المطرب: عوض كسلا (عوض أحمد عمر)
كثيرون لم يتخرجوا من مدرسة " أغاني أغاني "، على غنى ما حوت من أصوات مُبدعة طوال مسيرتها ، ونصمت عن تقييمها . وكثيرون لا تعرفهم الأضواء الإعلامية إلا بشق الأنفُس . المطرب " عوض كسلا " واحد من هؤلاء ، ولكنه متميِّز نأمل له مُستقبل مرموق في فضاء الغناء
(1)
كسلا ، ابنة القاش. محطة الشرق الزاهية ،بمتصوِّفيها وجبالها الشمّاء ، وتاريخها المحفور في وجدان التاريخ .منها الشاعر الحلنقي والمطرب التاج مكي والموسيقار " عمر الشاعر " وغنى لها "عبد الكريم الكابلي" مما كتب عنها شاعر الدهليز " توفيق صالح جبريل" :
نغمُ الساقياتِ حرّك أَشْجَاني
وهاج الأسى أنينُ السواقي
بين صبٍّ في حبّه متلاشٍ
ومُحِبٍّ مستغرقٍ في عناق
وتلاقتْ في حلبة الرقصِ أيدٍ
وخدودٌ والتفّ ساقٌ بساق
(2)
اجتمع نفرٌ شاغلهم حُب العمل الثقافي متنوع في الأدب والشِعر ومهتم بالفنون عامة . كرام ووطنيين .وعلى شراب الشاي الأحمر والماء القُراح جلسنا . من المستمعين والمثقفين . وكان على رأس هؤلاء الروائي " عاطف عبد الله "والشاعر الضخم " عبد القادر الكتيابي " والدكتور" علي زائد بريمة "، ولفيف من أصحاب دلاءٍ مرموقة تغرف من مِهن متمرسة وثقافة تؤمن بأن فن الغناء في السودان يكشف عن تاريخ اجتماعي وثقافي نسيه التوثيق إلا من البعض القليل : منهم الموسيقار الراحل "جمعة جابر " نائب رئيس " المجمع العربي للموسيقى " والأستاذ " معاوية ياسين " بأسفاره الثلاثة. وكثيرون يضيق عنهم المقال .و عند اخضاع فن الغناء من شعر وموسيقى وألحان وأداء ، للنظرة العميقة المُتأنية للواقع وللتراث . نظرة براغماتية مغموسة في إرث سوداني يضرب في جذور الحاضر والتاريخ . تعرِف أن للشعوب السودانية إرث يتعين احترامه ، بل تدليله ، لأنه يُعري وجدان أهلنا الطيبين ، فنعيد النظر في مسلمات كادت أن ترمينا بحجارة السائد من الذي عرفنا وبؤس النظرة للفنون والموسيقى في بلادنا عدا القليل. ونعرف كم من ظُلمٍ أحاق بلفيف من الذين جمّلوا وجداننا. ولم ينقطع ثراءهم وجداننا ، حتى من بعد رحيلهم .
كُنا من أجيال صحبتهم المهاجر والمنافي وصاحبوها كما يصاحب مرض السُكري ضحاياه . يميلون حيث يميل ، عِشق وخوف وحذِر . صحِبوا معهم في قلوبهم السودان ، قبل أن يتغيّر إلى ما نراه اليوم . أصحّاء من شرور ما بموطننا . قلوبهم ورديَة زاهية وخالية من بثور الكراهية . يرحّبون بالرأي المُخالف، شرطهم أن يكون صاحبه متسامِحاً ويقبل الآخرين على اختلاف تنوعهم . ليسوا هم بقيّمين على الموسيقى أو الطرب ، ولكنهم جمهرة لها عند المطربين وقفة تأمُل .
(3)
بدأ الأمر مساء الخميس 18 أغسطس 2016.طقس حار رطِب .تداعى صفوة المستمعين . لا يهُم القارئ منْ هم ، لكنهم يُعرَفون بأن قلوبهم تحمل السودان . وتنبض بذكر الطيبين من أهله بتنوعهم الثقافي الثري . يُمثلون معظم بقاع السودان إضافة لمندوب من نصف وطننا في الجنوب تغيب بأسبابه شخصية قاهرة . هم دون العشرين شخصاً . ومصباحنا تلك الأمسية أوقده المُطرب " عوض كسلا ". واختار لنا أغنية من ألحانه ، وعدد من أغنيات الرعيل المخضرم : من أغنيات "فضل المولى زنقار " ، وإبراهيم عوض وعبد العزيز داوود ومحمد وردي .
لـ " عوض كسلا " أداء مميّز ، في العزف على آلة العود . يخطف النغم الواحد على سُلمين . ويهتزّ النغم المضبوط ليسود القاعة محدودة الحضور . فنسمع النغم عارٍ من مُحسنات الصوت . يُكشف مهارة العازف ونبرات المُغني ، واضحة و ريّانة .
(4)
الصوت من طبقة " التينور " ، كلما يرفع وتيرة الصوت يرتفع متوازنا أكثر وتعلو الذبذبات الصوتية وتتوضّح معالم صوته القوي دون خدوش . ويمتاز صوته بقوة القرار، ورقًة حضوره وتقاطيعه مستريحة في أدائه عند العلو وعند الهبوط، من الغليظ إلى الرقيق ، يُذكِّرك بصعود صوت "إبراهيم الكاشف" في ذبذبته ثلاث مراحل ، كما أبان حين غنى " قالوا بدر السما ما شرق" وغنى لنا المطرب " عوض كسلا" للشاعر محمد بشير عتيق :
أذكري أيام صفانا
واذكري عهد اللقاء
والليالي الفي حِبور
اذكري ايام صفانا
والليالي الفيها متبادلين وفانا
جينا بي كل اقتراح
من حديث يشفي الجراح
بي مغازلة وانشراح
والقمر بي ضياهو آلق والنسيم يهدينا انفاس الزهور
كنا داخل روضة مافيش حد سوانا
غير ان القمري يهتف بي هوانا
من اهازيج فنه يسمعنا اسطوانة
أما ارواحنا الخفاف
رافلة في أثواب عفاف
زي عرائس يوم زفاف
والنجوم بى عيون تسارِق في اشتياق
تنظرنا مِن خلف السُتور
الرياض مبتهجة داخِل أُقحوانا
والزهور نديانة تستقبل أوانا
زاهية يانعة ورايعة في توب ارجُوانا
والنهر لينا اقتربْ
والطيور تسجع طربْ
عاملة موسيقةَ قِرَبْ
انحنا صار مجّلِسنا عامِر في طَربْ
في قِبطة في نَشْوَة وحبور
يا أمير الحُسن يا سَامي المكانة
مِن عواطِفك حُبي لو فاقد مكانة
أهدي لي تُفاحة بس أو بُرتُكانة
فهي غير شك مرضية
بيها اقتبس الضياءَ
بلْ أذوق طعم الحياة
انتَ مُلهِمني الأغاني
وانتَ مصدر فني،
إحساسي وشعوري
(5)
بين الأغنية والأغنية ، تظهر علامات الفرح والطرب لدى الجميع ، و يتم تناول النماذج بالانطباع حينا وبتصورات المستمعين أحياناً أخرى. وتحدّث الشاعر" عبد القادر الكتيابي " عن الشاعر "عتيق " وذكر أنه قد أدخل شعر التفعيلة في عشرينات القرن الماضي قبل الشاعر " بلند الحيدري". وأنه شاعر موسوم بالتجديد . فهو من أوائل من نقلوا شِعر الوصف الحسي لحسناء " السّباتة " ، إلى صور ولطائف من أشعار المحبة الروحية. تناولت الأحاسيس والوجدان . ومثال ذلك : قصيدة "أيام صفانا "التي تغنى بها المطرب " عوض كسلا" في ليلتنا تلك.
(6)
نعود بكم إلى ثقافة الوسط ،لأنها أصبحت تُخاطب وجداننا . ففيها تخمَّرت ثقافة الذين التقوا في الوسط من أمم سودانية وأخذت من البوادي ثقافة عتَّقتها الزمان ، وتعافت بقدر كبير من رحابة العشائر، حين كان لكلٍ مشربهم . صنع الزمان هذه الأريحية تدرجاً منذ أكثر من مائة عام . ولا حاجة لنا أن نعتذر لثقافات الأمم السودانية الأخرى ، لأن أهلها يواصلون التعبير عنها. وقد فعلوا ما وَسِعهم ذلك ، رغم ضيق أوعية الإعلام عن التعبير المتوازن عن تلك الثقافات. والأمر كله لم يزل موضوع حسرة .
(7)
نعود لمطربنا " عوض كسلا ":
ولد في " منطقة الجيلي " . سكنت أسرته حي الموردة بأم درمان ولم يزل البيت الكبير هناك . انتقل والده لمدينة " كسلا " منقولاً إلى فرع وزارة الأشغال هناك عام 1950 وبقي فيها . في منتصف تسعينات القرن الماضي درس" عوض كسلا " الموسيقى بقصر الشباب والأطفال بأم درمان لمدة عامين ودرس خلال البرنامج الأكاديمي الصولفيج الإيقاعي والصولفيج الغنائي ودرس قواعد الموسيقى الغربية .
المشاركات والأنشطة :
- شارك في مهرجان الإبداع ببورتسودان 1992
- تم إجازة صوته عام 1995من لجنة الأصوات، من ضمنها العاقب محمد حسن وعثمان مصطفى وصلاح مصطفى والطيب خليل وبرعي أحمد دفع الله والرشيد أب أحمد وعلي مكي.
- شارك في مهرجان الثقافة الرابع ونال المرتبة الثانية في أغنية الطفل على المستوى القومي.
- شارك في مهرجانات ميلاد الأغنيات في ثلاث دورات وكان من ضمن الفائزين .
- شارك في مهرجان حسن خليفة العطبراوي للأغنية الوطنية في عطبرة 2013.
- عضو في اتحاد الغنائيين والموسيقيين.
تعاونه مع الشعراء :
- الشاعر "خالد شبوري": في أغنية " انتظار "
- الشاعر" الصادق محمد يوسف" في أغنية " روح البنفسج "
- الشاعر "هاشم عباس الجبلابي" في أغنية " ما كُنتَ في "
كما تعاون مع المطرب" عوض كسلا" : الشاعر مختار دفع الله و الشاعر التجاني حاج موسى .
(8)
التحية للمطرب " عوض كسلا " ، مسيرة طويلة ، ولكنه لم يزل بعيداً عن الأضواء ، ونسأل أنفسنا ما السبب وهو يشارك في كل المناسبات والمهرجانات وفي كل مدن السودان ، ومنذ التسعينات من القرن الماضي ؟
عبد الله الشقليني
20 أغسطس
abdallashiglini@hotmail.com