الدكتور منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب (2/3): “قراءة في منهج بحثه العلمي”

 


 

 

تمهيد
تطرقتُ في الحلقة الأولى من هذه الورقة إلى الأدبيات التي استندتُ إليها في تحليل منهج البحث العلمي للدكتور منصور خالد، وهي صنفان؛ أحدهما مؤلفات منصور، التي اخترتُ منها "حوار مع الصفوة"، و"النخبة السودانية وإدمان"، وبينتُ مسوغات هذا الاختيار؛ والأخرى الأدبيات المساعدة لفهم منهج منصور متعدد التخصصات، الذي استخدمه في معالجة المشكلات التي تناولها. واتطرق في هذه الحلقة الثانية إلى المرتكزات الرئيسة لذلك المنهج متعدد التخصصات، ودورها في توصيف المشكلات، وطرح الفرضيات والأسئلة، وعرض المتون والحواشي من الناحيتين المنهجية واللغوية-الأسلوبية.  

توصيف المشكلات
في حواره مع الصفوة طرق مَنْصُور طرقاً مُنجّمًا على طبيعة المشكلات التي يعاني منها السُّودان، وناقشها بتواتر منتظمٍ في كتاب النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، حيث حصر جذورها في قضيتن محوريتين، هما الوحدة الوطنية، والتنميَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة (أو الخروج من أسار التخلف)، ثم ربطهما بالديمقراطيَّة التي تجمع بين طرفي المعادلة المختلين، وتُشكِّل في الوقت نفسه الضلع الثالث للتحديات التي لم تحظ باستجابات النُخْبَة النافذة. فلذلك تناسلت من قضيَّة الوحدة الوطنيَّة مشكلة الهُّوية، التي أفقدت السُّودان وعيه بذاته، وحولت عناصر قوته إلى ضعف وموات، وجعلت رقعة أرضه "حملاً ثقيلاً على القارة [الإفريقية] بدلاً من أن تكون مصدر ثراء وعطاء"، بل أضحى السُّودان "كماً مهملاً في قارة يتحدث باسمها في المحافل من هم أقل عدداً وأضعف بنية،" وفوق هذا وذاك فإن "التراث الحضاري الذاخر" بأرض المليون ميل مربع "أصبح سلاحاً لتفتيت" وحدة السُّودان. أما حركة التنميَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في إطارها العام، كما يرى مَنْصُور، فقد أغفلت الريف، وركزت كل قشور التطور والتجديد في مراكز التجمعات الحضرية، بالرغم من أن الريف هو المستودع الدائم للقيم التقليدية، التي يقف كثير من تصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور والتحديث الذي كان من المفترض أن تقوده النُخْبَة الحاكمة والجهات المعاونة لها. وحصيلة هذا الفشل، حسب قراءة مَنْصُور، تجسدت في نظم حكم متعددة لم تراع الفرق بين الأطر السوسيولجيَّة الأصيلة التي نشأت فيها، والسياسات القصديَّة التي يمكن أن ترتكز عليها محلياً. وأخيراً يشكل تراكم هذا الإرث سلسلة من الدساتير المؤقت الفاشلة، ونظم الحكم المستجلبة، وبعض التطبيقات الأيديولوجيات الذاهلة عن الواقع الحياتي بتمزقاته الطائفيَّة والقبلية، وكوابح تخلفه الاجتماعي والاقتصادي، وثنائيَّة جهله وفقره. وهنا يبرز مَنْصُور عقم الفكر النخبوي الذي استسهل الحلول الجاهزة، دون إدراك واعي بأن القوالب الجاهزة لا تصلح في حل القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؛ لأن "المجتمعات كائنات حية، تقيد خط سيرها ظروف اجتماعيَّة معينة ... ومناخ ثقافي معين .. وديناميكيَّة اجتماعيَّة وسياسيَّة معينة... وفي ضوء ذلك لابد أن تطوع النظريات والأفكار لتناسب الواقع المعاش ... ولتناسب المرحلة الاجتماعيَّة المعطاه."  
    بهذه الكيفيَّة حدد مَنْصُور الأبعاد الرئيسة للمشكلات السُّودانيَّة التي تناولها بالعرض والتحليل والمقارنة بتجارب الشعوب النظيرة في حواراته مع الصفوة، وأخيراً خلص إلى أنَّ مسؤوليَّة التدهور الذي شهده السُّودان بعد الاستقلال يجب أن تُوضع على عاتق النُخْبَة السُّودانيَّة التي فشلت في تبني "سياسات قصديَّة تقوم على الوعي البصير بالمعطيات الموضوعيَّة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والتحليل الموضوعي لهذه المعطيات بصورة تفضي إلى نتائج محدودة. ولا تغني هذه النتائج بمفردها، بل لابد أن يتبعها تقويم سليم لانعكاساتها على الواقع الاجتماعي، والوصول بهذا التقويم إلى نهاياته المنطقية، ومنها التيقن من قدرة هذا الواقع على تقبل تلك النتائج."
    إذاً المسؤوليَّة السياسيَّة والإداريَّة والأخلاقية، من وجهة نظره، لا تقف فقط عند النُخْبَة الصانعة للقرار وحدها، بل تشمل الذين أعانوا على ترجمته على صعيد الواقع، والذين ساعدوا في التبشير له في أوساط الجماهير، وبموجب ذلك أضحوا يتحكمون في زمام الشأن السياسي والاقتصادي للدولة الذي يخدم مصالحهم القطاعيَّة دون النظر في رجاحة مخرجاته العامة. وبهذا الافتراض صوب مَنْصُور بوصلة أبحاثه تجاه دور النُخْبَة السُّودانيَّة المسؤولة "عن الاختباط السياسي، والتشويش الفكري، والعربدة الاقتصاديَّة التي عانت، وما زالت تعاني، منها البلاد على اختلاف المنابت الفكريَّة لهؤلاء النخبويين. وبسبب هذه العربدة الاقتصادية، وذلك التشويش الفكري باءت كل جهود أهل السُّودان من أجل التطور والتحديث بالخيبة والفشل، حتى أصبحنا مدمني فشل وخيبة." إذاً السؤال المحوري الذي يطرح نفسه في المضمار هو: ما المنهج البحثي الذي استخدمه مَنْصُور في تفكيك مفردات هذه المشكلات المعقدة وعلاقتها الجدليَّة بفشل النُخْبَة السُّودانية؟ وما طبيعة الفرضيات والأسئلة التي يطرحها في هذا الشأن؟ وكيف حاكم المنطلقات الايديولوجيَّة لتلك النُخْبَة وتطبيقاتها على صعيد الواقع؟ وكيف وازن بينها وأشباهها عند شعوب العالم النظيرة؟

المنهج متعدد التخصصات
يقول مَنْصُور في توطئة النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل: "انتويت العُكوف على هذا العمل بكل ما يستلزمه البحث العلمي من جِديَّة في الاقتراب، وموضوعيَّة في التحليل، واستشهاد مُوثقٍ في التدليل"؛ دون اللجوء إلى "الأحكام الانطباعيَّة القاصرة" التي قادت السُّودان إلى مسارب التيه والتخبط. وبهذه الكيفيَّة حدد مَنْصُور إطاراً عاماً لمنهجه البحثي، دون يتبنى منهجاً بعينه من مناهج العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة المتعارف عليها أكاديمياً؛ لكن على مستوى التطبيق اهتم بتوصيف للمشكلات التي عالجها بحثياً، وطرح الفرضيات الموجبة والسالبة، والأسئلة المفتاحية، ثم ربطها ربطاً محكماً بالظواهر السياسيَّة والبنى الاجتماعية من حيث التحليل والنقد والمقارنة والموازنة. وبذلك زاوج مَنْصُور بين مناهج العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة المختلفة، حيث استأنس بالمنهج التاريخي الوصفي، والمنهج المقارن، وأدبيات علم الاجتماع السياسي.
استخدم مَنْصُور المنهج التاريخي بكثافة لدراسة أحداث الماضي المرتبطة إيجاباً وسلباً بمشكلات أبحاثه المحوريَّة (الوحدة الوطنيَّة والتنميَّة والديمقراطية)، لمعرفة كنهها السياسي والاجتماعي والثقافي، وانعكاسات ذلك على الحاضر، أو لتوظيفها مثلاً في دحض بعض الفرضيات القائم على منطلقات أيديولوجية، لا تقرأ التراث الإسلامي قراءة جيدة، ولا تميز بين ما هو معطى "تاريخ حضاري لا يقف عند الدين، وبين الدين كمرجع للقيم الأخلاقيَّة والقواعد السلوكية." ونوثق لذلك بالمبحث الذي عقده في الفصل الثاني (ص: 400-443) من الباب الثاني في المجلد الثاني من كتاب النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، بعنوان: "التجربة التاريخيَّة الحقائق والأوهام". وفيه دلل مَنْصُور بشواهد التراث الإسلامي، مبيناً عجز الدعاة عن "التوفيق بين متطلبات الحضارة المعاصرة التي لا فكاك لنا منها، وبين القيم الساميَّة التي أرساها الإسلام، كما أرستها الأديان كلها من قبل، كمرجع أخلاقي يستقيد البشر نحو الحق والخير والجمال. فشعار "تحكيم شرع الله" شعار لا معنى له إن افتقد قاعدة معرفيَّة متكاملة تتناول القضايا الحقيقيَّة التي يتجه الشرع إلى معالجتها، وما كل هذا القضايا هي القذف والشرب والزنا، وما كل القضايا قد استوعبها القرآن في آيات أحكامه. لهذا يتوجب على المجتهد أن يبين لنا: كيف يمكن تشكيل المجتمع الإسلامي المعاصر وفق أصول العقيدة بدلاً من [التجاوب مع] الواقع المعاصر؛ لأنَّ تجاوزه يجعل من تحقيق النموذج المثالي حلماً طوباوياً وهدفاً مراوغاً." لذلك يرى مَنْصُور أن الفكر الإسلامي المعاصر يعاني في مشكلة الانفتاح تجاه المنتوج الفكري للآخر، والعجز عن الانعتاق من ربقة التجارب التي ينظر إليها بأنها إرث مقدس، وذلك خلاف ما فعله الطبري في تاريخه، وابن الاثير في كامله، وابن خلكان في وفيات أعيانه، وابن خلدون في مقدمته. ولاشك في أن هذه المنهج التاريخي قد أسس في ضوء فرضيَّة مَنْصُور القاضية بأن التاريخ منظومة متكاملة الحلقات، وأن "الحكماء دوماً يعتبرون بماضيهم لأن استلهام الماضي والعبرة منه باب من أبواب التوفيق."
اعتمد مَنْصُور أيضاً على المنهج المقارن في تحليل بعض الأحداث أو الوقائع، بحجة أن المقارنة تعين في معرفة أوجه الشبة والاختلاف بين القضايا المقارنة، وفي معرفة الأسباب التي أفضت إليها والنتائج التي ترتبت عليها؛ لأن عمليَّة الربط بين السبب والنتيجة تعطي فكرة متكاملة عن طبيعة الإجراءات التي تمَّ اتخاذها في هذا الشأن، أو تقييم التجربة اللاحقة في ضوء النتائج التي توصلت إليها التجربة السابقة. وفي هذا الاطار نلحظ أن مَنْصُور قد ناقش قضيَّة الوحدة الوطنيَّة والتنميَّة والديمقراطيَّة في السُّودان من جوانب متعددة، وقارن بينها وأشباها ونظائرها من حيث النجاح والفشل. ومن ضمن التجارب التي حظت باهتمامه الكبير تجربة الهند التي يرى بينها والسُّودان قواسم المشتركة من حيث التنوع الديني والعرقي والثقافي، والواقع الاقتصادي. والشاهد في ذلك قوله إن: "الهند أخذناها نموذجاً نقايس عليه تجارب السُّودان بحكم ما بين القطرين من تشابه في تنوعهما؛ وتناولنا سياساتها الاقتصاديَّة في عهد نهرو وابنته أنديرا، والتي قامت كلها على مبدأ القضاء على الفقر. لا يزعم أحد بأن الهند استطاعت القضاء على الفقر قضاءً مطلقاً، إلا أن أحد، أيضاً، لا يستطيع أن ينكر كيف أن تلك الدولة التي حكم عليها العالم الاقتصادي السويدي قونار ميردال بالفناء في كتابه "Asian Dilemma" قد استطاعت أن تحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء لسكانها الذين يقاربون ... [بليون] نسمة، وأن تصبح الدولة الصناعيَّة الثامنة في العالم، وأن تقتحم ميدان الذرة وعلوم الفضاء، وأن تخلق برجوازيَّة مكتملة التكوين هي الدعامة الحقيقة للديمقراطيَّة في الهند. ومن بين السياسات التي أرستها وأطرتها دستورياً تلك التي تعالج الظلامات التأريخيَّة التي أدت إلى حرمان طوائف معينة من الخدمات (الصحة والتعليم) وفرص التوظيف." بهذه الكيفيَّة عرض مَنْصُور تجارب الهند الناحجة، ثم قايسها بتجارب السُّودانيَّة الفاشلة بالرغم من القواسم المشتركة بين القطرين. وبناءً على هذا الاستنتاج أرجع فشل التجارب السُّودانيَّة المقارنة إلى القصور الفكري الذي لازم النُخْبَة السُّودانية، وجعلها تتخندق في منطلقاتها الفكريَّة دون وعي بتجارب الآخرين، الأمر الذي جعل "خطابها السياسي للقوى الحديثة خطاباً شائهاً متناقضاً؛ إذ لا سبيل للإصابة في التدبير دون ترتيب منهجي للأمور."
استند مَنْصُور إلى هذين المنهجين في تحليل القضايا التي طرحها وقايسها بتجارب الآخرين، ثم وظفهما في تعامله مع أدبيات علم الاجتماع السياسي التي أعانته على دراسة الظواهر السياسيَّة في سياقاتها الاجتماعية. وهنا برزت قضيَّة السُّلطة، والشرعيَّة السياسية، والديمقراطية، والبيروقراطية، والأحزاب السياسية، والنُخْبَة (الصفوة) الحاكمة. إذ كانت النُخْبَة تمثل بيت القصيد في مناقشات مَنْصُور وحواراته؛ لأنه حمَّلها مسؤوليَّة الفشل، عازياً أزمتها الحقيقيَّة للتناقض الفكري والتشقق الذاتي الذي أعاق عمليَّة تسخير أفكارها ونظرياتها وأيديولوجياتها المستجلبة لخدمة القضايا الوطنيَّة، كما جعل طروحاتها الفكريَّة متناقضة مع سلوكيات أصحابها وممارساتهم الحياتية. وبناءً على مفاهيم علم الاجتماع السياسي قسم مَنْصُور النُخْبَة السُّودانيَّة التي تعاورت السُّلطة منذ الاستقلال إلى أربع مجموعات: تشمل أهل النظر والفعل، وأهل النظر بلا فعل، وأهل الفعل بلا نظر، والمشاغبون الذين لا يملكون نظراً ولا فعلاً. وعزا مَنْصُور فشل هذه المجموعات في المقام الأول إلى الحواضن الاجتماعية؛ لأن المجتمع السُّوداني، من وجهة نظره، يتناقض محلياً وقيمياً مع العقلانيَّة وفردانيَّة المجتمع المعاصر. وفي هذا يقول مَنْصُور:

"فإعلاء اعتبارات الحسب والنسب، مثلاً، على اعتبارات التميز الفردي يتعارض مع قيم المجتمع المعاصر، والمفاهيم الموروثة من ثقافة عهد الاسترقاق، والتي تميز بين السيد والعبد، وبين الذي يُخدم والذي يَخدم تتناقض مع مفهوم تقديس العمل، كقيمة في حد ذاته في المجتمع المعاصر، والزمن كمفهوم رياضي يحسب بالساعة والدقيقة، ويقاس به الأداء والانتاج في المجتمع العصري الفردي يصبح في المجتمع التقليدي زمناً اجتماعياً تتحكم فيه المناسبات الاجتماعية، كعيادة المرضى، وتشييع الموتى على حساب المسئوليات العامة. كما أن طبيعة الأسرة الممتدة، وما يصحبها من اتكالية، يدفع إليها البعض ما توفره تلك الأسرة من ضمان اجتماعي (وإن كان بدائياً في شكله) لا يتفق والمفهوم الراسخ للمسئوليَّة الفرديَّة في المجتمع الحديث، وما لتلك المسئوليَّة من انعكاسات على الأجور والانفاق مثلاً. ففي المجتمع الفردي يرتب المرء حياته على قدر أجره، أما في المجتمع الوفائي التقليدي فإن الأجر الفردي ليس ملكاً فردياً، بل هو لملك تتحكم فيه مسئوليات اجتماعيَّة بدءاً بمسئوليَّة  الأسرة الممتدة."        
    
إذاً رسالة النُخْبَة السُّودانية، حسب قراءات مَنْصُور وتحليلاته السياسية-الاجتماعية، يجب أن تهدف إلى تغيير هذا الواقع الاجتماعي؛ ليحدث تناغم بين مؤسسات الدولة العصريَّة التي ينشدها المثقفون واستجابات المجتمع المحلي الذي يعيشون بين ظهرانيه؛ لكن مثل هذا التغيير يحتاج إلى عزم للإقلاع عن ثقافة التقليد والشفاهيَّة الموروثة إلى ثقافة التوثيق والتعويل على الدراسات الموضوعيَّة والإفادة من تجارب الشعوب النظيرة؛ لوضع منهج عملي يسهم في الارتقاء بالتربيَّة الوطنية، والتنميَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المتوازنة بين الريف والحضر.      

الفرضيات والأسئلة
الفرضيات البحثيَّة عبارة اقتراحات أو تخمينات ذكيَّة يصوغها الباحث؛ لشرح ما يلاحظه من ظواهر تستدعي البحث والتنقيب  والمعالجة. والفرضيَّة من هذا المنظور تكون مرشداً للدراسة؛ لأنها تساعد في تفسير العلاقة الجدليَّة بين متغيرين أو أكثر، أحدهما مستقل والآخر تابعاً له يمثل النتيجة. وفي النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، نلحظ أن مَنْصُور قد وضع فرضيَّة جوهرية، بنى عليها مفردات أطروحته، وقوام تلك الفرضيَّة هو: أنَّ جذور الأزمة السُّودانيَّة ليست مرتبطة فقط بأزمة الحكم وأزمة الهُّوية، وإنما هي في المقام الأول "أزمة رؤيَّة استراتيجية". والمأزوم الحقيقي هو المثقف أو المتعلم السُّوداني (الصفوة) الذي يدعي ملكيَّة صنع القرار باسم أهل السُّودان جميعاً، وذلك بحكم سيطرته على الحكم، والمال، والتعليم، ووسائل الإعلام الحديثة. وفي ضوء هذه الفرضيَّة يربط مَنْصُور أزمة الرؤيَّة الاستراتيجيَّة بتصدع الذاتيَّة النخبوية؛ لأنها تعيش في حالة تناقض عضوي بين الفكر والممارسة، والواقع السلبي للمجتمع والإدانة اللفظيَّة لهذا الواقع ظاهرياً. والشاهد المستخلص من التجربة العملية، حسب رؤيته، هو ازدواجيَّة النخب السياسيَّة الحداثيَّة التي تطالب بالديمقراطيَّة التعدديَّة والحريات العامة في السُّودان، وتقر الممارسة النقيض في منابتها الفكريَّة (البعثية، والناصرية، والشيوعيَّة اللينينية، واللجان الثورة) التي لا تؤمن بإطلاق الحريات العامة، بل تعزز هيمنة الحزب الواحد الحاكم، وبعضها يعتبر التعدديَّة الحزبيَّة خيانة وطنية. ومن خلال سرده التاريخي والتحليلي استطاع مَنْصُور أن يبرز هذا الازدواج الفكري من واقع الممارسة السياسيَّة في السُّودان، للوصول إلى نتيجة مفادها أن النُخْبَة السُّودانيَّة تعاني من "تشقق ذاتي" لا يؤهلها إلى قيادة ثورة اجتماعيَّة في بلد تحكمه قيم الإرث الصوفي، وديناميات النظام القبلي، وتراث الاسترقاق البغيض. ويرى أن حواضن هذا التشقق تتمثل في الأحزاب السياسيَّة والمؤسسات النقابيَّة التي لا ترعى في الديمقراطيَّة إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، بل تتعصب لخدمة مصالح القطاعات المتعارضة مع الصالح العام.
    إلى جانب الفرضيات الموجهة لمسار البحث العلمي والتنقيب، يطرح مَنْصُور الأسئلة الوصفيَّة والتحليليَّة المتصلة بمشكلة البحث، وأهدافه، وفرضياته، وليس بالضرورة أن يجيب عن كل الأسئلة التي طرحها، بل المهم أن تكون الأسئلة المطروحة بمثابة حافزٍ ذهني يدفع الباحث إلى الاستئناس بالمصادر التي يمكن أن تفيده في الإجابة عنها، وتخرجه أيضاً من حيز الوصفي التاريخي للأحداث إلى رحاب التحليلي الموضوعي الذي يقدم قراءة موضوعيَّة ما بين السطور، وما وراء الأحداث المتأثرة بواقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي. فمثلاً عندما يتناول قضيَّة الوحدة الوطنيَّة التي تمثل الضلع الأول في مثلث المشكل السُّوداني (الوحدة الوطنية، والتنمية، والديمقراطية)، يطرح مَنْصُور أسئلة جوهريَّة ومحورية، مثل: "هل هناك هيمنة إقليميَّة أو عنصريَّة على السياسة الوطنيَّة في السُّودان؟ وإن كان الرد بالإيجاب، فما هي مظاهر هذه الهيمنة؟ أوصحيح أن هناك رواسب ثقافيَّة تعكس لوناً من الاستعلاء العنصري، مازالت تؤثر على صنع القرار السياسي دون أن يعي صانع القرار بهذه الرواسب لأنها تتملك عقله الباطن؟ أوصحيح  أن هناك استقطاباً دينياً يهدد هذه الوحدة الوطنيَّة التي لم تكتمل، وإن هذا الاستقطاب هو نتاج رؤيَّة للدين معينة، انعكست في توجهات معينة منذ عام 1968،  وسياسات معينة منذ سبتمبر 1983 أصبحت هي النقطة المرجعيَّة للعلاقة بين الدين والسياسة؟ ثم ما هي الصلة بين هذه السلفيَّة الحديثة وبين الإسلام السُّوداني في الممالك القديمة، والتي تصالح فيها الإسلام مع الواقع السُّوداني بكل وثنيته؟"
لا جدال في أن هذه الأسئلة الجوهريَّة ومثيلاتها ترتبط بقضيَّة الوحدة الوطنيَّة ومشتقات الأزمة التي تمخضت عنها في السُّودان، وقد أجاب مَنْصُور عن معظمها بطريقة علميَّة مقنعة، تقوم على البحث والاستقراء، والتحليل والمقارنة، وعرض النتائج المترتبة على ذلك. فللقارئ الحقّ أن يختلف في بعض ما توصل إليه مَنْصُور، وله الحق أيضاً أن يحاوره في فضاءات الكلمة المكتوبة إن أراد اتفاقاً أو اختلافاً في الرأي؛ لكن ليس من الحكمة أن لا نأخذ الفرضيات الموجبة والسالبة، والأسئلة الجوهريَّة المسكوت عنها التي طرحها مَنْصُور في ثنايا أبحاثه المتعددة.  

الأسلوب اللغوي
يجسد أسلوب مَنْصُور في الكتابة ثقافة متجذرة في نفائس أدبيات الشرق والغرب، وتراث أهل السُّودان؛ ولذلك يقول عنه صديقه جمال محمد أحمد في تقديمه لحوار مع الصفوة عام 1965: "أثلجت غضباته صدور أكثر الشباب؛ لأنه واحد منهم، يتميز عنهم ببيان ينقع، يُعبِّر عن ذاتهم كما يُعبِّر عن ذاته، فهي تحس ما يحس، ولا تملك ما يملك هو، من معرفة بتجارب عالمنا العربي والإفريقي، يتصدى لدقائق الحكم، والإدارة، والتعليم، والثقافة. يستلهم تجاربه الثرة. يخيف الواحد بنشاطه الجسدي والذهني، تأتيك رسائله من أطراف الأرض، يُثبِّت فيها مشاعره وأفكاره، ويحدثك عن الذي قرأ من سياسة وأدب. لا تدري، متى وجد الفراغ؛ وعن الذين لقي من أئمة الفكر والسياسة، ولا يمس واحد منهم استقلاله الفكري، فهو واحد من الحريين الآخرين."  
وعلى مستوى الصياغة الفنيَّة يمتاز أسلوب مَنْصُور بالمتانة اللغويَّة في السبك، والسلاسة والاسترسال في ربط الأفكار والقضايا ببعضها، ويستهويه أيضاً استخدام المحسنات البديعيَّة (الطباق، والجناس، والتورية) وضروب البيان المختلفة (التشبيه، والمجاز، والكناية) التي تضفي على النص رونقاً أدبياً، لكنها أحياناً تكون على حساب الأفكار والرؤى، كما أنه يعضد بعض حيثيات متونه والنتائج المترتبة عليها بآيات من الذكر الحكيم، أو أحاديث نبوية، أو مأثورات سلف، أو أشعار عرب، ومقولات فرنجة مُعرَّبة، أو أمثال سودانية.  
يُوجِّه مَنْصُور خطابه التنويري إلى العامة والخاصة في آنٍ واحدٍ؛ لأن معظم إصداراته في السياسة السُّودانيَّة نُشرت مُنجَّمةً في بعض الصحف السيارة حيث كان يبتغي حوار الصفوة وغيرهم، ثم أعيد تجميعها وترتيبها في كتب ومجلدات تحمل عناوين متفرقة، وذات دلالات وقائعية. وفي خطابه للعام والخاص يميل مَنْصُور إلى فن المنطق القائم على المقدمات، وتحليل الحيثيات، ثم النتائج. وفي بعض الأحيان يستخدم منطقاً إيحائياً يقود القارئ بمفرده إلى النتيجة المتوقعة دون أن يفصح الكاتب عن رأي.
ارتبط أسلوب مَنْصُور أيضاً بالعنف اللفظي عندما يرد على انتقادات بعض الناقمين على مواقفه السياسية؛ لأنه يعتقد أنهم يفتقرون للحشمة العلمية، بدليل أنهم عمدوا للتجريح الشخصي، الذاهل عن مقاصد تلك المواقف. ولذلك وصفهم بأنهم "أخلاط لم يحسن آباؤهم تأديبهم." ووعد بأنه سيتناولهم "كعينات معملية"، يحللها عبر تشريحه لمحنة "السُّودان الحقيقيَّة تماماً كما يُشرِّح أستاذ علم الحيوان في معمله الضفادع والسمك العلجومي." محتجاً بأن "استشراء ظاهرة الابتزاز في السياسة والصحافة تفرض على المرء مسئوليَّة معنويَّة وأخلاقيَّة بل وقانونية، لما في بعض الاتهامات من طابع تجريمي." ولذلك لا يرى لنفسه خياراً "إلا أن يرتع في مثل هؤلاء التالفين حتى يقول الواحد منهم ويلي، وسيكون ويلهم ويلاً طويلاً."
    يرى حيدر إبراهيم أنَّ استخدام العنف اللفظي المفرط يُخرج مَنْصُور "من حُلْم العلماء وهدوئهم"، ويدفعه إلى لزوم ما لا يلزم، بدليل قوله: "ولنا لهؤلاء صواقع مصمتات، نريهم بها اللمح الباصر، سيما وأغلبهم كانوا من حملة المباخر حول الهيكل المايوي، وحمل المباخر درجة أدنى من السدانة... ثم هناك قبيل آخر، لا هو ينتمي للفكر ولا هو ينتسب للأدب؛ مع أهل تلك الملة الخبيثة كان أمامنا خياران: إما أن نطرحهم إطراح القلامة لأنهم أدنى في حساب الأحياء من الصؤابة، وأهش في حساب الفكر من الثمام. وإما أن نعالجهم كظاهرة استفحلت لا معدي عن كبحها إن كان لأهل السُّودان أن يمضوا لأم حزم دون تشويش."


ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء