حقوق الإنسان في السودان ولعبة المصالح الخاسرة ..!
نشرت صحيفة الرأي العام خبراً بتاريخ 22 ديسمبر 2016، عن موقف السودان في المداولات التي تجري هذه الأيام في مجلس حقوق الإنسان في دورته الثالثة والثلاثين بجنيف. وجاء في متن الخبر والتقرير المطول بالصحيفة أن السودان وأمريكا فشلا في التوصل لإتفاق بشأن القرار(Resolution) الخاص بالسودان والذي يحدد مهام(Mandate) الخبير المستقل للعام القادم(2016- 2017) فيما يختص بأوضاع حقوق الإنسان تحت البند العاشر(Item 10) وهو أحد بنود الإجراءات الخاصة والمعني بتقديم الدعم التقني ورفع القدرات. ونتيجة لهذا الخلاف وبحسب الصحيفة فإن السودان أودع مشروع قرار لدى سكرتارية المجلس باسم المجموعتين العربية والأفريقية( لم تحدد الصحيفة البند)، وأضافت الصحيفة إن وفد الولايات المتحدة أعلن إنه سيقدم مشروع قرار آخر بدعم من المجموعة الأوربية. وأكدت الصحيفة إن متابعاتها أفادت بإن مشروع القرار الأمريكي سيكون تحت البند الثاني(Item 2) والذي يعني وضع البلاد تحت الإشراف المباشر لمكتب المفوض السامي.
خبر صحيفة الرأي العام حمل كذلك بعض التصريحات من سفير السودان بجنيف مفادها إن القرار الذي لم يتفق عليه الطرفان(أمريكا والسودان)، هو في حقيقته تحت البند العاشر ولكنه محشو بمواد من البند الرابع حسب تعبيره. وأضافت الصحيفة إن سفير السودان الدائم بجنيف مصطفى عثمان اسماعيل قال: (إذا فقدنا نتيجة التصويت لمشروع قرارنا المدعوم من المجموعة العربية والأفريقية والإسلامية ومجموعة عدم الانحياز، فإن السودان لن يستقبل الخبير المستقل، وعندئذ تتحمل الولايات المتحدة والمجموعة الغربية مسؤولية تبعات هذا الموقف) انتهى الخبر. حقيقة لا أدري ما هي التبعات التي يمكن أن تتحملها أمريكا وتكون مسؤولة عنها في حال تمرير قرارها أو حتى في حال تمرير قرار السودان الموازي؟! ولكن بالمقابل دعونا نرى ما هي التبعات التي يمكن أن يتحملها السودان أيضاً في الحالتين.
لقد صار من مكرور القول إن السودان من ضمن الدول التي لا زالت تقبع تحت بند الإجراءات الخاصة بالمجلس منذ أكثر من عقدين، وبالرغم من خروج السودان منذ العام 2009 من براثن البند الرابع(Item 4) والذي يعني تعيين مقرر خاص للمتابعة والرصد والتقرير عن سلوك الدول السيئة جداً، إلا أن وجوده تحت البند العاشر لأكثر من سبعة أعوام يعتبر إخفاقاً أيضاً وسُبَّة في العُرف الدولي. وكان العام الماضي قد شهد قبل بداية وأثناء مداولات المجلس، مسرحية سيئة الإخراج أبطالها الوفد الأمريكي والوفد السوداني، بدأت بأن صرح وزير الخارجية السوداني بأن أمريكا ستودع مشروع قرار تجاه السودان تحت البند الرابع، ولكن المفاجأة كانت أن تقدمت الدولتان للمجلس بمشروع قرار متفق عليه بينهما ما جعل الدهشة تعقد ألسنة أقرب المقربين لأمريكا نفسها وما حدا ببعض المراقبين والحقوقيين كأمثال الدكتور أمين مكي مدني لوصف ما حدث بأنه لعبة مصالح سياسية ولا علاقة له بحقوق الإنسان.
أما تصريحات السفير الدائم لبعثة السودان بجنيف مصطفى عثمان اسماعيل في عامنا هذا، فإنه يمكن حسبانها وفي شكلها الظاهري كموقف تفاوضي للضغط من أجل تنازل الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً وإن القرار الأمريكي- لو صحت معلومات الصحيفة- سيخضع للتصويت داخل المجلس، وبالتالي فإن الكتلة التصويتية داخل المجلس تُرجِّح كفة السودان بحسبان الكثرة العددية للمجموعة الأفريقية والمجموعة العربية وحلفائهم في مواجهة الكتلة التصويتية لأمريكا والمجموعة الأوربية وحلفائها. وبالرغم من أن التصويت أمر غير محمود في عرف المجلس إلا أنه يتم اللجوء له في حال عدم وجود إتفاق بين الأطراف المعنية. أما إن تحسبنا لما تخفيه بواطن الأمور فإن موقف السودان الحالي ووفقاً لتصريحات أكبر مسؤول لوفده، لا يعدو كونه أما لعبة مصالح سياسية مجدداً تخفي ورائها ترتيبات أخرى، أو حالة مواجهة مفتوحة مع أمريكا والمجتمع الدولي، وفي الحالين سيكون السودان الشعب والدولة هو الخاسر في هذه اللعبة! وتبعات ذلك كله إن درى السيد السفير أو لم يدرِ، سيتحملها السودان وحده وشعبه المغلوب على أمره.
لقد بدأ المفوض السامي الأمير رعد بن الحسين ومن خلال التنوير الذي قدمه عن حالة حقوق الإنسان في العالم والذي يُجرى بشكل دوري(Global Human Rights Update) في افتتاح مداولات هذه الدورة(13 سبتمبر 2016) ، بالشكوى من عدم تعاون الدول مع المجلس ورفضها لآليات حقوق الإنسان وممانعتها من وصول المجلس عبر خبراءه ولجانه للدول أو لبعض المناطق بها. وعدّد الأمير رعد دولاً بعينها كمثال على تلك الممانعة ومن ضمنها كوريا الشمالية، سوريا، إيران، بيلاروسيا، أريتريا. وقد حدد أسرائيل من ضمن الدول التي لديها سجل عريض في مجال رفض التعاون مع آليات حقوق الإنسان خصوصاً برفضها عدم الوصول للأراضي الفلسطينية المحتلة.
يتضح من خلال تقرير المفوض السامي أن هذه الدول تعتبر كوارث العالم بامتياز في مجال حقوق الإنسان، ونزيد على القول بأن المفوض السامي خصَّ أمريكا نفسها بالذكر كونها ترفض زيارة المقرر الخاص بالتعذيب لسجن غوانتانامو! فأين السودان من كل ذلك؟!
إن السودان وبتوجهاته تلك يضع نفسه بين خيارين أحلاهما أمرَّ من الآخر؛ الخيار الأول هو تمرير القرار الخاص بالمجموعة الأفريقية والعربية تحت البند العاشر بالتصويت ورغم أنف أمريكا والمجموعة الأوربية، وبالتالي سيخسر السودان كثيراً عندما يقف في مواجهة هذه الدول، خصوصاً وأن الفترة الأخيرة شهدت تحسُّناً غير مسبوق في العلاقات معها وبداية التحضير لمراحل جديدة ومصالح مشتركة، وبالتالي فإن كل المجهودات والأموال التي صرفت لاقناع المجلس والعالم بإزالة العقوبات واستئناف العلاقات ستروح هباءً مع الغضبة الضارية لهذه المجموعة.
الخيار الثاني وهو رفض التعاون مع الخبير المستقل وهو ما سيضع السودان في نفس الصف مع إيران وكوريا الشمالية وسوريا وإسرائيل، وهو وضع لا قبل للسودان به في الظروف الحالية، فمن ناحية هو وضع يفتح الخيارات أمام المزيد من الضغوط من جانب مجلس الأمن والدول المكونة له، وربما إن هذا المناخ سيصلح لإستصدار قرارات جديدة وسالبة تجاه السودان، أو، تقديم المزيد من التنازلات في المحافل الدولية وأمام القوى العظمى، ويجدر هنا أن نذكر أن كل الدول سالفة الذكر لها ما يحميها في المجال الدولي ولها قدرة على إدارة ملفاتها مع القوى العظمى فماذا لدى السودان؟! السودان لا يملك سوى الأراضي الشاسعة والثروات الطبيعية والمياه وهي ما يمكن أن تكون لقمة سائغة ومحتملة لتفادي غضبات القوى العظمى وهو ما سيشكِّل خسارة للشعب السوداني والمواطن البسيط. فإن كان هناك ما هو تحت المناضد فليتأكد القائمين على أمر الدولة، إن كل ما هو في الخفاء فهو سيأتي بمصلحة محدودة قصيرة المدى وفيها ضياع موارد العباد.
إن على الدبلوماسية السودانية أن تراجع مواقفها المتعنتة تجاه هذا الملف، فالعنترية والعناد ليست شكلاً مناسباً لإدارة مثل تلك الملفات، والتهور وعدم وزن الأمور لا يأتي بثمار جيدة في نهاية المطاف، وكلنا يعلم أن البلاد على شفا حفرة من نار التفكك والانهيار وأن القيادة الحالية للبلاد في حاجة إلى تعزيز وحدة الجبهة الداخلية بأكثر من ما هو قائم قبل حتى التنازع في الجبهة الخارجية وهذه هي النظرة الاستراتيجية ذات الحلول الناجعة للأزمات في السودان ومن ضمنها أزمة ملف حقوق الإنسان.
baragnz@gmail.com