من الأمور اللافتة للانتباه، أن هنالك أخطاء مفاهيمية، يلحظها المرء، دون كثير عناءٍ، في بعض الصحف السودانية السيارة، حول أُمهات القضايا التي تحتاج الى قدرٍ معلومٍ من البحث والتدقيق، قبل الاسترسال في إصدار الأحكام المطلقة التي فيها كثير ظلمٍ وتجنٍ على هؤلاء المتأثرين سلباً من هذه الأحكام المبنية على تقديرات غير حقيقية أو انطباعاتٍ ومراراتٍ شخصية. وأحسب أن حديث بعض هذه الصحف المكرور عن "تضارب المصالح" لدى بعض المسؤولين، يعكس بجلاء مدى هذه الأخطاء المفاهيمية، ويلحظ المتلقي الباحث، بقليل جُهدٍ، فداحة هذه المفاهيم الخاطئة. من هنا، وجدت لزاماً علي، وعلى رسلائي الصحافيين الباحثين، أن نُسهم في إحداث قدرٍ من الحراك التنويري لبعض زملائنا، وجُل قارئينا، في بسط القول شرحاً وتذكيراً، لمعاني هذه القضايا المفاهيمية، وتبياناً لأضرار هذه المفاهيم الخاطئة على الشرائح المجتمعية كافة. ولما كان حديث بعضهم المكرور عن "تضارب المصالح" لدى المسؤولين، فينبغي أن نشرح هذا الأمر في غير تنطعٍ في الكلام. والتنطع لغةً عندما نقول تَنطَّعَ فِي كَلاَمِهِ أي تَفَصَّحَ فِيهِ وتَعَمَّقَ. ومنه تنطَّع الشَّخصُ في الأمر غالى فيه وتكلَّف، عليه أرى من الضروري أن أستهل حديثي بإيراد حجاجي دون تنطعٍ أو تكلفِ عن مفهوم "تضارب المصالح"، بما ورد في الدستور السوداني الانتقالي لسنة 2005، في المادة 75: "الإقرار بالذمة المالية وحظر الأعمال الخاصة: 1- يقدم شاغلو المناصب الدستورية التنفيذية والتشريعية وقضاة المحكمة الدستورية والمحاكم العليا وقيادات الخدمة المدنية، لدى توليهم مناصبهم، إقراراً سرياً بالذمة المالية يتضمن ممتلكاتهم والتزاماتهم، بما في ذلك ما يتعلق بأزواجهم وأبنائهم، وفقاً للقانون. 2- لا يجوز لرئيس الجمهورية، أو لأي من نائبيه أو مساعديه أو مستشاريه أو الوزراء القوميين أو أي من شاغلي المناصب الدستورية والتنفيذية الأخرى، مزاولة أي مهنة خاصة أو ممارسة أي عمل تجاري أو صناعي أو مالي أثناء توليهم لمناصبهم، كما لا يجوز لهم تلقي أي تعويض مالي أو قبول عمل من أي نوع من أي جهة غير الحكومة القومية أو حكومة ولائية كيفما يكون الحال". فهاتان الفقرتان في المادة 75، لا تحتاجا الى كثير جدال لمن ألقى السمع وهو شهيد، أي أنه ليس هناك أي تضارب مصالح في أن يكون لمن يتسنم المنصب الدستوري أو العام، إذا ضُمن عدم استغلاله لذلك المنصب في تحقيق مصلحة خاصة أو ارتكاب جُرم فسادٍ من خلال استغلال ذاكم المنصب. فعليه دعاوى البعض، فيه خطأ مفاهيمي سافر، لعزل المسؤول عن المنصب العام، لأن له شركات عديدة ومؤسسات متعددة، دون الإشارة الى فساد بينٍ في استغلال المنصب العام لتحقيق المصلحة الخاصة. وفي مقاربة، وليس مقارنة، لإجلاء حقيقة معنى ومفهوم "تضارب المصالح"، أشير الى أن الدستور الأمريكي لم يحدد السلوك غير المنضبط في "تضارب المصالح" الذي يستحق الفصل البرلماني بسبب الانتهاكات الكبيرة لواجباته العامة، ولقد اعتبرت محكمة العدل العليا الأمريكية بأن للمجلسين (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) سلطة تقديرية واسعة لاستخلاص السلوك غير المنضبط الذي يستحق عقوبة الفصل البرلماني. ولقد اتبع الفكر الغربي نظرية التقييد الذاتي، ويذكر الفقيه الدستوري جيمس ماديسون بأن الشعب الأمريكي لا يتصف بالملائكية، ولذلك فإنه يستلزم وجود حكومة، ويجب أن يتم ضبط هذه الحكومة داخليا وخارجيا. وفي بريطانيا لا يوجد دستور مكتوب، ولكن هناك سوابق قضائية يُحكم بها في مثل هذه القضايا. وفي ما يتعلق ب"تضارب المصالح" لدى الأجهزة العامة والخاصة، تطبق هذه السوابق القضائية. ولكن يُلحظ أنه في الدول الغربية عموماً، أن المسؤولين في الأجهزة الدستورية والتنفيذية، يسارعون الى تقديم استقالاتهم، إذا تم كشف عملية "تضارب مصالح" لديهم، وذلك يتم في الغالب بمضاغطة الصحافة، التي تشكل ضلعاً مهماً في الرقابة على هؤلاء المسؤولين. وقد عرف قاموس أوكسفورد مفهوم "تضارب المصالح" بأنه: A situation in which a person is in a position to derive personal benefit from actions or decisions made in their official capacity. بينما ذهبت دائرة المعارف البريطانية وغيرها من دوائر المعارف والقواميس الإنجليزية الى تعريف مفهوم "تضارب المصالح"، خاصة لدى مسؤولي الحكومة، فأوجزه في الاجابة على التساؤل الذي ينبغي أن يُطرح عن معنى "تضارب المصالح"، فعذرا سأطرح بإيجاز بلغة تلكم الدوائر المعرفية وهي اللغة الانجليزية، مع شرح موجز باللغة العربية، لتعميم الفائدة: What are conflicts of interest? Because of the multiple roles individuals play in their daily lives, they inherently possess many different interests and loyalties. At any given time these interests may compete. Such conflicts are a part of life and are unavoidable. Public officials, as stewards of the public trust, are required to put the public's interest before their own. Impropriety occurs when an officeholder, faced with conflicting interests, puts his or her personal or financial interest ahead of the public interest. In the simplest terms, the official reaps a monetary or other reward from a decision made in his office. وفي رأيي الخاص، أنه من الضروري فهم التعريف الجامع لمفهوم "تعارض المصالح" بالوضع أو الموقف الذي تتأثر فيه موضوعية واستقلالية قرار المسؤول الدستوري أو التنفيذي في المنصب العام بمصلحة شخصية مادية أو معنوية أو استغلال هذا المنصب في تجيير مصلحة مؤسساته أو شركاته. ولا ينبغي أن تتأثر قرارته، باعتبارات شخصية مباشرة أو غير مباشرة أو بمعرفته بالمعلومات التي تتعلق بالقرار الذي يجيره الى مصلحته الخاصة. وإذا أُستجيب لدعاوى هؤلاء، فبالأحرى ألا يتقدم دونالد ترامب بترشيحه للرئاسة الأمريكية، ويشغل الدنا بهذا الترشيح، باعتباره ملياردير صاحب شركات وفنادق عالمية قد يحدث "تضارب مصالح" اذا فاز بالرئاسة الأمريكية، ولا تقدم من قبله الثري الأمريكي روس بيرو لترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية، ولا تسنم لورد يونغ منصب وزاري في حكومة مارغريت ثاتشر البريطانية ولا قبل المهندس المصري عثمان أحمد عثمان صاحب شركة "المقاولون العرب" أضخم شركة للمقاولات الهندسية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط آنذاك، المنصب الوزاري في عهد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، والأمثلة في ذلك، جد كثيرة. أخلص الى أنه من المهم أن نتعرف على المعنى والمغزى من مفهوم "تضارب المصالح"، قبل أن نصدر أحكاماً جُزافاً، لا تستند على ساقين من الدستور والقانون. يمكن تعريف "تعارض المصالح" بالوضع أو الموقف الذي تتأثر فيه موضوعية واستقلالية قرار المسؤول في الوظيفة العامة بمصلحة شخصية مادية أو معنوية تهمه شخصيا أو أحد أقاربه المقربين أو عندما يتأثر أداؤه للوظيفة العامة. فعلينا ألا نظلم الناس بعدم معرفتنا للمصطلح، ويجب علينا معرفة المعنى والمفهوم لمصطلح "تضارب المصالح" وتحريره. وما أردت مما أوردت في هذه العُجالة إلا إصلاحاً.