سد النهضة وسدود الحسرة

 


 

 


 بسم لله الرحمن الر حيم

​لقد بلغت المرحلة الأولى من سد النهضة الإثيوبي أطوار التنفيذ النهائية، ولم يتم تشييده بليل ودون علم الشعب الإثيوبي، إنما تم التخطيط والتحضير له بشفافية كاملة، وبالتفاهم المستمر مع السلطات المصرية والسودانية لإجلاء الحقائق وتبديد هالات الريبة التي يبثها الإعلام المصري تحديداً، والمخاوف غير المؤسسة للبرجوازية التي ما انفك جزء منها يفكر بالعقلية الخديوية، ويحسب أن النيل هبة الله لمصر وحدها ولتذهب دول المنبع والدول المشاطئة الأخرى إلى حيث شاءت. ومن آيات إشراك الجماهير الإثيوبية في الأمر أن السد يتم بناؤه بالجهد الشعبي بالدرجة الأولى، وذلك بتحويل صندوق تمويله لسندات وأسهم مفتوحىة لكل أفراد الجمهور الإثيوبي، وليس بالتسوّل لدى الدول النفطية أو لدى المؤسسات المالية الغربية الإمبريالية التى تعطى باليمين وتأخذ باليسار- في شكل تدخل سافر في سياسات وتوجهات الجهة المستفيدة، وفرض فلسفة الرأسمالية الغربية الطاحنة عليها.

​ويقع هذا السد عند السفح الغربي للمرتفعات الإثيوبية المطل على الحدود السودانية الجنوبية الشرقية، على مسافة عشرين ميلاً من تلك الحدود، ولقد جاوز إرتفاعه سبعين متراً حتى الآن، ومع حلول يونيو من هذا العام سيبلغ إرتفاعه مائة متراً تقريباً، بطاقة تخزينية تصل إلى 14 مليار متراً مكعباً، وعند ذاك سوف يتم تشغيل عدد 2 تورباين لتوليد الكهرباء (700 ميقاوات/ العام)، وعندما يكتمل السد بالعام القادم -2017- ستكون به 16 تورباين تنتج ستة آلاف ميقاوات/العام؛ وسيبلغ ارتفاعه 145 متراً بطاقة تخزينية قدرها أربعة وسبعين مليار متر مكعب. هذا، وقد تم تشييد حائطمستطيل بالقرب من هذا السد عبارة عن جسر يساعد في توجيه المياه صوب البحيرة الأساسية - يسمى السد الرديف،

auxiliary “saddle” dam  -

​والهدف الوحيد لبناء السد هو توليد الكهرباء فقط لا غير، إذ لا تسمح قوانين الجاذبية بصعود المياه منه إلى الهضبة الإثيوبية حيث يعيش الإثيوبيون ويفلحون الأرض على حواف الجبال معتمدين على أمطارهم الغزيرة؛ والجهة الوحيدة التي يمكن أن تستفيد من مياه السد هي السودان- لو كان من الحصافة بحيث يقايض الإثيوبيين بالموافقة التامة (وعدم التآمر مع مصر لتدمير المنشأة كما هددت بعض الدوائر هناك)، في مقابل كهرباء بسعر أقل من المعروض حالياً، بالإضافة لقناة تتفرع من الشق الجنوبي للسد - تماماً كقناتي الجزيرة والمناقل المنطلقتين من خزان سنار- لتنساب على السهول الممتدة من الكرمك على الحدود، مروراً برورو وقولي وبوط والمزموم والدالي، وعبر صقائع أم دلوز حتى مشارف النيل الأبيض، وشمالاً حتى تخوم مشروع سكر كنانة. ومن جراء ذلك، سوف يتم توطين سكان هذه المنطقة من القمز والبرون والوطاويط والإنقسنا، بالإضافة لأعراب كنانة ورفاعة أصحاب الضأن عالي الجودة المعروف بإسم (وتيش)، وهي قبائل ظلت بادية ولم تنعم بمزايا الحضارة كخدمات الصحة والتعليم منذ دخولها السودان قبل خمسمائة عام إلى يومنا هذا.

​ولن يصيب السودان من هذا السد إلا عيب واحد مقدور عليه، وهو الضربة التي ستوجه لزراعة "الجروف" بضفتي النيل الأزرق flood plain agriculture، إذ أن منسوب المياه سوف يظل مستقراً طوال العام، ولن تكن هناك أراض ينحسر عنها النيل وتزرع بطيخاً وشماماً وعجوراً ودردقو.... إلخ؛ ولكن هذه الخاصية نفسها نعمة كبرى لأصحاب الطلمبات مما سيساهم في مضاعفة المساحات المزروعة بالري الصناعي على جنبات النيل؛ وهذا ما سيمكّن السودان من إنتاج كميات هائلة من الخضروات والموالح والمانجو والجوافة والموز والأعلاف، ومن تصديرها للدول المتعطّشة لمنتجات زراعية لم تمسسها المخصبات الكيماوية، ومما سوف يرفع من مقدرات السودان التنافسية في الأسواق الشرق أوسطية، وهذا ما يخشاه جيراننا المنتجون لنفس الأصناف، وهذا هو سر اعتراضها على السد.

​ويتحدث المعترضون على السد عن الكميات التي يحتاجها للتخزين في بحيرته الصناعيةreservoir (74 مليار متر مكعب) حتى تستطيع التوربينات أن تعمل بكفاءة تامة، وذلك قد يكون على حساب (مية النيل) التي تتناهى إلى مصر؛ ولقد تحسّب المخططون لذلك بمد فترة التعبئة لأربع إلى ست سنوات لكي لا تتأثر مصر. وإذا حدث نقص مؤقت في مياه النيل الأزرق فإنه سيكون على حساب السودان إذا وافق على التنازل عن حصته التي ظل يقرضها لمصر منذ عام 1959 والبالغة ست مليارات متر مكعب في العام، والتي ظلت تذهب لمصر بموجب إتفاقية ذلك العام كدين مستحق يعود لصاحبه في أي وقت يطالب به؛ وهذا سلاح آخر تستطيع حكومة السودان أن تستخدمه للحصول على المزيد من الفوائد، خاصة الكهرباء التي يمكن أن تمتد شبكاتها إلى ولاية النيل والولاية الشمالية، وتدحض بذلك الحجج التي تدعم قيام "سدود الحسرة"، الشريك وكجبار ودال، إذ يمكن أن يحصل السودان من سد النهضة على ضعف الكهرباء التي ينتجها سد مري (1200 ميقاوات)، وبتكلفة أقل.

​أما سدود الحسرة هذه، فإن الشكوك تغمرها من قعرها إلى رأسها: إذ ما هو الهدف من قيامها؟ الكهرباء أم الري الإنسيابي؟ وإذا كان المراد هو الكهرباء، فماذا حدث لسد مروي الذي كان يقال بأنه سوف يلبّي حاجة ولايتي النيل والشمالية، كما سوف يذهب الفائض منه إلى الخرطوم ليغذّي الشبكة القومية؟ وهل تحتاج هذه القبائل المتضررة من السدود المزمعة للكهرباء تحديداً؟ هل طالبت بها؟ إذن، الهدف الثاني هوا لمقصود، أي تشييد الشريك ودال وكجبار من أجل الري الإنسيابي المتوجه للمشايع المزمعة على مقربة من النيل، لعله تحقيقاً للرؤية التي كشف النقاب عنها وزير الخارجية السابق على كرتي عندما قال البارحة، كما طالعنا في الصحف الإسفيرية:(المسافة من الخرطوم
إلى حلفا تساوي ألف ميلاً، بها مليون نسمة فقط، والمسافة من أسوان إلى الإسكندرية أيضا تساوي ألف ميلاً، وبها تسعون مليون نسمة؛ فلماذا لا نتيح للمصريين الفرصة لفلاحة الفيافي السودانية بولايتي النيل والشمالية؟). ويبدو أن هذه هي النية الحقيقية المبيتّة لتشييد السدود المذكورة، خاصة وأنها محاطة بتكتم وهمس وسرية تدعو للريبة العميقة؛ والسيد كرتي الذي تحول فجأة إلى مؤيد لوحدة وادي النيل، ليس حباً في الخير المندرج من تلاحم الشعبين، إنما شأنه شأن الكلب الذي يعوي حرصاً على ذيله، فهو يريد أن يتقرّب للمصريين حتى يدعموا ترشيحه لمنصب أمين عام الجامعة العربية بعد الذهاب الوشيك لأحمد العربي، وهو بالقطع يفكر في هذا المنصب بحكم الأجواء المواتية على إثر اشتراك نظام البشير فى "عاصفة الحزم"، ورضاء السعودية والإمارات عنه في الآونة الأخيرة؛ وهكذا، فإن كيزان السودان كعادتهم (يسرقون اللحمة في اللقمة.)

​(وبهذه المناسبة، فقد جاء في أنباء البارحة كذلك أن الحكومة المصرية قد ترشح أحمد أبو الغيط وزير خارجية حسني مبارك، ولكنه مرفوض من بعض الجهات، خاصة السعودية؛ وبالقطع سيعترض السودان أيضاً لسبب واحد - وهو أنه يفكر في حجز الخانة لعلي كرتي. ولي تجربة مع أحمد أبو الغيط رويتها من قبل، وهي أنه وقف محاضراً بديوان وزارة الخارجية الإماراتية بأبوظبي في ديسمبر 2013 أمام حشد غفير من المسؤولين والدبلوماسيين الإماراتيين بالإضافة لموظفي الوزارة من أمثالي، وكان موضوع المحاضرة هو "حرب العبور- أكتوبر 1973"، ولكنه فجأة خرج عن النص وقال: "على فكرة، أنا لما كنت وزير خارجية مصر أرسلت خطاباً لسمو وزير الخارجية الإماراتي طالباً من حكومته عدم تقديم أي دعم للسودان أو لأي دولة مشاطئة للنيل تنوي إنشاء أي مشروع زراعي أو كهربائي عليه، لأن ذلك سيضر بالمصالح المصرية." وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على عدم حيدته، وعلى أنه يفرض من نفسه وصياً على الدول الخليجية، وعلى أنه يوغر الصدور ويسعى بالفتنة بين الدول العربية، وعلى أنه يضحي بالجيران من أجل ما يحسبه مصالح مصرية ضيقة لا تعرف التفاهم أو التعايش أو التنازلات المتبادلة بين الإخوة والجيران، وعلى أنه عنصري وشوفيني منغلق.)

​كما لا بد أن ندرك أن علي كرتي بدعوته لاستجلاب الفلاحين المصريين إنما فقط يكرّر ويؤكدّ reiterates and confirms ما قاله وزير الصناعة السابق جلال الدقير في الثالث من أبريل 2008 لصحيفة "المصري اليوم"، كنوع من المزايدة والتملّق للإخوان المسلمين السودانيين وللمصريين:-

​(تلقّي السودان عرضاً من مصر والإمارات وقطر لاستزراع ستة ملايين فدان قمح بالشمالية "لخصوبة التربة وتوفر المياه ومواءمة الطقس"، وأن السودان في حاجة إلى خمسة آلاف من الفلاحين المصريين للمرحلة الأولى من هذا المشروع، وأن مصر آتية للسودان شئت أم أبيت.)

وهكذا، يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها؛ ومما يدعو للدهشة في نفس هذا السياق أن المصريين كانوا يعترضون بملء أشداق إعلامهم على سد مروي، ويحاولون إيقاف الدعم العربي له، ولكنهم الآن يلوذون بصمت القبور إزاء السدود المزمعة: الشريك وكجبار ودال.

​وفيما يختص بهذه السدود الثلاثة المزمعة، فإننا نكتفي بالحجج الداحضة لها التي قدمها بكل شجاعة ومثابرة وموضوعية أبناء القبائل والمناطق المتضرّرة، والتي شملت كل الجوانب الإقتصادية والاجتماعية،والإسقاطات الديموغرافية والثقافية جراء قيام هذه السدود؛ ومن أهم اعتراضات هذه المجموعات مسألتان:-
1. ما هي تجربة أهل الشمالية والنيل مع سدي أسون (السد العالي) ومروي؟ فالكل يذكر ما حدث لأهل حلفا الذين تم ترحيلهم بالترهيب والترغيب إلى بلاد طيرها أعجمي، دون تعويض يذكر، مع التدمير التام لمدن وقرى ظلت قائمة منذ آلاف السنين، ومع الطمر الكلي لآثار وحفريات مكتشفة ومقترحة لا تقدر بثمن. أما بالنسبة لمن تبقى من الحلفاويين بأطراف البحيرة الممتدة الجديدة (بحيرة ناصر)، فإن مصر لم تعرهم إنتباهاً طوال الست وخمسين سنة المنصرمة، ولم تشملهم بأي نصيب من الكهرباء التي تم توليدها من السد، ولا بأي بنية تحتية كالطريق المسفلت أو البواخر الحديثة والمعقولة التى تحمل الركاب والبضائع من وإلى أسوان؛ على العكس تماماً من الإثيوبين الذين أعلنوا مراراً وتكراراً قبل الفراغ من بناء سدهم أنهم مستعدون لبيع الكهرباء للسودان بأقل من نصف سعر الكهرباء الخارجة من السد العالي ومن مروي.

و تجربة قبائل المناصير وأمري والحامداب مشابهة لأهل حلفا دغيم ونواحيها، حيث تم ترحيلهم على عجل إلى مناطق لم تكن جاهزة لاستقبالهم، منها شريحة ضخمة بالقرب من قنتي إسمها "عقبة الحادو"، ليست من الخصوبة بمكان، مما دفع النازحين لبيع حيازاتهم والتشتت في بلاد الله شرقاً وغرباً.
2. والمسألة الثانية هي: ما هو الغرض من هذه السدود أصلاً؟ فإذا كان الأمر  هو انتاج المزيد من الكهرباء لمصلحة قرى اللمناطق المذكورة، الشريك وكجبار ودال، لا بد أن نسأل مرة أخرى ماذا حدث لكهرباء مروي؟ وما الذي يمنع تكرار نفس أنواع الفساد التي شهدها سد موي: توربينات "ضاربة" ومنتهية الصلاحية، ودفن لنفايات أخرى كتلك التي سممت منطقة مروي وجعلت فأرها بحجم الضبع بفضل الmutation  الذي حدث له؟ لقد أصبح مألوفاً أن تتفتق عبقرية الإخوان المسلمين عن مشاريع تبدو مفيدة للبلاد في ظاهرها، مصحوبة بزفات إعلامية هائلة (الرد في السد....إلخ!)،  لكنها في حقيقة أمرها فرص للنهب والثراء الحرام الفاحش لرهط البشير من إخوانه وأصهاره، وللعديد من متنفذي المافيا الإخوانية التي ظلت جالسة على أنفاس السودانيين منذ نيف وربع قرن.

آخر الكلم:

​لقد هبط سد النهضة هبة من السماء ليس فقط على الشعب الإثيوبي، إنما لأهل السودان كذلك، وربما المصريين أيضاً لو ترجلوا من أبراجهم العاجية، ودخلوا في مبادرات مشتركة مع الجيران المشاطئين للنيل، كما ظلت تفعل جميع دول اسكاندينافيا والعديد من البلدان الأوروبية؛ ومعروف للجميع أن الكهرباء المولدة من مساقط المياه لا تكلف طاقة أو نفطاً، وكمياتها دائماً مهولة للغاية، ويجود من لديه مثل هذه المنشآت على من ليس لديه كهرباء من الجيران. ولو كان المصريون أيام جمال عبد الناصر في أواخر الخمسينات ذوي بعد نظر لشيدوا السد العالي ليس في أسوان إنما في الموقع الذي يحتله سد النهضة الآن، ولحصدوا الفوائد التالية:
1. ليس هنالك تبخر بالدرجة التي تعاني منها بحيرة ناصر حيث يذهب ربع الماء المخزن بها متبخراً إلى طبقات الجو العليا في منطقة هي الأكثر سخونة في العالم.
2. ولو تم تشييد ذلك السد بتمويل وأيدى مصرية لكان ذلك جميلاً يطوق الشعبين الإثيوبي والسوداني إلى الأبد، وعربوناً أكثر فعالية للوحدة العربية التى كان الناصريون يحلمون بها ويتفانون فى سبيلها؛ وربما كان ذلك خير توطئة للمزيد من المشاريع التكاملية التي تقرب هذه البلدان لبعضها البعض، ربما على طريق الوحدة الكنفدرالية في نهاية الأمر.
3. ولو تم ذلك السد، لبطلت الحوجة للسد العالي ولسد مروي والثلاثة سدود الوشيكة، بل ولخزان الدمازين كذلك، ولما كان هناك حاجة لترحيل كل هذه الشعوب المكلومة والمحرومة من مساقط رؤوسها، الحلفاويين والكنوز والعبابدة والمحس والسكوت والمناصير.

لقد ألحق الإخوان المسلمون ورهط المؤتمر الوطني الحاكم أضراراً جسيمة بالسودان؛ فقد تنازلوا عن ثلثه للجنوب دون مبرر يذكر، وهم بصدد التنازل عن دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وكذلك جزءاً ضخماً من شمال البلاد للمصريين ومن خلفهم الممولين القطريين، دون التوقف للتدبر فيما يقترفونه وهم في سكرة الحكم ونشوة السلطة. ولو كان بهم مزعة من وطنية ومسحة من أخلاق لحولوا المفاوضات الدائرة حالياً حول سد النهضة لمصلحة السودان، من أجل الكهرباء والقنوات التي يمكن أن تعمر مساحة بين النيلين الأبيض والأزرق تبلغ أربعة أضعاف مشروع الجزيرة والمناقل، في منطقة أكثر خصوبة وأجمل طقساً، ولكفوا عن المضي في طريق الشريك وكجبار ودال.

والسلام.


 
fdil.abbas@gmail.com

 

آراء