول " وصول ابن المهدي قاتل غردون إلى لندن " ورأى الوفد في ها التعبير شعوراً عدائياً ، ولكن مرافقنا ، المستر " ولس " أفهمنا بأن الشعب البريطاني لا يعرف السودان ، وإنما يعرف غردون ، ولا سبيل إلى تعريفه بنا إلا عن طريق غردون ومصرعه "
ــــ
هوامش :
كان الوفد يتألف من السيد علي الميرغني زعيم الختمية ، والشريف يوسف الهندي زعيم الطريقة الهندية والسيد عبد الرحمن المهدي ، زعيم الأنصار ، والشيخ الطيب أحمد هاشم ، مفتي السودان ، والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم رئيس لجنة العلماء والسيد إسماعيل الأزهري قاضي مديرية دار فور والشيخ علي التوم ناظر الكبابيش والشيخ إبراهيم موسى ناظر الهدندوة والشيخ إبراهيم محمد فرح ناظر الجعليين والشيخ عوض الكريم عبد الله أبوسن ناظر الشكرية .
المراجع :
مذكرات السيد إسماعيل الأزهري – صحيفة الأيام يونيو 1957


(6)

نرجو أن نسترسل في إيراد المقالات الواردة بشأن المسألة السودانية وعلاقتها بمصر ، إذ كانت " صحيفة حضارة السودان " تمثل رؤى قادة الطوائف والعشائر والقادة الدينيين ، وتمثل التعقيد والخلاف الذي توجسوا من دعوة مصر ليكون السودان تابعاً لمصر في مُقبل أيامه ، وهو ما يفسر الخيار الذي رأته القيادات السودانية من الأطراف الثلاثة في المستعمر الإنجليزي أقرب لتطوير بلادهم ، وأن يكونوا تابعين لإنجلترا خير لهم من أن يكونوا تابعين لمصر ، ولا يرون فيها كفاءة تؤهلها ولا علماً وتقنية يمكن للسودان أن يستفيد منها ، وقد جربهم إبان الحكم التركي .
كما أورد الصحافي " بشير محمد سعيد " في كتابه " السودان من الحكم الثنائي إلى انتفاضة رجب " الجزء الأول – الحلقة الثانية 1986 م
من ص 52 - 53
وتمضي حضارة السودان في كلمتها فتقول :


" أجل إننا نعتقد أن الضجة التي قامت في مصر حول السودان عند سفر وفده ، والقائمة الآن ضد مشروعات الري والبحث في مصيره لا تسير برأي عقلاء الأمة ن ولا تسترشد بإنصافهم ورجاحتهم ، وأن الحماس
فيها طغى حتى غمر الأعالي والمرتفعات ، بدليل ما تتحفنا به الجرائد المصرية آناً بعد آن ، وينقله إليها القادمون حيناً فحين من قارص الكلام وجائر الأحكام ، وجارحات العبارات ، ومؤلمات القرارات "
" مثلونا بأقبح صور وأشنع حالة ، ورمونا بالمروق من الشرف والإسلام ، وتجنوا علينا بتهمة عدم الوطنية ، وبيع الأوطان ، ومزقوا صور كبرائنا وأعضاء وفدنا ، ولطخوها بالبصاق ، وداسوها بالأقدام وأنزلونا إلى مقام الهمج والعبيد ومتوحشي الزنوج . وقالوا أن بلادنا منبع الجهل ، وقرارة التوحش ، ومنبت البربرية . وألبسوا كل شيء يختص بنا ثوب الاحتقار والامتهان .. فإذا أرادت جريدة مثل جريدة ( الأمة ) مثلاً أن تستميل رغبتنا في الإندغام في مصر أو الاندماج في شخصها ، وأن تبين لنا النعم التي يسبغها علينا ظلها إذا نحن أخلصنا إليه ، وانطوينا تحته ، شخصت أحدهما في الإسكندرية يسمى ( فرحان ) والآخر في كردفان يسمى( زعتين ) وحسبنا هذه التسمية إهانة وتحقيراً ، مع ما يتخلل الرسالة من عبارات أنزه قلمي على كتابتها ترفقاً وإشفاقاً على إحساس القوم وصلاتهم بجيرانهم وإخوانهم إن كانت ثمة صلات أبقت عليها الألسنة والأقلام "
وتختم ( حضارة السودان ) مقالها الأول قائلة : و إنها لم تحرك يراعها لرد ما قيل ويقال ، ولكن لكي يتناقش عقلاء الأمتين فيما هو بينهم حقيقة من مسألة النيل ، وعلاقة القطرين السياسية ، وتعد أن تحاول شرح المسألة السودانية في أوجهها المختلفة .

(7)

اشتعل الأمر من جديد في بداية العقد الاستعماري الثالث. واختلط حينذاك مع الشعارات الوطنية وصار البعض مع الإنكليز لأنه الشريك القوي الذي يمكنه تحقيق طموحاتهم الخاصة والوطنية وفق رؤاهم للوطنية .واندّسَ الشعار الجاذب " وحدة وادي النيل " من طرف آخر وأصبح له أنصار ، ولا نُشكك في وطنيتهم ، ولكن رغباتخادعة و مُضمرة من مصر، ترنو لعودتها لحكم السودان وتأمين قصة مياه النيل الذاهبة لدولة المصب. وبرز شعار " السودان للسودانيين " وكان من أوائل دعاته السيد عبد الرحمن المهدي ، وكان يرى المستعمر الإنكليزي أفضل الشريكين للتفاوض معه .

وفي الأماني فترة تمكن الإنكليز من التطور على أسس جديدة . لأن الطبقات بدأت تتشكل ولكن الحضارة في حاجة إلى زمن . ولم يكن هؤلاء يهتمون بنزيف الاقتصاد لصالح المستعمر . وبدأت تتشكل الصناعات الصغرى ، وأصحاب الحرف لخدمة التكوين الطبقي الجديد . وقد ذكر الأستاذ " هاشم حبيب الله " في محاضرة له قبل سنوات عن أثر تكوّن الطبقات الجديدة التي بدأت تتشكل من بعد استقرار الحكم الثنائي ، وحاجتها لفنون تتوافق مع مكانتها الاجتماعية الجديدة . وكان فن " الحُمّبي " في حاجة أن يترجل في وسط السودان . و ما تسمى بحداثة القري السودانية بدأت تكوِّن لها إرثاً جديداً هو هجين مما كان شائعاً في فنون الغناء والطرب ،اتخذ خطوة للأمام في أغنيات الشعب في حواضر القرى التي تسعى أن تكون مدناً، بعد أن نضب فن الغناء أيام " المهدية " . الخرطوم ، وأم درمان وبحري من جهة ومدني وبورتسودان وعطبرة  والأبيض من الجهة الأخرى ، وإن تمايزت عن بعضها ولكن حداثة ما أدركتها .

(8)

كتب لي سعادة السفير (م) " جمال محمد إبراهيم " : كنت أبحث عن هذا النص لوقت طويل وأخيرا اهتديت إليه في كتاب "نِبلوك":

يقول نبلوك :( صراع السلطة والثروة في السودان ) : ترجمة :الفاتح التجاني ومحمد علي جادين ، الخرطوم1994 ، ص161  :

( ومما لا شك فيه ان الخلافات حول درجة التعاون مع مصر او بريطانيا كانت جزءا من الصراع غير ان جانبا من الصراع الاجتماعي كان حاضرا ايضا فـ"المؤسسة" من جانبها  كانت تدافع عن مكتسباتها ووضعها المميز في مواجهة التيار الجديد الذي لا يملك ما يخسره، وقد وصفت صحيفة "الحضارة" التي يملكها زعماء الطوائف الدينية الثلاثة        ( الهندية والختمية والأنصار ) جمعية اللواء الأبيض بما يلي:(على الجمعية أن تدرك  أن الأمة تشعر بالاساءة عندما ينبري أقل الرجال شأناً وأوضعهم مكانة في المجتمع بالتظاهر بأنهم يعبرون عن فكر الأمة). وقد مضت المقالة التي نقلنا عنها النص السابق إلى الشكوى من أن الغبار الذي يثيره مثل هؤلاء النفر(يسبب الازعاج للطبقة التجارية ودوائر المال) وناشدت جميع "المواطنين الحقيقيين" إلى سحق "أولاد الشوارع المؤيدين لمصر"، وفي مقالة أخرى وصلت الحضارة إلى حد القول (إن أمة يقودها على عبد اللطيف هي أمة وضيعة).

نترك القصة أعلاه بلا تعليق !

(9)

الجميع يعلم أن ثورة 1924 كانت مع " وحدة وادي النيل " وكان الرسم على العلم الخاص بجمعية اللواء الأبيض يوضح ذلك . وقبل التحرك العسكري سحب الملك المصري  قواته العسكرية بأوامر من الإنكليز . وذهبت القوات المصرية لمحطة بحري للسكك الحديدية لتغادر إلى مصر ، وكان من المأمول أن تُناصر " عبد الفضيل ألماظ " ورفاقه في معركتهم ضد الإنجليز ، ولكن ذهب أصحاب المصلحة في " وحدة وادي النيل " وتركوا ظهر الأبطال بلا حماية . وخاض السودانيون المعركة وحدهم !!. لن يمكننا أن نتحدث عنهم إلا كأبطال سودانيون بذلوا الجهد وفق رؤاهم عن طريق الخلاص من المستعمر . وعلاقتهم بمصر الضبابية ، تتنازع بأن مصر شريك المستعمر ولكنها أيضاً تحت رحمته بعد شراء نصيبها من قناة السويس وصارت أيضاً مستعمرة إنكليزية ولكن أخف وطأة ويمكن أن يثقوا في شعار وحدة وادي النيل ، حسبما كانوا يرون !

(10)

كتب لي الصديق المهندس / أبوبكر سيد أحمد :في 17 مارس 2012 :

صديقي هذه الصور الممسوحة من كتاب "نِبلوك" هي تحوي قائمة كبار رجالات السودان ،ربما كان لهؤلاء ما يبرر - في نظرهم - ادانتهم لأقوى ثورة سودانية بعد الحكم الثنائي ،كما برر بعض من ذات النفر زيارتهم للندن وكلماتهم عن مطلق تأييدهم للملك المستعمر.

المصدر أرشيف حكومة السودان ملف رقم 705 :

تجد أسماء الموقعين على العريضة المؤيدة لسلطات الاحتلال ضد ثورة 1924 :

(38) شخصاً، منهم زعماء القبائل والتجار ومفتشي المحاكم والقضاة ومنهم عُمد ومشايخ وقادة طرق صوفية ومفتش بوزارة المعارف وأحد معلمي كلية غردون التذكارية وزعماء دينيين وناظر مدرسة ...الخ . مما يراهم الإنكليز الصفوة الاجتماعية، عاليةالمراتب الاقتصادية. وقدم لي قائمة الأسماء جميعاً ، ولا يسع المقال ذكرهم .

وقد ذكر البروفيسور محمد عمر بشير في سِفره تاريخ الحركة الوطنية
أن عددهم ( 40) شخصاً.

(11)

ماذا نفعل مع التاريخ ؟ غير أن نرى الحقائق في زمانها ومكانها ، وأن وجود حداثة في تفكير ذاك الزمان ، هو الذي يجعلنا ننصف الأجيال التاريخية ونتعرف على التمايز بينها ، ونقيسها بمن حملوا مشاعل الحداثة الاجتماعية والثقافية ونحكم على الآخرين بقصورهم مقارنة بأصحاب الحداثة في زمانهم، ونتعرف على التعقيدات والتناقضات التي حملتها مواقف كثيرين كانوا وقف زمانهم لا يدركون أنهم أصحاب حضارة ، ففي الوقت الذي أبدع الموسيقيون سيمفونيات لم تزل عظيمة ، كان السودان يصدر سن الفيل وريش النعام ، والصمغ يتم تهريبه ليُصدر من سواكن ، التي لم تخضع للمهدية السابقة . من السهل الحُكم على هؤلاء وأولئك  . وتبسيط التاريخ المعقد ، وهو أكثر صعوبة  عند الابتلاع . ولكن الحياة أعقد بكثير مما نحسب. ولا ننسى أن الإنكليز لا يرحمون منْ يعاديهم، بل يقومون بإعدامه شنقاً في السوق ، حيث تجمعات البشر ! . نعرف أن التاريخ ليس بجاذب ليكُون مهنة يسترزق بها إلا الأساتذة ، ولكننا نظل نبحث عنه لأن به تنفتح أذهاننا  ، وتتغذى نباتات العقل وتَعتبِر. نكرر ، لن نبحث عما تعرض له هؤلاء الذين وقّعوا على وثيقة 1924 ، ولكن منْ نهضوا في ثورة 1924 من بعد تظاهرات في مدن السودان الرئيسة ، ضحّوا بأرواحهم ، ودخلوا السجون الانفرادية أو أعدموا أمام السجن الكبير ، وجاء الإنكليز بالضباط السودانيين الذين كانوا يعتقدون بولائهم الخفي لثورة 1924  ، وأشهدوهمالإعدامات  كما ذكر الأستاذ " حسن نجيلة " . فأين هو الحق؟ : أهو مع  الذين وقفوا مع الإنكليز ضد ثورة 1924، أم مع الذين يدعون لوحدة وادي النيل ؟ . ثم اين مصر ومصالحها الدفينة في السودان ، وقد دفعت ستة ملايين من الجنيهات خلال الاثني عشر سنة الأولى لدعم البنية التحتية لاقتصاد الدولة السودانية الجديدة من بعد الاستعمار ، ما بين (1900 – 1912)؟ وأدارها الإنكليز وفق خبرتهم الإدارية، وفق ما أوضح ذلك البروفيسور محمد عمر بشير في سِفره ( تاريخ الحركة الوطنية في السودان ).

عبد الله الشقليني

17 فبراير 2016


abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء