كانت بداية شرارة الصراع القبلي السياسي في جنوب السودان، ومن ثم الحرب الضروس بين الرئيس الجنوبي الفريق أول سلفا كيرميارديت ونائبه الدكتور رياك مشار في مايو2013، عندما جاء نفرٌ من أنصار سلفا كير ومؤيدوه من قبيلة الدينكا، يستطلعون الرئيس سلفا كير عن إمكانية ترشيحه للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في عام 2015، فردهم رداً جميلاً، بأن الوقت مازال مبكراً لاتخاذ قرار حول ترشيحه لتلكم الانتخابات الرئاسية، ولكنهم ألحوا عليه في ضرورة ترشيحه، ليعملوا على فوزه بها بالتزكية، بعد أن يتأكدوا من موقف الدكتور رياك مشار من تلكم الانتخابات الرئاسية. وأوعزوا إليه بأنهم يخشون من دخول الدكتور مشار وآخرين حلبة هذه الانتخابات الرئاسية، ومن ثم تشكيل قوى منافسة للرئيس سلفا كير، وأنهم لا يطمأنون على أن هذه المنافسة ستجعل فوزه في تلك الانتخابات الرئاسية مضموناً. وكانت هذه المبادرة التي تستطلع رأي الرئيس سلفا كير في خوضه للانتخابات الرئاسية، جاءت من قبل بعض أعضاء البرلمان الجنوبي بقيادة دينق داو، مطالبين الرئيس سلفا كير بإعلان ترشيحه لسد الطريق أمام الدكتور رياك مشار وآخرين من إعلان ترشيحهم للانتخابات الرئاسية، وبذلك يتسنى لسلفا كير الفوز بها لفترة ثانية بالتزكية أو بمنافسة ضعيفة، إذا ضمنوا عدم ترشيح الدكتور رياك مشار في تلكم الانتخابات الرئاسية المرتقبة. وبعد أن أكد لهم سلفاكير إمكانية ترشحه للرئاسة، ذهبوا إلي الدكتور رياك مشار لاستطلاع رأيه حول إمكانية ترشيحه في الانخابات الرئاسية، ولكنه قال لهم إنه أيضاً سيرشح نفسه في تلكم الانتخابات الرئاسية حال إجرائها في عام 2015، وأضاف مستدركاً أن الوقت مازال مبكراً (Too Early). فكان إعلان الدكتور رياك مشار نيته خوض الانتخابات الرئاسية، بداية شرارة الصراع المحموم وظهوره على العلن بين الرئيس سلفاكير ونائبه الدكتور رياك مشار. لم يكن الدكتور رياك مشار مُرحباً به كنائب للرئيس سلفاكير من قبل مجلس كبار أعيان قبيلة الدينكا، ولا من رجال حول سلفا كير، ولا من الرئيس نفسه، ولكن الموائمة السياسية، والسبق في الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومن ثم مباركة الدكتور جون قرن زعيم الحركة الشعبية له، كثالث قيادي في الهرم الهيكلي للتراتبية في قيادة الحركة الشعبية، فرضت الدكتور رياك مشار ليكون نائب الرئيس سلفا كير في تشكيل الحكومة الجنوبية الأولى، ومع ذلك ظل الدكتور رياك مشار مهمشاً بعد إعلان انفصال جتوب السودان في يوليو 2011. وكان الرئيس
سلفاكير يُبعد جماعة مشار من المراكز المهمة في الدولة، ويٌبدي لهم قدراً من الإستعداء، وعدم الرضا. ففي أحد اجتماعات مجلس الأمن القومي الجنوبي، قال أحد جماعة سلفا كير للدكتور رياك مشار مهدداً، إنه يجب القبض عليه وإيداعه السجن. فرد الدكتور رياك مشار رداً ليس فيه قدرٌ من الحكمة أو الحصافة السياسية، بأنه ليس هناك أحدٌ بمن فيهم رئيسكم يستطيع القبض علي. فيبدو أن هذا الرد غير الحصيف من مشار، زاد من العدوات المتراكمة بينه وبين الرئيس سلفا كير وأنصاره.
ومما لا ريب فيه، أن مجلس كبار أعيان الدينكا، كان عاملاً رئيسياً في تأجيج الصراع بين الرئيس سلفا كير ونائبه الدكتور رياك مشار، من منطلقاتٍ قبليةٍ، ومنافساتٍ سياسيةٍ. وأن مجلس كبار أعيان الدينكا الذي يمارس هذا الصراع القبلي والفتن الفبلية بوعي أو غير وعي، بات معول هدم لهذه الدولة الجنوبية الناشئة لانغماسه في ممارسات قبلية، جعلت الحوار بين المكونات القبلية والاجتماعية الجنوبية غير ممكنٍ من أجل التعايش السلمي. والمثير للدهشة، أن مجلس كبار أعيان الدينكا، يُشكل من كبار المثقفين الجنوبيين الذين ينتمون إلي قبيلة الدينكا، فبدلاً من أن يدعو إلى محاربة ظاهرة التعصب الى القبيلة، صار هو من العوامل الرئيسية لـتأجيج الصراع القبلي في جنوب السودان. ومن افرازات ممارساته القبلية الواضحة، ما يحدث حالياً في جنوب السودان، من صراعات قبلية العامل الرئيسي فيها قبيلة الدينكا، ولم تعد هذه الصراعات القبلية قاصرة على صراعٍ دامٍ بين قبيلتي الدينكا والنوير، بل امتدت نيرانها إلى العديد من القبائل الجنوبية. من هنا يتضح لنا جلياً أن مجلس كبار أعيان الدينكا، وإن تدثر بدثار أنه منظومة سياسية، لكنه في حقيقة أمره منظومة قبلية، أجندتها الرئيسية سيطرة قبيلة الدينكا على مفاصل دولة الجنوب، بحيث تكون قبائل الجنوب الأخرى خاضعة لها، ومذعنة لنفوذها وسيطرتها. ولا يخفى على أحدٍ من مراقبي الشأن السياسي الجنوبي، طغيان نفوذ مجلس كبار أعيان الدينكا على الرئيس سلفا كير وحكومته لا يحتاج إلي إثباته كثير جُهدٍ. يكفي أن أحد أعضائه يعد نفسه من كبار مستشاري الرئيس سلفا كير، تجده يتدخل في تشكيل حكومات سلفا كير منذ عام 2010 حتى الآن. وأنه ضمن ولاء سلفا كير له، باعتبار أنه كان عدواً لدوداً للدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية، وفي المقابل كان ومازال مؤيداً نصيراً لسلفغا كير.
أخلص الى أن الرئيس سلفا كير عندما نُقل له، وبشئٍ من التحريض، أن نائبه الدكتور رياك مشار يعتزم خوض الانتخابات الرئاسية، أضمر كثيرَ شرورٍ عليه، وبدأ يعامله بشئٍ من الجفاء، وسحب منه ملفاتٍ كثيرةٍ، ومضايقاتٍ عديدةٍ. وأصدر الرئيس سلفا كير قراراً باعفاء الدكتور رياك مشار من منصب نائب الرئيس في يوليو من منصب نائب الرئيس في يوليو 2013، ولكن رياك مشار ظل نائباً لرئيس الحركة الشعبية، فاتجه إلي العمل السياسي، بعد اعفائه من العمل التنفيذي.
وفي الحلقة المقبلة نواصل البحث عن الجذور الحقيقية للصراع في جنوب السودان، بشئ من التركيز على الصراع الدموي الدائر حالياً منذ ديسمبر 2013بين الرئيس سلفاكير ونائبه الدكتور رياك مشار. وسنشير إلي ما كتبته البروفسور كليمينس بنود أستاذة العلاقات الدولية في جامعة
إنديانا الأمريكية والخبيرة في التاريخ العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان، عن الذين وراء عودة جنوب السودان إلي الحرب.