يازمان الوصل في جبل مرة (3 ـ 3)
الحكومة لن تدفع الديات ولا تكاليف مؤتمرات الصلح
إدارة الموارد مشكلة جنوب دار فور الغنية
تطبيق تجربة أمبدة في معسكرات النزوح
محمد الشيخ حسين
abusamira85@gmail.com
بدأت الرحلة إلى نيالا من نيرتتي عند الغروب، بعد أن صلينا المغرب والعشاء جمعا وقصرا. لن تسمح وعورة طريق زالنجي ـ كأس ـ نيالا بالاستمتاع بالمسافة عبر الأجزاء الجنوبية من جبل مرة. ولن تسمح سخونة أول المساء لهواء الليل الدافوري البارد بالتسلل طوال الرحلة. ولن تتيح العتمة أن تسمع ألقا من النظرات اللامعة أو ترى شيئا من روائح البرتقال.
يتيح بقية ضوء الشمس الشارب من لون الشفق عند المغارب النظر في البقاع التي يمر بها الطريق، لكنه المشهد يحتاج إلى شعرٌ أندلسي رقيق أنيق، مُخَضَّل بالورد مخلَّط برائحة المسك مُخَضبٌ بالألوان.
وريثما يخلع اليوم ثوبه الأبيض، تزدحم أنحاء الطريق بمشاهد تبعث النشاط، وتجدِّد الأشواق للأحباب، وتفتح الأبواب للخيال، وتنهال بأجمل صور الجمال، لكن الرنين المستمر لهاتفي رفيقي الرحلة يوسف عبد المنان ومحمد الفاتح، تفسد الاستمتاع بما تبقى من زمان الوصل في جبل مرة أو نفح الطيب من غصن دار فور الرطيب.
لقد كانت كل هذه الخيوط السرية حاضرة في لا وعي يوسف عبد المنان، وهو يصوغ ذلك الشطر البسيط عن كل التفاصيل المملة في مفاوضات أديس أبابا الأخيرة، فحوار دار فور عنده مونولوج وليس ديالوج، وحديث للذات أكثر منه للآخر، ولو شفت مرة جبل مرة، يعاودك حنين طول السنين، ولن يلومك أحد إذا مزقت ثيابك ورميت نفسك في أقرب شجرة تجعل الغصن يثمر والقد يميل والوجدان يسيل روحا وريحانا وشذى.
الأسواق والناس
كانت مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دار فور على موعد مع المطر حين دخلناها ليلا، فسمائها ملبدة بالغيوم ويشوبها هدوء جميل وحركة الناس والأسواق تضج بالحركة ومشتعلة بزبائنها من الرجال والنساء. ويعني أن أهالي نيالا تجاوزوا المعاناة القاسية، خلال أيام حظر التجوال التي فرضتها التفلتات الأمنية. وهنا تكمن المفارقة الأولى، لأن زائر المدينة الذي يدخلها بعد العاسرة ليلا قد يتملكه الشك من أن هذه المدينة ذات الرمال الناعمة والأشجار الضخمة الخضراء قد شهدت أو عاشت شئيا من أهوال دار فور أو تداعياتها التي سارت بذكرها الركبان.
ونيالا (بكسر النون) لفظ بلغة قبيلة الداجو يعني في رواية أرض المقيل، وفي رواية ثانية مكان الأنس. وسواء أن صحت الرواية الأولى أو الثانية، فإن موقع المدينة كان مسرحا على الهواء الطلق لألعاب موسمية كبيرة في إطار النشاط الفولكلوري الذي تشتهر به المنطقة منذ وقت طويل. ويحلو لسكان المدينة أن يطلقوا عليها اسم نيالا البحير.
برزت نيالا في القرن الخامس عشر كمقر لحكم مملكة الداجو، لكن يرجع تاريخها كمدينة إلى عام 1929 م، عندما اختيرت إبان الحكم الثنائي لتكون مركزا إدارياً لمجلس ريفي غرب البقارة. ووفقا لبعض الروايات فإن قائد القوات البريطانية آنذاك التقى بالسلطان سليمان آدم ليستشيره حول أفضل الأماكن في دار فور من حيث توافر مصادر المياه وتضاريس الأرض لأقامة مقر الإدارة البريطانية في دارفور، فأشار إليه السلطان بنيالا كمكان تتوافر فيه تلك المقومات، وعمل الإنجليز بتلك النصيحة فأصبحت نيالا عاصمة إقليمية.
الخبر الأكيد
نعلم أن المهندس آدم الفكي تعود جذوه إلى النهود ونشأ في الأبيض، ولم يرى دار فور طوال حياته، إلا بعد أن عين واليا لولاية جنوب دار فور. لكن هذه المفارقة، وهي الثانية في هذا السياق، قد ساعدته في ترتيب هذه الولاية الذاخرة بإمكانيات اقتصادية ومقومات بشرية كانت في حاجة إلى إعادة ترتيب وإدارة. وحين ضمنا مجلس الوالي في صباح مشرق تتخلله حبيبات من زخات المطر التي تهطل بنعومة ورقة في نيالا، طلبت من الوالي المتخصص في الجيولوجيا أن يغوص بنا في طبقات المشاكل في ولايته. أجاب الوالي بابتسامة من نسي تخصصه، أن محصلة إجراءات بسط هيبة الدولة مكنت حتى الآن من إلقاء القبض على ما بين 80 في المائة من المتفلتين، ورفع حظر التجوال حتى الثانية عشرة مساء.
وكان الخبر الأكيد عنده أن الولاية باتت تمتلك قوة نظامية ضاربة تستطيع الوصول إلى موقع الأحداث في زمن قياسي، ولم يعد الوصول إلى الجاني داخل نيالا يستغرق أكثر من ساعتين.
وسارت إجراءات بسط هيبة الدولة في طريق آخر تمخض عن عدة قرارات يعددها المهندس الفكي في النقاط التالية:
* إيقاف دفع الحكومة للدية في النزاعات القبلية، لأنها كانت من أسباب إثارة المشاكل.
* عدم تحمل الحكومة تكاليف مؤتمرات الصلح وأن تقع مسؤولية هذا الأمر على القبائل المتصارعة خاصة المخطئة، وأسهم هذا القرار في خفض معدلات الاحتكاكات القبلية.
* الرفض التام لوفود القبائل المطالبة بتعيين أبنائها في المناصب الدستورية، وذلك أن الحكومة مكونة من المؤتمر الوطني والأحزاب التي شاركت في الانتخابات وأنها تنفذ برنامج رئيس الجمهورية، وأن الأحزاب هي التي تعين وليس القبائل.
وحصاد القول عند الوالي في خبره الأكيد أن غياب هيبة الدولة خلال المرحلة الماضية يعود بشكل مباشر إلى أن الديات كان لها أثر كبير على القوات التي تعمل ضد المتفلتين، لأنها إذا تعاملت مع متفلت واشتبك معها وأردته قتيلا يأتي المحامون ويرفعون قضية ليتم إيقاف العسكري، ثم المطالبة بالدية التي تصل الى اثنين مليار جنيه، وهذا الأمر جعل القوات تمارس مهامها بحرية.
أما الأمر الثاني فقد كان منع القبائل من التدخل في عمل الحكومة. وهنا يستند المهندس جماع إلى تجربته الشخصية في تعيين 21 معتمدا لا يعرف قبائلهم ولم يسأل عنها ولن يفعل. ويختم (ماعندي بيهم شغلة).
وينتهي إلى أنه يرغب في قيادة المجتمع الى تجاوز القبلية لرتق النسيج الاجتماعي وهذا لا يتم عبر المصالحات بين القبائل وحدها، بل عبر برنامج عام يشارك فيه الجميع بما فيها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في ورش ومؤتمرات وعمل علمي ممنهج للوصول إلى وثيقة يوقع عليها الجميع.
معسكرات النازحين
الزائر لمدينة نيالا بعد غيبة خمس سنوات مثلي، يلفت نظره أن روحا جديدة باتت تسري في جسد المسائل المتعلقة بالنزوح والنازحين والمعسكرات، وقد تسفر هذه الروح عن صورة فنانة.
تأتي هذه المسائل في ذهن المهندس الفكي من جهة أن تطبيق محور انتقال الولاية من الحرب إلى السلام تحيط به الكثير من التحديات منها أن البعض لا يزال أشواقه تتعلق بعودة حركات التمرد لتحتل المدن. ويرى أن هؤلاء يعتقدون أن عدم الاستقرار الأمني يقود إلى تجدد الحرب، إضافة إلى أن هناك تجار حرب يرجون استمرارها، وكذلك القوات الكثيرة التي كانت تقاتل جزء منهم لا يريدون الاستقرار، وربما المجتمع الدولي. ويبدو الوالي منتبه إلى أن هناك مجموعة من المطبات تواجه عملية السلام، لكن سلاحه للنجاح هو مواطن الولاية الذي تجاوز حاجز الخوف من المتفلتين. أما معسكرات النازحين، فإن الولاية ترغب في أن تضع خطط الولاية حلا لهذه المعسكرات.
وعمليا جلست الوالية مع قادة معسكرات النزوح، وعرضت عليهم خيارين، يتمثل الأول في تلبية رغبة من يريد البقاء في نيالا، وذلك بتمليكه أرضا في الأحياء حتى لو استدعى الأمر أن نخطط أحياء جديدة. وهنا يستدل الوالي بتجربة أم بدة في غرب أمدرمان التي كانت معسكرا، وتحولت إلى أكبر أحياء العاصمة.
ويتمثل الخيار الثاني في العودة الطوعية، مع التزام الولاية بتوفير الخدمات والمعينات المطلوبة في مناطقه الأصلية. ويشغل أمر النازحين بال الوالي، ويفرد له مساحة مقدرة، لأن لهم حقوقا، خاصة عندما نعلم أن المعسكرات في جنوب دار فور يقطن فيها 485 ألف نسمة ما يوازي سكان ولاية شمالية تقريبا.
والشاهد عند الوالي أن جيل جديد من داخل المعسكرات، هو من بدأ يفكر في الحل. كانت هنالك جفوة كاملة بين النازحين وبين الحكومة. وقد تمكنت حكومة الولاية عبر الحوار والتواصل من خلق رابط لتبديد هذه الجفوة.
مظاهر الحياة
يعترف المهندس آدم الفكي والي جنوب دارفور، أن الأوضاع الخدمية بالولاية دون المستوى المطلوب.
وعندما بدأ في إجراء دراسات تشخص الواقع بالولاية، ظهرت مشاكل على الأصعدة كافة. ويضرب مثلا بالخدمات الصحية التي تشهد ضعفا واضحا، لأن كل الولاية بها 30 طبيبا عموميا، ونحو 20 أخصائيا وكل مستشفيات الولاية التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة سعتها 500 سرير فقط. ويوجد مستشفى مرجعي واحد بنيالا.
وفيما يتعلق بالطاقة الكهربائية بخلاف نيالا لا توجد محلية يستمر فيها التيار طوال ساعات اليوم، كما أن الوصول إلى الولاية بخلاف طريق الفاشر غير المكتمل لا يوجد والسكة حديد لم يتم ترفيعها حتى الآن.
وعلى صعيد التعليم تبلع نسبة الإقبال على التعليم 32 في المائة فقط والطلاب الذين يدرسون في المرحلة الثانوية لا يتجاوزون 10 في المائة من النسبة المحددة. أما الفاقد التربوي فعدده كبير، كما توجد أكثر من ألف مدرسة قشية منها 288 داخل نيالا.
وهذه المشاكل المتعلقة بمظاهر الحياة في الولاية، يسعى المهندس جماع إلى إعداد خطط على أن جنوب دارفور خرجت من الحرب، ولابد من وضع خارطة واضحة المعالم لكل المحاور للانتقال من الحرب إلى السلام.
استشراف المستقبل
يرنو المهندس الفكي للمستقبل بنظرة متفائلة جدا، لكنها تتميز بالمرونة والواقعية، فقد نجح بعد تولي منصب الوالي أن يبتعد بالحكومة التي يقودها عن متاهة التصنيف الجهوي أو العرقي.
ويتحدث بلغة واثقة ويتحدى أية جهة كانت أن تتهم الحكومة بالميل نحو جهة دون أخرى.
وفي المشاريع يؤكد سعي حكومته، لكي تتنتظم التنمية معظم أنحاء الولاية بوضوح وعدالة وشفافية مطلقة. ولا تشكل تكلفة التنمية هاجسا لدي الوالي، فهو على قناعة بسيطة فحواها أن المجتمع زاد الحكومة لتحقيق ما نصبو إليه.
أما الإمكانيات المادية التي تمكن من تحقيق خطط التنمية، فإن جنوب دار فور ولاية غنية، فهي تجارية وزراعية. والدليل عند الوالي أن نيالا تستهلك يوميا أربعة آلاف جوال دقيق، ويذبح فيها ألفا رأس من الماشية يوميا، وهذا يوضح ثراء الولاية التي تعاني فقط من مشكلة إدارة الموارد. إضافة إلى منهج الوالي يقوم على وضع الخطة أولا، ومن ثم البحث عن الموارد، لأنها يمكن ألا تأتي أولا.
ولم يسع المجال في مجلسنا مع الوالي في منزله الواسع الأنيق، للخوض في تفاصيل مشاريع التنمية في جنوب دار فور، لكن المهندس الفكي ينبهنا إلى الإطار للتنمية يعتمد على التالي: إن جنوب دارفور هي ثاني ولاية بعد الخرطوم، يبلغ عدد سكانها نحو خمسة ملايين نسمة، تمتاز بنحو 15 مليون فدان من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، 25 مليون رأس من الثروة الحيوانية، نيالا بها أكثر من 20 بنك داخلي، تجاور ثلاث دول إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وتشاد، ينتهي خط السكك الحديدية عندها، هي الرابط بين الولايات الخمس، وتساعد التركيبة السكانية في أن تكون مدينة مركزية في غرب السودان. وحصاد القول عند المهندس آدم الفكي والي جنوب دار فور أن كل هذه العناصر تملأ نفسه بالثقة، وهي زاده في خطط التنمية التي تجعله يرنو إلى مستقبل مشرق زاهر.
زمن الرحيل
تمتاز اللغة العربية بأنها مفعمة بالمفردات والتعابير التي تصف حالة الشوق والحنين والصبا والـُبعاد والشجن والهجران والفراق والوصل واللقاء. ولكن هذه اللغة تمنعت حين أقلعت الطائرة من مطار نيالا في طريقها للخرطوم بعد رحلة في ربوع ولايات غرب ووسط وجنوب دار فور امتدت لأربع ليال وخمسة أيام حسوما. وتقلع الطائرة من المدينة، وهي تحلق منخفضة في أجوائها، كنت مندهشا من سحر المنظر وروعته وقلت في نفسي منظر عناق الرمل والأشجار على ضفتي وادي برلي (لا يصلح له إلا شاعر). وظلت صورة الوادي المشهور بلون الذهب والشمس مشرقة وأراض خضراء والطيور تطير وتهبط على تلك الأرض في هدوء وثبات وشفافية بلورية، ثابتة في مخيلتي إلى حين اقتراب الطائرة من مطار الخرطوم، وفي النفس قلق غريزي من تغيير المكان والحلول في آخر وما تدخره الأيام من مصادفات قد تكون غير سارة.