مئويَّة استشهاد السُّلطان علي دينار (ت. 1916م): الأسباب والمآلات

 


 

 

(الحلقة الأولى)

أحدث إعلان الخلافة العثمانيَّة بالانضمام إلى معسكر قُوى المركز (الإمبراطوريَّة الألمانية، والإمبراطوريَّة النمساويَّة المجرية، والمملكة البلغارية) في الحرب العالميَّة الأولى في 2 نوفمبر 1914م، إرباكاً في حسابات الحلفاء (فرنسا، وروسيا، وبريطانيا)؛ لأنه شكَّل تحديًّا دينيًّا وسياسيًّا لهم في البلاد المسلمة التي كانت تخضع لنفوذهم الاستعماري. وإحتواءً لذلك التحدي، أصدرت بريطانيا حزمة من القرارات السياسيَّة، وأبرمت مجموعة من معاهدات الحماية الثنائيَّة والاتفاقيات السريَّة، كما اتخذت إجراءات عسكريَّة استباقيَّة لإحكام سيطرتها على المشهد السياسي في العالم العربي. وفي تلك الأثناء حاولت ألمانيا أن تبث دعايةً مناهضةً لدول الحلفاء في السُّودان عن طريق مستعمراتها في شرق إفريقيا؛ لذلك بعث الحاكم البريطاني في يوغندا رسالةً إلى الحاكم العام في السُّودان، مقصدها: "أنَّ المسلمين الموجودين في الأراضي الألمانيَّة [في شرق إفريقيا] قد أرسلوا الرسائل إلى السُّودانيين، يعدونهم بتكوين إمبراطوريَّة إسلاميَّة في شرق إفريقيا تحت الرعاية الألمانية". وقد وجدت هذه الرسائل طريقها إلى دارفور، مُحرِّضةً السُّلطان علي دينار على إعلان الجهاد ضد حكومة السُّودان وأنصارها "المرتدين عن الإسلام". ونتيجة لذلك كسبت الحرب العالمية الأولى زخمًا سياسيًّا في السُّودان؛ لأن الحكومة سعت بشتى الوسائل والسبل لخطب تأييد الزعماء الدينيين والقبليين؛ ليكون ترياقًا ضد الدعوة الجهادية التي أعلنتها الخلافة العثمانية. وفي ضوء هذه التوطئة يهدف هذا المقال إلى تقديم مقاربة تاريخية-تحليليَّة لدور السُّلطان علي دينار في الحرب العالميَّة الأولى، والأسباب التي حفَّزته للانحياز إلى معسكر قوى المركز (أو المحور) على حساب الحلفاء. وهل كان السُّلطان يدرك أنَّ ذلك الانحياز فيه تحدٍ صريحٍ إلى الإمبراطوريَّة البريطانيَّة التي كانت تحكم قبضتها على السُّودان؟ وهل حظيت استجابته لنداء الجهاد العثماني بقبول واسع في دارفور؟ وكيف كان رد فعل القوى الدينيَّة والقبليَّة في السُّودان لإعلان السُّلطان المناهض للحلفاء؟ وكيف أفضى ذلك الإعلان إلى استشهاده في 6 نوفمبر 1916م، وضمِّ دارفور إلى حظيرة السُّودان الإنجليزي-المصري؟ ما أسباب ذلك الاستشهاد ومآلاته في السُّودان؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية سيكون مدخلنا بسؤال مفتاحي: كيف أعاد السُّلطان علي دينار بن السُّلطان زكريا عرش أجداده السليب في دارفور؟

كيف أعاد السُّلطان علي دينار عرش أجداده؟
بعد هزيمة السُّلطان إبراهيم قرض، آخر سلاطين الفور في واقعة منواشي عام 1874م، تخضعت دارفور إلى الحكم التركي-المصري، لكنها لم تدم طويلاً تحت سيطرة الأتراك (1874-1884م)؛ لأنها أعلنت انضمامها إلى الثورة المهديَّة عام 1884م. وعندما سيطرت المهديَّة على دارفور كان عمر الأمير علي دينار بن السُّلطان زكريا بن السُّلطان محمد فضل يربو على أربعة وعشرين عامًا؛ إلا أنَّ المهدويين لم يختاروه لأي منصب قيادي في عمالة دارفور؛ بل ظل ولاءه للمهديَّة محل شك؛ ولذلك استدعاه الخليفة عبد الله أم درمان عام 1897؛ حيث ظل رهين إقامة شبه جبريَّة، ولم يفك أسرها إلا قبيل معركة كرري. وعندما أدرك الأمير علي دينار أن هزيمة الأنصار أصبحت قاب قوسين أو أدنى في معركة كرري، شدَّ رحاله إلى دارفور؛ لإعادة ملك أجداده السليب. وبعد رحلة مجاهدة طويلة حطَّ رحاله بالفاشر عام 1898م، حيث نصَّب نفسه سلطاناً على دارفور. وفي تلك الأثناء لم تكن الحكومة الثنائيَّة في الخرطوم راغبة في احتلال دارفور؛ لأنها كانت لا تملك مالاً، ولا رجالاً، ولا مواصلات تعينها على الغزو؛ فآثرت الإذعان إلى توصيات اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، الذي أرشدها على تأييد السُّلطان علي دينار، شريطة أن يعلن ولاءه التام إلى سيادة الحكومة برفع العلمين الإنجليزي والمصري على سرايا قصره بالفاشر، ويدفع جزية سنويَّة تقدر بخمسمائة جنيه أستراليتي، تعبيراً عن ولائه السياسي. ويبدو أن السُّلطان علي دينار قد تعاطى هذا العرض بوعي سياسي، يقضي بإبقاء "شعرة معاوية" موصولة مع الخرطوم إلى أن اندلعت الحرب العالميَّة الأولى.
قبل اندلاع الحرب العالميَّة بخمسة أعوام بدأ السُّلطان علي دينار يتشكَّك في نوايا حكومة السُّودان تجاه سلطنته في دارفور، وذلك عدة أسباب. أولاً: إنَّ الحكومة الثنائيَّة في الخرطوم لم تتعاون معه في صد القوات الفرنسيَّة التي سيطرت دار تاما، ودار قمر، ودار سيلا التي كانت تُعتبر من وجهة نظره جزءاً من سلطنة دارفور التاريخية. وثانياً: إنَّ السُّلطان علي دينار لم يكن راضياً عن مساندة الحكومة لخصمه الشيخ موسى مادبو، زعيم الرزيقات في جنوب دارفور؛ وعن سماحها لفلول الزياديَّة المعارضين له بالاستقرار في منطقة غرب كردفان؛ وعن غضها الطرف عن تعديات قبيلة الكبابيش على حدود سلطنته الشرقية. وثالثاً: منع الحكومة الثنائيَّة السُّلطان علي دينار من شراء احتياجاته العسكريَّة (الأسلحة والجبخانة) من الحجاز أو الدول المجاورة. ورابعاً: إنَّ خطاب الحكومة للسلطان علي دينار كان يتسم بالاستعلاء السياسي، والشاهد في ذلك الرسالة التي بعثها إليه سلاطين باشا، نيابة عن الحكومة، في 8 يناير 1914:

"إنني قد كتبت لكم مرات عديدة، وصرَّحت لكم أنني كنت أول العاملين لإعادة الراحة إلى هذه البلاد وإعطاء الحريَّة والأمان لأهلها، وإطلاق أعناقهم من قيود الظلم والاستبداد، وكيف أنني كنت الواسطة لأجل تمتعكم بنعمة العودة إلى بلاد آبائكم وأجدادكم؛ لتحكموا بالعدل والحكمة... وقد ذكرت لكم مرارًا أن الحكومة لا تزال على عهدها القديم معكم، تحفظ لكم أصدق العواطف، وتميل إلى مساعدتكم ومعاونتكم بكل وسيلة ممكنة، وكان الأولى بكم أن تثقوا بما قلتُه لكم مرارًا، وأقوله الآن؛ لأن غايتي، كما يعلم الله، هي راحتكم ودوام مجدكم."

كان لهذه المواقف أثرها السالب في تشكيل المزاج السياسي في الفاشر قبل اندلاع الحرب العالميَّة الأولى، ولذلك عندما أعلنت الخلافة العثمانيَّة انضمامها إلى قُوى المركز، وحثت المسلمين على الجهاد ضد معسكر الحلفاء، أصدر ونجت باشا، حاكم عام السُّودان آنذاك، خطابًا استباقيًّا إلى السُّلطان علي دينار، جاء فيه:

"أمَّا بعد، فلابد أنه بلغكم أن دولة بريطانيا العظمى ودول أوروبا الأخرى تحارب الآن الدولة الألمانيَّة التي قد مزَّقت جميع شرائع الأمم ومعاهداتها، ولم ترعَ حرمة العهود [...]. وليكن بعلمك أنَّ أخبار هذه الحرب الحقيقيَّة تنشرها جريدة السُّودان، التي تظهر في الخرطوم، والتي على ما أظن تصلكم في دارفور. فإذا بلغكم من بعض الناس الجهلاء الذين لا يعرفون الحقائق، أو المفسدين الذين يحبون نشر أخبار كاذبة، أخبارًا لا تنطبق على ما تنشره الجريدة المذكورة، فإني أوصيكم بأن تأمروا موظفيكم بالقبض على هؤلاء الكاذبين، وتبقوهم عندكم تحت الرقابة، أو ترسلوهم للحكومة. ثم إنه لابد سيبلغكم خبر وصول جيوش إنجليزيَّة كبيرة إلى مصر، فهذا الخبر صحيح، ولكن لا علاقة له بالسُّودان على الإطلاق؛ لأن السُّودان متمتع الآن بالراحة والطمأنينة بفضل الله تعالى."

يحمل هذا الخطاب ثلاث رسائل مهمة إلى السُّلطان في الفاشر. الرسالة الأولى ذات طابع تضليل لأنها أبانت بأن الحرب العالمية في جوهرها ضد ألمانيا دون الإشارة إلى بواعثها الحقيقية، أو دور الخلافة العثمانيَّة فيها. والرسالة الثانية ذات طابع استخباراتي، ترشد السُّلطان بأن يستقى معلوماته عن الحرب من جريدة السُّودان الرسميَّة التي تصدرها الحكومة في الخرطوم، وأن لا يلتفت إلى الشائعات الكاذبة. والرسالة الثالثة ذات طابع تهديدي، يفيد السُّلطان بأن الجيوش الإنجليزيَّة قد وصلت إلى مصر، وإذا اضطربت الأحوال في السُّودان ستُسخدم في إعادة الأمن والطمأنينة. لكن السُّلطان علي دينار كان يستقي معلوماته من مصادر أخرى، أقرب إلى إعلام دول المحوري الدعائي، حيث أنها تفيد بأنَّ الحلفاء على وشك الانهيار، وأن البريطانيين سيخرجون من السُّودان. وكانت هذه الشائعات تمثل إشارة غير مباشرة إلى السُّلطان علي دينار بأن يتقدم شرقًا، ويجهز نفسه لإقامة دولةٍ إسلاميَّة خلفًا للوجود البريطاني في السُّودان. ويبدو أن هذه الدعاية التضليلية قد وجدت آذانًا مصغية عند السُّلطان الفاشر، الذي لم يكن على وفاقٍ مع حكومة الخرطوم. وبناءً على ذلك بعث خطابًا إلى السُّلطان العثماني محمد رشاد، قائلًا:

"وقد أحاطت أيدي النصارى الكُفَّار بالمسلمين من يميننا، وشمالنا، وورائنا، وأمامنا، وحازوا ديار المسلمين كلها، ممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، يلعبون بأيديهم كالعصفور، ما عدا بلادنا في دارفور قد حفظها الله من ظلمات الكُفَّار. والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين، اللذين حرسهما الله، ومنحكم خدمتهما. ولم نَرَ حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام. وانجبرنا على مواصلة دولة الإنجليز، وصرنا نعاملهم تارة بالمشاحنة معهم، وتارة رغبة في حفظ إيماننا وإسلامنا في بلادنا."

وفي تلك الظروف الحرجة بعث أنور باشا، وزير الحربيَّة العثمانية، خطابًا إلى السُّلطان علي دينار، بتاريخ 3 فبراير 1915، مُعلِمًا إيَّاه بتعدي بريطانيا وفرنسا وروسيا على دولة الخلافة العثمانية، وتحديهم للإسلام، وأخبره أيضًا بفتوى المشيخة الإسلاميَّة بأن الجهاد قد أضحى فرض عين على كل المسلمين، وأن ممثل الخلافة نوري بك سيصل إلى ليبيا في هذا الشأن، وكذلك جعفر بك إلى دارفور. يبدو أن السُّلطان علي دينار قد استبشر خيرًا بهذا التواصل، فبعث خطابًا إلى أنور باشا، قائلًا: "نخبر جنابكم بأننا منذ انتشاب [كذا] الحرب بين جلالة سلطان الإسلام وبين الألدَّاء الكُفَّار والفساق الإنجليز وفرنسا وما يليهم، فمن وقته قطعتُ ما كان بيني وبين الكُفَّار الملعونين من العلائق الودية، وجاهرتهم بالعداوة، وأعلنتهم بالحرب، استعديتُ لهم بقدر ما يستطيعني من القوة، غيرةً في دين الله وحمية الإسلام".
يبدو أنَّ استخبارات حكومة السُّودان في الخرطوم أدركت موقف السُّلطان علي دينار المتعاطف مع دولة الخلافة، فأرسلت إليه خطابًا آخر بتاريخ 12 فبراير 1915، تفيده بموقف الحلفاء المتفوق على دول المحور، وتُعلِمه أنَّ الأتراك يتحركون في أعمالهم كافة بموجب إشارة دولة ألمانيا وتطلعاتها السياسية. ثم لفتت نظره "إلى أمر جدير بالاهتمام، وهو أنه إذا تمكَّن أحد رجال الألمان، أو واحد من أعوان الترك من الدخول إلى دارفور تحت ستار التنكر والتخفي سواء كان ذلك عن طريق السُّودان أو طريق آخر، أن تلقوا القبض عليهم في الحال، وترسلوهم إلى هنا تحت الحفظ، ولا نرى بُدًّا في أن نذكر لجنابكم أن أقوال وتعاليم هؤلاء الأقوام تنافي العدالة والمبادئ الشريفة". فجاء الرد السُّلطان في 21 إبريل 1915 على حسب توقعات الحاكم العام، مخاطبًا إياه بقوله: "إلى السردار الذي يزعم أنه ملك السُّودان"، يجب أن يعلم أن "المُلك لله وحده والعظمة والكبرياء لله"، ثم يواصل خطابه قائلًا:

"إنَّك عزلت عباس حلمي خديوي مصر، وولَّيْتَ حسين كامل سلطانًا بمصر، وزعمت أنك فصلت مصر عن دولة بني عثمان، واستقلَّ بها حسين كامل بمساعدتكم له، أَمَا تعلم أن الملك لله الواحد القهار، فعباس موجود وليس لك عليه سُلطة حتى تعزله... أمَّا تهديدكم لي فأنا لستُ دنقلاوي ولست عبد الله التعايشي، فأنا بفضل الله سلطان ابن سلطان، ورثت الملك كابرًا عن كابر، وراثةً حقيقيةً، وجلست على عرش مملكة آبائي وأجدادي بأمر الله الواحد الصمد، وما دام أنكم صرتم تهددوني فوالله وبالله ولو بسيفي ورأس حصاني إن شاء الله تعالى أقاتل في سبيل الله وأنصر دين الله".

لم باءت جهود الحاكم العام بالفشل في إقناع السُّلطان بتغيير موقفه المساند للدولة العثمانية، أرسل إليه خطابًا آخر، معضَّدًا ببعض المراسلات الممهورة بتوقيعات زعماء دينيين ورجال قبائل بارزين، أكَّدوا فيها ولاءهم لحكومة السُّودان والإمبراطوريَّة البريطانيَّة في حربها ضد الأتراك العثمانيين. ثم حذَّره من الاستماع للدعايات المضلِّلة، ووعده بحل قضيَّة النزاع الحدودي مع الفرنسيين بعد عودة سلاطين باشا من النمسا. وفي استجابته لذلك النداء، أوضح السُّلطان للحاكم العام أنَّ التعامل بينهما تحكمه شروط ومواثيق سابقة، لكنَّ الحكومة نكثت عهدها "قبل اشتعال الحرب مباشرة"، ولذلك...

"أصبحنا متأكدين من نيتكم في غزو دارفور هذا العام، كما صرَّحتم علنًا في المديريات والمناطق. ومن الوقت الذي علمنا فيه نيتكم في احتلال دارفور أكملنا استعدادنا، وانتظرنا ما يأتي بلا خوف. أقسم بالله بأنني لا أخشى أي أحد سوى الله، ولا أنوي العدوان على أي شخص، ولكن أولئك الذين يبحثون عن قتالنا سنقاتلهم معتمدين على الله... أمَّا بالنسبة للشريف يوسف الهندي، والشريف علي الميرغني، فإن شرفهم لأنفسهم فقط، ولسنا مسؤولين عمَّا فعلوه معكم. إن التزامي نحوكم هو الولاء المخلص بالإضافة إلى الشروط المتفق عليها، وإذا وافقت على ذلك، فإننا إذًا مستعدون وقادرون على المحافظة عليها".

ثم استدرك السُّلطان في حاشية خطابه، موثِّقًا: "قلتَ يا صاحب السعادة إنكم لم تفعلوا شيئًا ضد الإسلام، ولكنَّك فعلت كل شيء لتشويهه، ولم تترك شيئًا في الإسلام لم تمسه؛ لذا فسوف يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين".

وبناءً على هذا الرد الاستفزازي لجأت حكومة السُّودان لاتخاذ بعض التدابير الاستباقيَّة الآتية قبل إعلان الحرب على دارفور:
أولًا: التزمت الحكومة بخطاب سياسي مهادِن؛ ربما يقنع السُّلطان بتعديل موقفه المعادي لها، أو تشري زمناً؛ لتُكمِل استعداداتها العسكريَّة قبل إعلان الحرب على دارفور. فبعث ونجت باشا رسالةً إلى السُّلطان، مستجديًا إيَّاه بقوله: "وأقسم لك بالله إن ما دُمتَ تحافظ على الجزء الخاص بك فيما يتعلق بالشروط والاتفاقيات المعقودة بينك وبين الحكومة، وتحافظ على العلاقات الوديَّة التي استمرت بيننا منذ توليك السُّلطة بعد انتصارك على الخليفة وأنصاره، سأظل محافظًا ومتمسكًا بنفس العلاقات كما فعلت في الماضي". وبالرغم من هذه التطمينات إلا أن السُّلطان علي دينار رفض دفع الجزية إلى الخرطوم، وهدَّد الكبابيش بالغزو عندما شعر بتآمرهم ضده.
ثانيًا: حاولت الحكومة أن توظف علاقة علي دينار بالسيِّد علي الميرغني، استنادًا إلى أن هذا الأخير كان بمثابة وكيله في معالجة القضايا الشائكة مع الخرطوم. وبإيعاز من الحكومة طلب الميرغني من السُّلطان أن يؤجِّل مسألة البحث عن الأسلحة والجبخانة، ووعده بأن الحكومة ستُرحِّل خصومه السياسيين الذين هاجروا إلى كردفان، ثم أرشده لتسوية صراعه السياسي مع الناظر موسى مادبو بالطرق السلمية. لكن السُّلطان لم يأخذ تلك النصائح بعين الاعتبار، بل أوضح للميرغني أن ارتباطه الخارجي والتزامه العقدي يمنعانه من التعامل مع "الكُفَّار"، مدَّعيًا أنه أصبح "أبًا للمسلمين في العصر"، ومكلَّفًا بإعادة الدين الصحيح. وبذلك أعلن السُّلطان علي دينار قطع علاقته بالحكومة وإعلان الجهاد عليها. ومن زاوية أخرى، أقرَّ بفقدان ثقته في الزعماء الدينيين في السُّودان، مؤكِّدًا ذلك في خطابه الصادر في 29 يناير 1916 إلى الشريف السنوسي، قائلًا: إنَّ "جميع المسلمين الذين بشرق السُّودان والعلماء والفقهاء ومشائخ الطرق وغيرهم صاروا يكاتبوننا، ويُثنون على دولة الإنكليز، يمدحونها في مخاطباتهم لنا، ويطلبون منَّا أن نميل لمعتقدهم الفاسد، ونتبع النصارى، ولم نوافقهم على ضلالهم، وضربنا عن إفادتهم صفحًا، ووردت لنا بالجرايد شهادات من أعيان السُّودان وأهالي النواحي مادحين فيها دولة الإنكليز بتمويهات مكذوبة".

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء