قال الساحر: نستبدل العُملة

 


 

 


ليست بلادنا وحدها التي استبّدلت عملتها ، من بعد استقلالها عن المستعمرين. لن نتحدث عن صناعة العملة الوطنية عام 1957 ، وتغييرها 1970 ،1980 ، 1985 . فالقصة تدور الآن حول استبدال العملة عام 1991 ، والمكر والخدعة الكُبرى التي تفتق عنها ذهن الساحر .هكذا بدأ السؤال :
أيمكننا الولوج لذلك الثعلب الماكر ، وقراءة تلافيف الذهن ؟. كيف كان يفكّر ، وكيف استدعى كل فنون المكر، ثم منْ استشار ليعينه على التطبيق ؟
(1)
ليس لنا خيار أفضل من"الذي عنده علمٌ من الكِتاب" ، ليعيننا . انتصبت على مِشطي القدمين ، ونظرت عبر حائط السور . اقتنعت أنني في البيت وحدي . لن يضايقني عابر سبيل أو قريب . فالوقت منتصف النهار .
نهضت إلى الغرفة المنعزلة . اغتسلت قبل دخولها وتوضأت . ولبست أفخر جُلباب . وتوقفت عند اختيار العطر الذي يناسب . قمتُ إلى " سحَّارة " جدتي التي كانت تحفظ فيها ملابسها وعطورها الأثرية. منذ رحيلها ظلت باقية . فقد وُلدت في عام دخول اللورد كتشنر أم درمان ، ورحلت في العام 1983 .
فتحت " سَحارّتها " ونقبت حتى وجدت قنينة عطر عليه صورة " السيد علي الميرغني " ، وفتحتها، وتعطرت . ليس لي من رأي في طبيعة العطر ، ولكنني بصدد أن أختار من التاريخ الذي يقرّبني أكثر من بلاط " النبي سليمان " لأصل " الذي عنده علمُ من الكتاب، لعلي أفُك شفرة اللُغز.
(2)
دخلت غرفتي المنعزلة وأغلقتها على نفسي وأغلقت مسام الضوء كله بشريطٍ لاصق ،حتى أصبحت الغرفة مظلمة . أخرجت قنينة من ماء زمزم ، الذي يُشرب لما نويت، لعلّي أصل مُرادي بإذن الله . أخرجت مسبحتي الفسفورية المُضيئة من جيبي .وبدأت من بعد الصلاة ركعتين لله ، وأمسكت أردد الاسم الذي أعرفه جيداً، فهو ميراث لن أتحدث عنه .وبدأت التسبيح . عند بلوغي الألف الأولى بدت ثعابين المُضيئة تتحرك في وسط الغرفة . وأنا أعلم علم اليقين أنني إن أصابني الخوف ، فسوف تنهار عزيمتي وسأخسر ما لا يُحمدُ عقباه . وتلك من مخاطر العبور من الوعي إلى عوالم أخرى . رغم سرعة ضربات قلبي ، ظللت أُسبِّح الاسم الأعظم ، وعند الألف الثانية ، سمعت صوتاً ، كأنه خارج من بئر .
سألني طلبي . وطلبت مُرادي . وطمأنني وقال : بُرهة وسوف أعود بالخبر اليقين ، صوتاً وصورة .

(3)

بعد بُرهة حسبتها زماناً ، أضاء نور ورأيت مجلس " الشيخ الساحر " ومعه خمسة لا أعرف فيهم إلا " خازن المال ". الصالة فسحة واسعة وحولها مكتبة . أظنها في الطابق السفلي من منزله . سمعته يتأمَّر والجماعة يستمعون في طاعة عمياء . لا تردُد ولا أسئلة ولا تعقيب :

- " ديك الصباح " سبَّ كل الناس .اليابان نفضت يدها عن منحة مشروع الطاقة الثالث ، وأمريكا أوقفت منحة العون السلعي ، وسبَّ كل الزعماء العرب بما فيهم حكيمهم والملك الذي أنجز التوسعة السابعة عشر للمسجد النبوي بمبلغ ثمانية مليار دولار !. لا مركزية القرار هي مصيبة كُبرى. التفويض منح البعض ما لا يستحقون وتقسيم الأدوار بدون تدخل القيادة أمر أضرَّ بالدولة كثيراً . كل من هبَّ ودبَّ قال هو إسلامي !ّ

- لقد عقدنا العزم على استبدال العُملّة بهدف جمع النقود من أهل البلد ، وفتح حسابات بنكية ونحن سنملك المال كله. فقد استبدلنا قيادة كل البنوك بمنْ هو طوع التنظيم ، وسنتحكم في صرف المال كيف نشاء ، فالبنك الذي تأمّلنا فيه كثيراً ، صار على أبواب الانهيار.


- عند توريد العملة القديمة من مُلاكها ، سنقوم بتسجيلها في حسابات في البنوك ،وقد جهزَّنا للبنوك أفرع في جميع أنحاء البلاد. ونكون قد حولنا النقود لمصلحة التنظيم .

- خصم مبلغ 25% من قيمة المبالغ التي تتعدي قيمها مائة ألف جنيه ، على وعد إعلامي بإعادتها بعد عام ، ( وهو ما لن يحدث ) ،وسوف ينسى الناس الأمر .


- تجنيب 25% من الأموال الجديدة لمصلحة التنظيم ، تُحفظ عند الأمين السري المعلوم بالضرورة .

- يُصْرَف لمن يريد مبلغ أقصاه خمسة آلاف جنيه كل أسبوع ، من حسابه بالبنك .


- صدر إعلام سري لأعضاء التنظيم ، بأن الفئات الورقية : ربع الجنيه ونصف الجنيه لن يتم تغييرها ، ويتعين استبدال أعضاء التنظيم أموالهم في ظرف أسبوعين من تاريخه لأننا بصدد اتخاذ القرار في الوقت المناسب للتنفيذ ، لأن السيولة ستكون منعدمة إلا لجماعتنا ، ويفك كل واحد منهم ضائقته ، ويشتري ما يشاء ، وسوف يدعمه التنظيم متى شاء ، وفق التراتبية المعلومة .

- سوف يتم تقسيم المسئوليات بين الخمسة أشخاص الحاضرين ومساعديهم من جُند التنظيم. وقد أوضحنا نوع الحاويات ومحتوياتها من العُملة الجديدة وأماكن حفظها السري. وتعيين حرس مدجج بالسلاح يحرسها بورديات أربعة وعشرين ساعة .


- انتهى الأمر . انصرفوا .

(4)

انطفأ الضوء وعادت الظلمة من جديد .لملمتُ أطرافي ، وأنا في ذهول . أيعقل أن هذا كان من وراء البراءة التي كُنا نظنها لمحاربة تهريب عُملة البلاد ، وضبط السوق ؟
حمدت الله على كل شيء ، وسألت ربي ألا يرد القضاء بل اللطف فيه .
أغمضت عينيّ ومسحت دمعي . وقلت لنفسي :
هذا مال السُّحت ، اللهم أنا بريء مما كانوا يفعلون . قال النبي الأكرم : منْ غشنا ليس منا .

(5)

في اليوم الأخير لاستبدال العملة ، وقفت " تايوتا بوكس " في وسط السوق الكبير وبها ثلاثة أشخاص ، يحملون صناديق فيها العُملة القديمة . هتف أصغرهم سناً :

- يلا يا جماعة "90" بالجديد ونعطيه " 100 " بالقديم... يلا علينا جاي .

- يا حاج ليه الخسارة دي 10% ، ما أحسن تقيف في صف البنك .


- أنا يا ولدي وقفت في الصف أمس أربعة ساعات وأنا صائم . وقلت أمشي الحمام لأنه عندي سُكّري . وشهَّدت الوَراي والقدامي . ولمن فكيت كُربتي نَكَروني عَديل ... المال يا ولدي تِلتو ولا كتِلتُو.

عبد الله الشقليني
14أغسطس 2016

alshiglini@gmail.com

 

آراء