قادتهم وقادتنا (2): الجنرال بارك 1961-1979(كوريا الجنوبية)

 


 

 


-1-
عندما كتب فرانسيس فوكوياما كتابه"نهاية التأريخ والانسان الخاتم" بعد سقوط حائط برلين بسنوات قليلة 1992، كان يستقرئ التاريخ بغرض التنظير لهزيمة الانظمة الشمولية، ليقول أنه مهما استطالت مددها، فإلمحطة الاخيرة (للنظم السياسية) هي الديمقراطية اللبرالية الغربية التي تشمل بالضرورة توفير الحريات السياسية واحترام حقوق الانسان والمساواة امام القانون ، وعلي الاقل توفير الحد الادني من العدالة الاجتاعية ، من بين حقوق أخري كثيرة. ورغم أن النبوءة لم تتحقق خلال ربع القرن الماضي (منذ ظهور الكتاب) وظهرت أنواع جديدة من التحديات التي حدَّت من سرعة التحول الي النظام الديمقراطي في بلدان كثيرة إلا أن "النقطة" واضحة ، وما زال السعي وراءتحقيق انظمة ديمقراطية هو"المشي" في الاتجاه الصحيح للتاريخ. بالمقابل فإن الانظمة الشمولية إلي زوال يتبعه لعن ، مهما كان المثال الذي ترجو تحقيقه ، لأن الحرية المسلوبة وحقوق الانسان المضاعة لاثمن لهما. الحقيقة المرَّة هي أن الضحايا يذكرهم مجايلوهم (باستثناء النازية ولاسباب مختلفة) ثم تخفت صور الذكريات البشعة والمؤلمة وتسقط بتقادم السنين، إذ توغل تلك الذكريات في البعد عند ذكراها الخمسين او المائه.  للاسف الشديد ، أو "حكمة الله"  كما نقول أحيانا ، فإن الاجيال اللاحقة تذكر فقط المنجزات المادية وعظمة الدولة ، في حالات الشمولية الفاعلة، وتنسي الضحايا، وذلك علي مر التاريخ. وأقرب الامثلة هو الينا الاتحاد السوفيتي سابقا (الذي تمثله روسيا حاليا) إذ من يذكر الان ضحايا الستالينية؟ بل من يذكر إبادة الهنود الحمر في امريكا؟. وعلي العكس تظل اللعنات تتبع الشموليات الناهبة كما في حالة موبوتو (جمهورية الكونقو) وبابا دوك (تاهيتي) والشموليات القاتلة كما في حالة بول بوت (كمبوديا) إلي نهاية التأريخ. وعليه فربما أمكن تحوير المثل القائل "إذا كنت كذوبا فكن ذكورا" إلي " إذا كنت شموليا فكن فاعلا" أوبالدارجي الفصيح "أعمل حاجة كويسة".

-2-
قاد الجنرال بارك انقلابا عسكريا في كوريا عام 1961 علي نظام حكم ديمقراطي، لكنه باتفاق كثير من المعلقين كان فاسدا وضعيفا. وفي السنوات التالية قام بتعديل الدستور مما مكنه من الفوز بالرئاسة لعدة دورات حتي اغتياله في 1979. والجنرال بارك هو والد الرئيسة الحالية لكوريا الجنوبية منذ 2012 (الانسة بارك قوين هاي). نتعرض في هذا المقال الي بعض إرث الجنرال بارك خلال سنوات حكمه الثمانية عشر ، ويعتمد المقال في الجزء الاساسي منه علي كتاب قام بتأليفه عام 1994 ، بطلب من البنك الدولي، المستر جونق يوم كِم (Kim) أحد أهم وزراء الرئيس بارك ومستشاره الاقتصادي ورئيس موظفي البيت الازرق (القصر الرئاسي) لمدة تسعة سنوات حتي قبل سنة واحدة من إغتيال الجنرال بارك، والكتاب بعنوان"في الخطوط الامامية لصناعة السياسات".

  تبلغ مساحة كوريا الجنوبية 100,000كم2 ) أقل من 3% من مساحة السودان القديم( ودون موارد طبيعية تذكر) ، 60% منها جبال و 10% منها للسكني ( مدن وقري) والـ30% المتبقية هي المساحة الصالحة للزراعة. وكانت كوريا و لا زالت واحدة من أكثر البلاد ازدحاماً بالسكان في العالم (29 مليون نسمة في عام 1967) . كانت صادرات كوريا في عام 1962 (بعد انقلاب الجنرال بارك مباشرة) نحو 55 مليون دولار واحتياطياتها من العملات الصعبة 168 مليون دولار ومعدل النمو السنوي للاقتصاد فيها 2.2%. وتقول بعض المصادر أنه وفقا لارقام البنك الدولي فإن كوريا والسودان كانا متماثلين من ناحية المؤشرات الاقتصادية الرئيسية كالناتج المحلي الاجمالي ومتوسط دخل الفرد ومعدلات الادخار والاستثمار والديون الخارجية وغيرها في الخمسينات (عند استقلال السودان) . وكانت كورسات البنك الدولي التدريبية لمرتاديها من مسئولي وزارات المالية من العالم الثالث تشمل تلك المقارنات كمفارقات علي شاكلة أين هم الان؟ لقد كانت كوريا حينها دولة فقيرة نامية مثل كثير من الدول في جنوب شرق اسيا وافريقيا. ولكن الكوريين لهم ثقة عظيمة في انفسهم. وما زلت اذكر قول خبير كوري جاء ليلقي محاضرة علي منسوبي البنك الافريقي في منتصف تسعينات القرن الماضي ، حول تجربة كوريا قال: " قلنا If the Japs can do it, we can do it” ". (اذا كان اليابانيون قد استطاعوا أن يفعلوها-أصبحوا دولة صناعية كبيرة- فنحن كذلك نستطيع)" . أنظر إلي هذه الثقة في النفس.

أين كوريا الان؟
اغلب القراء يعلمون ، ولكن لا بأس من بعض المعلومات للتذكير. الاقتصاد الكوري حاليا هو الاقتصاد الثالث عشر في العالم من ناحية الحجم وعضو مجموعة الدول العشرين الصناعية الكبري في العالم (مجموعة ال G 20) ، و تاسع اكبر قوة جوية في العالم باسطول قوامه 840 طائرة حربية حديثة. فضلا عن أن كوريا هي من اعلي الدول نموا في العالم منذ الستينات وحتي التسعينات من القرن الماضي.
في عام 2015 بلغ عدد سكان كوريا الجنوبية  نحو51 مليون ، لكن الناتج المحلي الاجمالي لكوريا بلغ 1.85 ترليون دولار ، ويساوي الناتج المحلي الاجمالي لأكبر تسعة دول افريقية مجتمعة وهي نيجريا، جنوب افريقيا، مصر, الجزائر، انجولا، المغرب, السودان، كينيا وإثيوبيا. وكوريا هي الدولة الخامسة في العالم من ناحية الصادارت والسابعة الاكثر استيرادا في العالم، والدولة الخامسة في انتاج الطاقة النووية (التي تغطي 45% من استهلاكها المحلي من الطاقة). وكمثال علي علو كعبها عالميا فإن شركة سامسونج الكورية تعد الان اكبر شركة الكترونيات في العالم ، وقد بلغت ارباحها  الصافية 27 مليار دولار في عام 2013.  أما سامسونج للصناعات الثقيلة-إحدي مجموعة شركات سامسونج-فهي ثاني أكبر شركة في العالم لبناء السفن. ومساهمة مجموعة سامسونج في الناتج المحلي الاجمالي لكوريا  في عام 2014 بلغت 17% اي نحو315 مليار دولار ، وهو ما يساوي بالتقريب الناتج المحلي الاجمالي لجنوب افريقيا أو مصر.
-3-
لم يكن الجنرال بارك اشتراكيا ولكنه كان وطنيا مهموما بقضية التنمية في كوريا. وكان يعتقد بدور الدولة في توجيه التنمية، ربما قبل أن يولد مفهوم الدولة الانمائية الفاعلة كما نفهمه الان. بدأ عهده بوضع خطط خمسية للتنمية (وربما استهدي بأشهر الخطط الخمسية أنذاك وهي السوفيتية) وحرص علي تنفيذ أهداف تلك الخطط بدقة عسكرية حربية. كان الهم الاول للرئيس بارك علي حد قول السيد كِم هو توحيد الكوريتين وهو هم كل الكوريين علي جانبي الحدود، لكنه ، ولبعد نظره، أرجأ محاولة العمل علي الوحدة السياسية وغلَّب عليه هدف تقوية الاقتصاد لتحقيق تنمية إقتصادية وإجتماعية معتبرة تشجِّع كوريا الشمالية علي الوحدة ، وهو ماأكده له المستشار الالماني ايرهارد في عام 1964 من أن تلك هي الطريقة المثلي لجعل الوحدة جاذبة و لهزيمة الشيوعية ، علي حد قوله.
برأسمال ضعيف (زاد تدريجيا بتدفقات من امريكا) وتكنولوجيا متواضعة بدأت كوريا تنفيذ خططها الخمسية التي بدأت بالخطة الخمسية الاولي 1962-1966 و تمكنت من تحقيق الكثير خاصة في مجال الصناعة التي تشتهر بها كوريا اليوم. في كل الخطط الخمسية الكورية ، خاصة الخطة الخمسية الأولي، كما يقول المستر كم ، راقب الرئيس بارك تنفيذ الخطة مراقبة لصيقة ، واهتم بكل التفاصيل حتى الصغيرة منها وأسس غرفة للمتابعة متصلة بمكتبه . وكان يتصل باستمرار لمعرفة التقدم في تنفيذ الخطة ،أولاً عن طريق غرفة العمليات التي انشأها ثم بالوزارات المختصة ثم بإثارة الموضوع في الاجتماعات الشهرية لمتابعة أسباب التعطل وتحليل أداء المشروعات الحكومية و أداءالاقتصاد بوجه عام. وكان أحيانا يقوم بالاتصال شخصيا بصاحب المشروع/المصنع المتأخر في التنفيذ مستفسرا عن الاسباب ويقوم بتذليلها سواء كان قطاع عام أو خاص ، إذ كانت الحكومة تدعم القطاع الخاص وتوجه بتمويل انشطته ذات الصلة بالاسبقيات القطاعية المجازة في الخطة. وعلي ذكر المتابعة ففي وقت لاحق وبعد أن أبلغ بفشل المفاوضات مع كل من الولايات المتحدة واليابان وعدة دول اوروبية في مساعدة كوريا في بناء صناعات دفاعية، بعد تكرر هجوم كوريا الشمالية علي الحدود، جاء احد مساعديه بفكرة بناء الصناعات الثقيلة والكيماوية بالتزامن مع صناعة الاسلحة لأن الاساس متشابه. و بعد اقتناعه بالفكرة أمر بالبدء في التنفيذ مع الوزارات المختصة وابلغ مساعديه بأنه شخصيا سيشرف علي تلك الصناعات.
نجحت الخطة الخمسية الأولي نجاحا باهرا بفضل المتابعة المستمرة من قبل الجنرال بارك والمشاركة الحكومية بالدعم وتذليل العقبات. وبنهايتها ارتفع معدل النموالسنوي للاقتصاد الكوري إلي 12.2% (من 2.2%) وارتفعت الصادرات بنسبة 350% إلي 250 مليون دولار. وقد جاء في كتاب أصدره معهد هارافرد للتنمية الدولية بالتعاون مع معهد كوريا للتنمية (عام 1970) أنه "في عام 1961 عندما أعلن أن هدف الخطة الخمسية هو تحقيق معدل نمو سنوي مقداره 7.1% بدا ذلك للمتابعين رقماً خيالياً حينها، أخذاً في الاعتبار أداء الاقتصاد الكوري المتدني في السنوات السابقة . لكن ذلك المعدّل المرتفع ولدهشة الجميع قد تم تجاوزه. إن كوريا الجنوبية التي كاد الخبراء الامريكان أن يفقدوا الأمل في مستقبلها قد أصبحت واحدة من الدول التي حققت أسرع معدل نمو مستدام عرفه التاريخ الاقتصادي في العالم". (كم :122)  ثم توالت الانجازات التي عرفت فيما بعد ب "معجزة نهر الهان" الاقتصادية.
بنهاية الخطة الخمسية الاولي فاق معدل نمو الاقتصاد الكوري12% وارتفع المعدل في الخطط الاربعة التالية الي نحو 14% في السنة في المتوسط وظل كذلك حتي بداية التسعينات من القرن الماضي. في عام 1988 (أي بعد نحو ربع قرن من الانقلاب) استضافت كوريا الاوليمبياد كناية عن الثقة العالمية في مقدراتها المالية والتنظيمية ، وفي عام 1996 تأهلت كوريا من دولة صغيرة نامية لتصبح عضوا بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD (نادي الدول الصناعية الكبري). ربما لا يمكن أن تعزي كل النجاحات التي حققتها كوريا في العقود الاخيرة الي شخص واحد او الي نظام حكم معين ، ولكن المؤكد أن من غرًّق الساس لبناء الاقتصاد الكوري هو الجنرال بارك. و هناك شبه إجماع بين المراقبين علي أنه هو باني كوريا الحديثة.
تعتبر كوريا حاليا الدولة الافضل في العالم من ناحية الرعايةالصحية لمواطنيها وذلك وفقا لموسوعة ويكيبيديا. وفي بعض المؤشرات الصحية تتفوق كوريا علي كبريات الدول الصناعية فهي تحتل المرتبة الثانية في منظمة التعاون والتنمية في مؤشر عدد الاسِرَّة لكل الف نسمة (9.6 سرير)، أي أكثر من ثلاثة اضعاف كل من السويد 2.7 وكندا 2.75 و بريطانيا 2.95 والولايات المتحدة الامريكية 3.05 .
 أما من ناحية التعليم فتولِي كوريا التعليم عناية خاصة ،ونظامها التعليمي متقدم تكنولوجيا. وهي وفقا لموسوعة ويكيبيديا اول دولة في العالم تدخل الانترنت السريع لكل مدرسة أساس وثانوي ، واول دولة تحوِّل كتب المقررات الدراسية من ورقية الي الكترونية ، وتنوي توزيعها مجانا لكل طالب اساس وثانوي بحلول 2013. هذا ويلتحق 85% من خريجي المدارس الثانوية في كوريا بالجامعات. بالاضافة الي ذلك فإن 65% من الكوريين بين سن 23-34 يحملون شهادة البكالوريوس ، وذلك في الوقت الذي تبلغ فيه هذه النسبة 39% فقط في الدول الصناعية الكبري الاعضاء في منظمة التعاون والتنمية.
 وفق ذات المصدر فإن التفوق الاكاديمي في المجتمع الكوري يكاد يكون هوسا وطنيا، ويعتبر التعليم منصة الانطلاق الرئيسية لإرتقاء السلم الاجتماعي والالتحاق بالطبقة الوسطي. وفي كوريا فإن الطالب الممتحن للشهادة المؤهلة للدخول للجامعة يعتبر فاشلا اذا كان ينام أكثر من اربعة ساعات في اليوم كما قالت سيدة كانت الدليل السياحي لنا في عام 1997 (وكنت من بين اخرين في زيارة الي كوريا حينها) وكانت لها بنت تستعد للامتحان في تلك السنة.  مما يجدر بالذكر أن إهتمام كوريا بالتعليم ليس حديثا، إذ تلاحظ أن مستوي التعليم بالمقارنة كان عالياًحتي في عام 1961 إذ كانت نسبة الامية  حينها تقارب الصفر وكل السكان تقريباً قد أكملوا علي الأقل تعليمهم الابتدائي. إن التعليم الجيد هو اساس التنمية ، وذلك مما علم من اسسها بالضرورة.

-4-
ثلاثة مداميك للتنمية
1.    إنشاء الطرق السريعة (Express Highways )
 يقول المستر كم ، أن الرئيس بارك قد شاهد ،لأول مرة ، الطرق السريعة (هاي ويز) خلال الحرب الكورية 1953 عندما تم ابتعاثه للولايات المتحدة الأمريكية للدراسة في مدرسة المدفعية. ثم زار الرئيس ألمانيا الغربية عام 1964 وأعجب بمنظومة الطرق السريعة فيها. وقد أخبره الرئيس الألماني أن ألمانيـا فخـورة بأنها أول مـن بني طريـق سريع في العالـم وهو رمز للنهضة الألمـانية بعد الحرب ( German Revival). وعندما سـافر الجنرال بارك بالطريق السريـع من بون إلي كولـون أوقف السيارة مرتين ليختبر الجزيرة الفاصلة بين المسارين وسطح الطريق والتقاطعات وما الي ذلك وليسأل مرافقه عدة أسئلة حول الطرق السريعة من ناحية الهندسة و التمويل وغيرها. وفي أحد إجتماعاته مع المستر ايرهارد المستشار الألماني الذي تمت علي  يديه المعجزة الألمانية عندمـا كان وزيراً للاقتصـاد،  قال له ايرهارد أن الطريقة الوحيدة لهزيمة الشيوعيين هي بناء اقتصاد قوي، وأوضح له أهمية الطرق السريعة في تحقيق المعجزة الألمانية ، بعد الحرب العالمية الثانية. وعند عودته أخبر الرئيس بارك المقربين منه أن كوريا سوف لن تتقدم مالم تبدأ في أنشاء طرق سريعة. وعليه وعندما نجحت كوريا في تنفيذ خطتها الخمسية الأولي 1962-1966 وازداد حجم البضائع المنقولة وأصبحت طاقة النقل عائقاً رئيساً للنمو، أصبح من الواضح أن قطاع النقل يحتاج إلي إصلاح هيكلي شامل.  وبناءا عليه فقد طلبت الحكومة الكورية من البنك الدولي قبل نهاية الخطة في عام 1965 إجراء دراسة حول قطاع النقل.
وبالرغم من أن التقرير النهائي لدراسة البنك لادولي لم ترد به أي توصية بإنشاء طرق سريعة ، نسبة للنقص الكبير في الكهرباء والمعدات ونقص الخبرات حسب رأي الفريق، إلا إن الرئيس بارك لقناعته بأن الخطة الخمسية الثانية ستفوق انجازاتها الخطة الخمسية الأولي وأن الطلب علي النقل سيزيد عن توقعات فريق البنك الدولي ، ولأعتقاده بأهمية الطرق السريعة في التنمية ، قرر في عام 1967 أن لا يأخذ برأي فريق البنك لدولي و أن تبدأ كوريا في انشاء شبكة طرق سريعة. و بالرغم من عدم تفاؤل الجميع داخل كوريا وخارجها بنجاح المشروع إلا إنه حزم أمره علي التنفيذ . وكان من رأيه أن التنمية الاقليمية ستزداد وتيرتها نتيجة لذك والخيارات الاقتصادية للمواطن ستزيد. ولضمان نجاح المشروع فقد أصبح هو شخصيا مشرفاً علي المشروع عن طريق مكتب متابعة يتبع له شخصيا.

كانت التقديرات الاولية لتكلفة الطريق الذي تم اختياره ليكون أول طريق سريع سيول - بوسان (428 كم) وفقا لبعثة البنك الدولي عالية للغاية وكانت وقتها تفوق الميزانية السنوية لكوريا بنحو 25% وتمثل نحو30% من الناتج المحلي الاجمالي لكوريا في 1967. ولم يثن ذلك الرئيس بارك فأمر بتجميع خيارات بديلة للتكلفة من جهات أخرى ، (من شركة هونداي للانشاءات و سلاح المهندسين بالجيش ووزارة الطرق )، بما في ذلك النظر في إمكانية تخفيض بعض البنود التي لا تعتبر ضرورية.  كذلك كلف للرئيس 3 مهندسين في القصر لمراجعة التقديرات تحت اشرافه الشخـصي. وكانت النتيجة أن تم التوصل الي تقديرات تكلفة تقل كثيرا عن التقديرات السابقة. بعدها تـم وضع الخيارات لمسارات الطريق، كما تم وضع خطة سرية لشراء الارض (وليس مصادرتها) ثم استدعي محافظي الولايات التي يمر بها الطريق وأمرهم بشراء أراضي الطريق بالسرعة اللازمة قبل أن ترتفع الاسعار. ولمقابلة التحدِّي -نظرا لانعدام الخبرات- تمت الاستفادة من مهندسي القوات المسلحة وخريجي الكليات الفنية وتدريبهم، واكتمل الطريق فعلاً في سنتين وخمسة أشهر(أقل بسبعة أشهر من المدة المخططة للانشاء). ليس ذلك فقط بل كان متوسط تكلفة ال "كم" الطولي 20% فقط من تكلفـة شبيهه في طريـق طوكيـو - ناقويا في اليابـان الذي تم القياس عليه بواسطة فريق البنك الدولي. وبعد التنفيذ أخذ الطريق السريع سيول - بوسان  الرقم القياسي لأقل تكلفة انشاء كيلومتر طولي من الطرق السريعة في العالم و أقل فترة تنفيذ وباستعمال امكانيات ومهارات محلية فقط. أما من ناحبة آثار الطريق فيري الخبراء أن الطرق السريعة قد غيرت كلياً الهيكل الاقتصادي والاجتماعي لكوريا وأنها واحدة من أهم العوامل التي حققت المعجزة الكورية ( نمو اقتصادي بمعدلات عالية و لأكثر من أربعة عقود )، بالاضافة الي مساهمتها في ربط المجتمعات الريفية بالسوق والمدينة.
2.    إلاهتمام بالريف
يقول السيد كِم " ينحدر الرئيس بارك من أسرة زراعية ، وطيلة سني حكمه الـ(18) كـان مهموماً لحد الهوس ـبقضايا المزارعين". بعد الانقلاب (1961) بتسعة أيام قام بتخفيض سعر الفائدة علي القروض الممنوحة للمزارعين، وبعد حوالي ثلاثة أسابيع أخرى قام بمبادرة قومية لاعادة التأهيل لتشجيع أو تمكين الكوريين ليكونوا أقل اعتمادا علي الغير. لاحقا وبعدما رأي تعاون سكان بعض القري لاصلاح الاضرار أثناء فيضانات في 1969 جاء في عام 1970 بفكرة السيمول ( القرية الجديدة ) والتي هدفت الي تطوير القري وإيصال خدمات المياه والكهرباء لها وكذلك الطرق (اي نقل المدينة إلي القرية). وسنحت الفرصة بوجود فائض من الأسمنت، وبوجود فائض في الميزانية بوزارة الداخلية – الوزارة المسئولة عن الريف - فأمر الرئيس بشراء فائض الأسمنت لتشجيع صناعة الأسمنت من جهة ومساعدة مشروع السيمول من جهة أخري. تبعا لذلك قامت السلطات بتوزيع الأسمنت علي القري البالغ عددها حوالي 35000 قرية وفقا لعدد الأسر ، شريطة أن يستغل مجموع أسمنت القرية في مشاريع تختارها القرية ، مثلا توسيع الشوارع ، إصلاح بئر ، بناء كبري صغيـر علي الطريـق الموصـل للقرية ... الخ. وفي السنة الأولي نجحت ـ46% من القري في بناء/او انشـاء مشروع ذو فائدة لمجتمع القرية. وبعدها تقرر كل عام منح القري الأفضل فقط دعم حكومي (في شكل اسمنت/حديد ) وفق تقييم يتم بواسطة لجنة مختصة،  أي أن تتنافس القري علي الدعم الحكومي. وبحلول عام 1977م كانت 98% من القري قد نجحت في الحصول علي دعم حكومي واصلحت احوالها. ثم تم تحويل الدعم الحكومي للقطاع الخاص لانشاء صناعات صغيرة في القري. وبنهاية السبيعنات كانت كل القري علي وجه التقريب تصلها البصات علي طرق مسفلته ولها شركات صغيرة للتاكسي. كما تم توصيل المياه للبيوت بالحنفية ( لأن القري كانت قد انشأت خزانات للمياه بالدعم الاول ومنها تنقل المياه بالمواسير إلي البيوت أو من الآبار). وبسبب ذلك انخفضت نسبة الأشخاص المصابون بالامراض المحمولة بالمياه كالدسنتاريا والتايفود.
لقد كانت حالة القري بائسة ايضا من ناحية توفر الكهرباء، إذ في نهاية الستيينات كانت 20% فقط من القري الكورية بها كهرباء. ولأن حركة السيمول وضعت ايصال الكهرباء للقري كأسبقيه فقد تم توصيل الكهرباء إلي 98.7% من القري بنهاية 1979 ، وكذلك تم ايصال التلفونات إلي جميع القري بحلول عام 1978  بعد أن كان يتمتع بها نحو 10% فقط من سكان القري حتى عام 1970.  لكن أكبر آثار الحركة في راي المراقبين كان تمكين النساء ومشاركتهن في شئون القرية، فبعد أن كانت القرارات تتخذ بواسطة  الرجال فقط أصبحت للنساء كلمة بسبب النص علي وجوب ارسال أي أسرة شخص لاجتماعات الحركة في القرية . كما أصبح علي القري أن تختار رجل وأمراة لقيادة أي قرية. وقامت جمعيات للنسـاء لصناديـق الادخار وحملات ضـد ضيـاع زمن الأزواج في المقامـرة ( لعب القمار). ومن ابرز آثار ذلك إشاعة روح الديمقراطية في القري بالتداول حول المواضيع التي تهم القرية واتخاذ القرار ديمقراطياً.
3.    الاهتمام بالبيئة :مشروع تشجير كوريا الجنوبية
في الاربعينات من القرن الماضي قام اليابانيون الذين كانوا يحتلون كوريا حينها بقطع الغطاء الشجري بغرض صناعة السفن ، ثم في الخمسينات اعتمد الكوريون أيضاً علي قطع الأشجار لأغراض البناء والوقود . وقد كان لكل ذلك تأثير هائل في جعل السيول والامطار أكثر دماراَ بتجريفها للتربة. إذ أصبحت بسبب ذلك سهلة التجريف أو هشة لأن الغابات كانت تمنع السيول وتحمي التربة.
في أول سنة للرئيس بارك في الحكم تم إصدار عدة قوانين خاصة بحماية الثروة الغابية ومنتجاتها وتنظيم الصيد ، وأعقب ذلك قانون حماية التربة والذي خول للحكومة اتخاذ إجراءات الحماية ضد التجريف حتى دون موافقة أصحاب الأرض، علي أن يتم تعويضهم عن خسائرهم الناتجة عن تلك الإجراءات. وبسبب تشجيع البحوث في مجال الغابات تم في 1967 استنباط تقاوي سريعة النمو للأشجار التي تناسب المناخ الكوري وتم توزيعها للتشجير. وبعدها تم وضع خطة عشرية للتشجير وحماية البيئة وقد حققت الخطة أهدافها في ستة سنوات بدلا عن عشرة . وبما أن السكان كانوا يعتمدون في الوقود علي الغابات ، فقد تم تطوير مشروعات لغابات الوقود حول حرم القرية، ثم تم تطوير أفران أكثر فعالية بـ30% من سابقاتها. وتم كذلك توصيل الكهرباء واستجلاب الفحم وزيوت الوقود حيث حلت مشكل الوقود في الريف بحلول عام 1977.
وقد جاء في احصاءات مصلحة الغابات لعام 1984 (كم 1994: 103 ) أن 51% من الأشجار في كوريا كان عمرها أقل من عشر سنوات وأن 84% عمرها أقل من عشرين عاماً. أي أن 84% من الموارد الغابية الكورية في 1984 كانت قد تمت زراعتها في الثلاثة عشرة سنة الاولي من  حكم الرئيس بارك.
-5-
مناقب شخصية
 
يقول اختصاصيو الادارة من الخواجات     The manager can make it or break it ،أي فيما يختص بالنجاح والفشل ف "كلو يعتمد علي المدير". وما يصح علي الشركات يصح كذلك، بصورة أو بأخري، علي الدول.
في رأي المستر كم ،" كان الرئيس بارك رجلاً قليل الكلام لكنه يجيد الاستماع ، وعندما يتم الوصول إلي قرار ، بعد النقاش المستفيض حول الموضوع مع مستشاريه او في مجلس الوزراء، يتابع ويتأكد من أن القرار قد تم تنفيذه علي أكمل وجه". ويضيف ،" كان رجلاً منظَّماً في أعماله إذ كان يأخذ وقائع اجتماعاته بنفسه وينظم ويقوم بحفظ ملفاته شخصياً ، وكان يقوم بمراجعة ملفاته وأوراقه دوريا ليتذكر القضايا و ما تم بشأنها . كان  متقشفا في أكله وشربه ، وكان مثلا حيا في دعم الصناعة الكورية ، فقد كان يستعمل المنتجات الكورية في كل إحتياجاته ، وحتى في القصر الرئاسي (البيت الأزرق) كان يستعمل الأواني المصنوعة في كوريا. وبشهادة الكثيرين لم تكن للرئيس بارك أي نزعات جشع أو فساد ، فقد كانت نظافة يده وبعده عن الفساد معلومة للجميع ، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً بعد إغتياله في عام 1979، إذ لم تتهمه أي جهة بأي فساد(ص117).
 كان اهتمام الجنرال بارك موجها بالكلية الي منجزات خططه الخمسية . يقول السيد كيم  " صحبت الرئيس في كثير من رحلاته في طول البلاد وعرضها وكان عندما يري المنازل القروية الجميلة والمصانع والسـدود وغيرها كان يبدو فرحاً وسعيداً كما لو كانت أملاكه الشخصية" (ص117). و يضيف "لم يكن أبداً مهتماً بممتلكاته الشخصية وكل اهتمامه وانتباهه كان موجهاً للاقتصاد الكوري".
ويقول "كان الرئيس بارك ملتزماً بتحقيق العدالة الاجتماعية واهتم بوجه خاص بعمال المصانع والمزارعين والفقراء عموماً . في عام 1974 زادت الدخول الريفية بمعدلات أكبر من الحضرية بفضل السياسات الزراعية القاصدة وعندما أخبروه بذلك لم تكن تسعه الفرحة". ويضيف "وكان سعيداً بكهربة الريف لأنه كان يتذكر معاناته شخصياً من عدم وجود الكهرباء في صغره. وعندما سمع بأن سكان الريف بدأوا يستمتعون بأكل الطعام دافئاً بفضل الأفران الكهربائية وينعمون بوجود المراوح والثلاجات عبَّر عن فرحته كأنما هؤلاء الفلاحين هم من عشيرته أو أهل بيته شخصياً" (ص118).
  ويقول أيضا "وضع الرئيس لنفسه قانوناً وهو أن يقوم عند زيارته للأقاليم الكورية المختلفة بزيارة المصانع والمدارس الفنية العليا ومراكز التدريب المهني ، كما يقوم بزيارة الداخليات وغرف الطعام والحمَّامات ويسأل عن أجور العال. وكان يدعم تدريب العمال حتي يكون مسوغاً للمطالبة برفع الأجور وزيادتها لتساعد في تحول العمال إلي الطبقة الوسطي. ولم يكن يرضي عن رجال الأعمال وأصحاب المصانع ذوي المكاتب الوثيرة والعربات الفارهة ، ويكون مسروراً من أرباب العمل والمدراء الذين يأكلون مع الموظفين والعمال في كافتيريات المصنع. ويعتقد أن المشاكل العمالية سوف تقل عند أصحاب المصانع ذوي العلاقات الحسنة الذين يحسنون معاملة موظفيهم وعمالهم حتى لو كانت الاجور نسبياً ضعيفة" (ص119).
-6-

شهادات
يقول دونالد كريق سفير الولايات المتحدة الأسبق في كوريا الجنوبية (1989-1993) في مقال له في مجلة تايم الأمريكية الصادرة في 23/8/1999 " لم يكن الجنرال بارك الشخص الذي تتمني أو يمكن أن تختاره الولايات المتحدة لقيادة كوريا ، ولكنه كان بالضبط الرجل الذي تحتاجه كوريا في تلك المرحلة". و يضيف " لم يكن تعامل الولايات المتحدة معه سهلا لأن أجندته كانت تمليها عليه مصالح كوريا الهامة "التأمين تجاه كوريا الشمالية والقوة الاقتصادية التي ينشدها". وقد كان يعتقد جازما أن اقصر طريق الي الوحدة بين الكوريتين هو القوة الاقتصادية. ويضيف  بأن "قوة الحكومة الكورية في عهد الر ئيس بارك كانت أكثر ماتكون وضوحا في تنفيذ الخطط الخمسية  للتنمية، وهي دولة قوية Hard state (عكس الدولة الرخوة)  قادرة علي وضع سياساتها موضع التنفيذ" .
ويقول السفير كريق "بعد إغتيال الجنرال بارك بواسطة رئيس جهاز الامن في عام 1979 تمت إدانته كدكتاتور بواسطة الرأي العام الكوري لمدة عشرة سنوات ، لكن بعد حين كانت منجزاته الاقتصادية الضخمة ووطنيته وحياة التقشف التي عاشها سببا لاعادته الي موقع متقدم في استفتاءت الراي العام. وحتي خصمه اللدود الرئيس لاحقا كم دي جونق شهد له بدوره في تحويل كوريا من دولة نامية الي قوة صناعية معتبرة ، تشهد له بذلك المنشآت الصناعية الضخمة للحديد والصلب واحواض السفن والطرق السريعة  والقطارات تحت الارض في سيول والصناعة بانواعها.  ويعترف له الكوريون بأنه الرئيس الأكثر كفاءة والأبقي اثرا من كل رؤساء كوريا الجنوبية".  و بينما تعتبره الاجيال الحديثة أنه اعاق التحول الديمقرطي الا إن الجيل الاكبر سنا يعتبره اعظم رئيس في تاريخ كوريا.
عندما اغتيل الرئيس بارك في 1979م قال رئيس الوزراء الياباني في تعزيته للسفير الكوري لدي اليابان إن إعادة تشجير كوريا هو أصعب وأقيم المنجزات في عهد الرئيس بارك وأهم من كل منجزاته الاقتصادية ( علمابعمقها وكثرتها ). وفي عام 1999 اختارته مجلة تايم الامريكية كأحد عشرة من أعظم الاسيويين في القرن العشرين.

19مارس 2016

sumbadda@gmail.com

 

آراء