الطيب حاج عطية بين التواضع وموت الفُجاءة
i.imam@outlook.com
غيب القضاء المبرم (الموت) الدكتور الطيب حاج عطية الأستاذ بجامعة الخرطوم يوم الخميس الماضي، بموت الفُجاءة الذي شق على أهليه وولده وزملاءه وتلاميذه ومعارفه الصبر والاصطبار على هذا الابتلاء. فإن موت الفُجاءة رحمةٌ في حق الميت، وتخفيف عليه. وإن كان موت الفُجاءة ابتلاءً يصعب الاصطبار عليه، إن لم يُنزل المبتلون قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". ولذا كان موت الفٌجاءة كأخذة الغضب، وجاء في حديثٍ بسنن أبي داود عن عُبيد بن خالد السُلمي: "موت الفُجأءة أخذة أسفٍ" أي غضبان، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. وقال إبراهيم بن يزيد النخعي: "وإن كانوا ليكرهون أخذةُ الأسف". وقد تزايدت حالات موت الفُجاءة في الأونة الأخيرة ، بصورة ملفتة في السودان وغيره، مما يدعونا الى أن نجد ثمة رابط بينها وبين أشراط قيام الساعة. وموت الفُجاءة على ما أشار اليه النبي صل الله عليه وسلم وبينها ووضحها تمام الوضوح، عن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صل الله علية وسلم قال: "إن يظهر موت الفُجاءة"، يدل على أن هذه الحالة كانت موجودة في السابق حتى وإن كانت قليلة ليست بظاهرة عامة، ثم يرجع الحال الي مقتضي الحديث الي بروز هذه الظاهرة وتزايد حالاتها وتنميتها، بحيث يلحظها الجميع في هذه الأيام داخل السودان وخارجه كأحد أشراط قيام الساعة.
لقد كان الدكتور الطيب حاج عطية شخصاً دمث الأخلاق، رقيق العبارة، كثير التهذيب. وكان متمكناً في علمه. وكانت الكلمة عندة موقف ورأي. وكان صاحب رأي ورؤية، لا يجامل في قناعاتة، ولايتنازل عن مبادئة.
عرفت الدكتور الراحل الطيب حاج عطية عندما كنت في سني عهدي الطالبي بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، وزادت معرفتي به وقربي منه عندما تم تعيينه عميداً لشؤون الطلاب بالجامعة، في عهد أستاذي الراحل البروفسور عمر محمد بليل مدير جامعة الخرطوم - تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات-. إذ كنت منذ السنة الأولي بالجامعة قريباً لصيقأً بالبروفسور عمر بليل معاوناً له في ابراز أوجه نشاط الجامعة الأكاديمي والفكري والثقافي في الوسائط الصحافية والإعلامية، إضافة الي صياغة أفكاره في خطبه وكلماته في مناسبات الجامعة المختلفة. ولما أصبح الدكتور الراحل الطيب حاج عطية قريباً من البروفسور عمر بليل قُبيل قرابة المصاهرة، كنا معاً في إعداد وتنظيم أفكار ورؤي البروفسور عمر بليل، وتعاونا على حب بليل والإخلاص له سنين عدداً. وزادت لُحمة قربه من البروفسور عمر بليل بُعيد المصاهرة، فتعاونا وعملنا معاً في تناغمٍ وانسجامٍ في دحض إتهامات البعض لجامعة الخرطوم بأنها تعيش في برج عاجي، فانداح علم وفكر أساتذتها توعية وتثقيفاً، وإنارةً وتنويراً لمجتمعها السوداني عبرالوسائط الصحافية والإعلامية التي كانت تحتفي بهذه الجهود أيما إحتفاء. كان الراحل الطيب حاج عطية طيباً ودوداً، وفي صمتة كلاماً، لا يلهث وراء المال والسلطة، ولا يسعي الي الجاه والنفوذ، فيه زهد المتصوفة، ويعزف عن التعادي والمخاصمة. وقد وافق بعد جهدٍ جهيد،على تسنم إدارة وكالة السودان للأنباء (سونا) في عهد الحكومة الانتقالية بعد انتفاضة 6 أبريل 1985. وكأني به في ذلك، يستشهد بقول أبي الطيب أحمد بن الحسين الشهير بالمتنبي:
ومراد النفوس أصفر من أن نتعادي فية وأن نتفاني
غير أن الفتي يلاقى المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
وفي رأيي الخاص، لا يمكن أن أرثي أخي وأستاذي الدكتور الطيب حاج عطية دون الإشارة الي تواضعه الجم. فالتواضع لغة، مأخوذ من مادة (وضع) التي تدل علي الخفض للشئ وحطه، يقال: وضعتة بالارض وضعاً، ووضعت المرأة ولدها. والتواضع اصطلاحاً هو إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه. والتواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو الى المودة والمحبة والمساواة بين الناس، وينشر الترابط بينهم ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس.
ولم ترد كلمة التواضع في القرآن الكريم بلفظها، إنما وردت كلمات تشير اليها وتدل عليها، قال الله تعالي: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا". وقد دعا النبي صل الله علية وسلم الي التواضع، وعن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ". وسُئل الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: "يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي قبله، ولو سمعه من أجهل الناس قبله". وسُئل الحسن البصري عن التواضع، فقال: "التواضع أن تخرج من منزلك ولاتلقي مسلماً الا رأيت لك علية فضلا".
لقد عمل الدكتور الراحل الطيب حاج عطية بعد تخرجه في التلفزيون ولكن لطبيعته الرافضة للمشاحنات والملاسنات، ما أن حدثت حادثة فيها ذاكم الأمر الذي لا يطيقه فقيدنا، ففر بجلده الى وزارة الإعلام، ليعمل في إدارة الترجمة والنشر، ومن ثم أُبتعث الى فرنسا للدراسات العليا، وبالفعل بعد عودته من باريس، التحق للعمل بجامعة الخرطوم، وأنشأ دبلوم الإعلام العالي والأوسط في معهد الدراسات الإضافية بالجامعة. وبعد اكمال مدته في عمادة الطلاب تسلم عمادة معهد الدراسات الإضافية،وأنشاء قسم الإعلام بكلية الآداب إبان عمادة أستاذتي الراحلة الدكتورة ذكية عوض ساتي. وكان عميداً للمكتبة بالجامعة. وأسس معهد أبحاث السلام وترأسة لفترةٍ. وظل رغم المرض والإعياء مداوماً في مكتبه بالجامعة، مشرفاً علي طلابه في الدراسات العليا في مجالات الصحافة والإعلام.
أخلص الي أن موت الفُجاءة لأستاذي الدكتور الطيب حاج عطية شق علينا جميعاً صبر وإصطبار هذا الإبتلاء. وختاماً أسأل الله تعالي أن يتقيل أستاذنا الطيب حاج عطية قبولاً طيباً حسناً ويلهم ذويه وأصدقائه وطلابه ومعارفه الصبر الجميل.
"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".