آمال النضال: رسالة إلى أحزابنا المعارضة

 


 

 

 

لقد كان العام 1989 هو عام الرمادة بالنسبة لكم كأحزاب سياسية في اليسار ويمين ويسار الوسط، وكان ضربة بداية لأعوام سمان للإسلاميين ومن تحالف معهم في اليمين أو يمين اليمين.
ما دعاني للنظر في ذلك التاريخ، ليس الحدث في حد ذاته، بل مشوار مقاومتكم بكل أشكاله بداية من الاعتقالات التي طالت قياداتكم ورموزكم، مروراً بفترة التجمع الوطني الديمقراطي بعد تحالفكم مع الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق؛ هذا المشوار الذي تكلَّل في منتصفه بتواضعكم على خيار الانتفاضة الشعبية المحمِّية بالسلاح في ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية في العام 1995. انتهى هذا المولد كما هو معروف بعودة الحركة الشعبية عبر نيفاشا وإذعان جزء منكم (التجمع الوطني الديمقراطي بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني) لاتفاقية القاهرة مع حكومة الخرطوم، والجزء الآخر لاتفاقية التراضي الوطني (حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي) وانخرط بعضكم في السلطة، وهنا بدأت مرحلة جديدة من الشد والجذب، ولكن هذه المرة من داخل الجحر لا من خارجه، ثم خرج بعضكم، ولكن بعد أن تعطَّنت ثياب مسيرته السياسية بالريِّح المُنتنة.
هذا المشوار اتَّسم في رأينا بتشابك طموحاتكم على تباين تياراتكم، وعلى الرغم من أن طموحاتكم هذه حدَّها الأدنى الذي تلتقون عنده هو إسقاط نظام الجبهة الإسلامية كما تدَّعون، وظاهرها البحث عن الديمقراطية والسلام، إلا أن الحدود العليا لها، بينها برزخٌ كمُلتقى البحر والنهر بحيث لا يبغيان، طموحات متنافرة كقُطبي مغنطيس، لا مُنسجمة كالنيل في بلادنا الطيبة، باطنها تستفرغونه كلما أصابكم الطُّمام من بعضكم بعضا، عداوات وبغضاء وتشاحن، وخناجر مدسوسة تحت الثياب وخلف الظهور.
كذلك فإن تياراتكم هذه، تدَّعي أنها تبحث من خلال مقاومتها ودعوتها للتغيير عن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة؛ في الحقيقة هذه ليست استراتيجيتكم، هذا تكتيك قصير ومعلوم للوصول للأهداف النهائية، فهناك تيارات معارضة لبقاء الإسلاميين في السلطة ليس لموقف أيدولوجي، بل هدفها هو إرجاع سلطة اختطفها منهم الإسلاميون بليل، وهم لذلك، يظنون أنهم أولى بها بحسابات الوجود الجماهيري والذي اختبرته في آخر انتخابات في الديمقراطية الثالثة (1986) وتمثِّل هذا التيار أحزاب الأمة وأفرع من الحركة الإتحادية. وهناك تيارات الأعداء الأيدلوجيين من يساريين وبعض القوميين، وهذه التيارات هدفها الأساسي إزالة الإسلام السياسي أو أي نظام ذي صبغة وأيدلوجيا دينية من الوجود، فهم يعتقدون أنه يحمل في جيناته أمراض الاستبداد والفساد والتلفيق والنفاق، إذن وبالضرورة، سيكون البديل (علمانياً) يمثِّلونه هم ولا أحد سواهم. وعلى الرغم من استخدامكم لذريعة استشراء الفساد والمحسوبية وغيرها من الأمراض التي استوطنت جسد البلاد، إلا أنكم عجزتم عن إثارة الغضب على خصمكم، لا لقوة هذا الخصم، ولكن لضعفٍ في أدواتكم ومواقفكم، ولتفرُّق كلمتكم، وانفضاض تحالفاتكم، بسبب تلمُّظكم من الغيظ على بعضكم، نسبة لثأرات قديمة وأحقاد تاريخية دفينة، بالإضافة إلى تعارض مصالحكم في نهاية المطاف.
لذلك نجح الإسلاميون في شقَّكم أكثر من مرة، واستفادوا من الخلافات التي دبَّت وسطكم بسبب بحثكم عن هذه الثأرات، وبسبب اختلاف أهدافكم الاستراتيجية، ومن خلال ذلك انجرَّ بعضكم إلى خانة النظام، بل خانة المدافعين الشرسين والمستميتين في خلق تبريرات لاستمراره، ووجدوا مقابل ذلك كرسي وزاري هنا أو مشروع استثماري هناك!
بالمقابل فشلتم في التواثق على مشروعٍ وطني متكامل، يحملكم على التكاتف بصبر وطولة بال بعيداً عن الثأر، وللوصول لهدف الحد الأدنى الذي ترجونه. ما لم تستثمرونه هو وقوع النظام نفسه في ذات الحفرة التي ظل يحفرها في طريقكم بين الفينة وأختها، فقد انقسم على نفسه في العام 1999 وكانت تلك أكثر أوقات النظام ضعفاً؛ والأنكى والأمر أنكم وبدلاً من أن تنتهزوا ذلك الضعف، طفقتم تشمتون في الانقسام وأضعتم ثمين وقتكم في انتظار أن يجهِز الإسلاميون على بعضهم في شوارع المدن وبين الحواري والقُرى.
انقسم الإسلاميون مرة ثانية وثالثة، ولكن ظلَّ جزء منهم يعضُّون على كراسي الحكم بالنواجذ، وفي كل مرة ينقسم فيها فريق منهم، تستقبلونه بالرياحين والأحضان، حتى أنه جاء وقت أصبحنا لا نفرق فيه بين المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي!
ورغم ذلك كان هناك تيار ولا يزال، الأقدر على إدارة معركته، ليس لخبرة أو طول تجربة، ولكن لأصالة متجذِّرة، وتضحيات ملموسة، ووجع مقيم، وصدق في النوايا؛ هذا التيار يمثله لفيفٌ من المثقفين غير الحزبيين والنقابيين، العمال والزرّاع، والفنيين والمهنيين بأجيالهم القديمة والحديثة، كما ينشط ضمن هذا التيار بعض طلاب الجامعات وبقايا الطبقة الوسطى القديمة وأبنائهم وبناتهم.
كانت ثمرة ذلك التيار ظهور مجموعات جديدة وعديدة، جُل عضويتها من الأجيال التى نشأت في ظل حكومة الإنقاذ(1989- ...)، ورغم ذلك نهضت هذه المجموعات داعيةً لمشاريعٍ للتغيير الشامل. بعض المنتسبين لهذه المجموعات انضموا في وقت من الأوقات، وخلال حياتهم السياسية القصيرة إلى أحزابكم، ولكن يبدو أنكم لم تُلبُّوا طموحاتهم في النضال وآمالهم في التغيير.
أختم لكم رسالتي هذه بمقتطف من مجادلتي لأحد المثقفين الموثِّقين في بلادنا، وهو البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، وظني أن في ثنايا هذه المجادلة ما يجيب على سؤال قد يتبادر إلى أذهانكم: ماذا أريد من هذه الرسالة؟ في العام 2015 كتب البروفيسور عبدالله في ذكرى 22 يوليو 1971 وهو التاريخ الذي انتكس فيه إنقلاب هاشم العطا، وحدثت فيه مذبحة بيت الضيافة، كتب مناصحاً مجموعات- أسماها الشباب- ليبتعدوا عن الثأر، وسرد مسيرة تاريخ سياسي حافلة بالدماء وطلب الثأرات والعنف والعنف المُضاد جاء عنوانها: (رسالة إلى سائر شباب السودان.. هَرِمنا: لنطوى صفحة عنف الدولة والعنف المضاد). وقال البروفيسور إن من هذه الحادثات ما انقضى زمانه ومنها من ينتظر في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق نزولاً إلى أحياء المدن والقرى على نطاق القطر. وأكد: إن ما يُعيبنا بالطبع أننا معطنون في هذا التاريخ الدموي السُدى. ولكن ما يخذينا حقاً أننا لم نتواضع بعد على خطة لطي صفحته كتاريخ، فنتدابره كثأرات تمشي معنا على الأرض.
وختم البروف رسالته بالقول: (إنني لأدعو سائر شباب السودان، سائرهم، أن يوطنوا النفس باستئصال العنف من السياسة كما صورناه حتى يتسنى لهم وطن خلا من الغل والثأر والجرائم الكاملة والأولياء الذين بلا مقابر . . ظاهرة تزار. ولتدم أنت أيها الوطن). انتهى المقتبس من رسالة البروفيسور.
ومع كامل احترامي لما يفكر فيه البروفيسور بصوت عالي عبر قلمه الصقيل، أقول لكم يا أحزابنا ما قلته في ردي له سابقاً، وهو إنني من ضمن آخرين، ظلَّت تتملكنا ولا زالت، الضغينة والبحث عن الثأرات، ولكن ليس فقط من أحداث بعينها وظلامات محدَّدة وموثَّقة، بل من طريقة التفكير التي أوصلتنا وبلادنا لحافة الفناء بين الأمم، ومن نمط التعاطي مع الأزمات التاريخية الذي تعتوره مفاهيم الجودية عوضاً عن النظام والانتظام به والامتثال له، والعفو بدلاً عن المحاسبة ومطلوباتها، والتنازل المُذعن في سبيل السلام بدلاً عن التفاوض بعنوةٍ واقتدار في سبيل ترسيخ هذا السلام؛ هذه المفاهيم والمعاملات في السياسة وغيرها من إرث أخلاق السياسة السودانية (المُقعِد) هو الذي يجب بل الأولى أن يجري تمحيصه وتقويمه على مهلٍ حتى وإن حدث التغيير السياسي، وهذا هو ثأري وربما آخرين. أما البحث عن قبور الشهداء وضحايا الأنظمة المُستبدِّة في تاريخ دولتنا فهي مُهمة ضمن مهمات أُخر، تقع في صلب رد المظالم وإحقاق الحقوق بشكل فردي من خلال نظام قضائي مستقل فيؤخذ كل مجرم بجرمه، بحيث لا تتمُّ بشكل جماعي إلا في إطار بناء المقامات أو الأبنية والنُصب التذكارية، والتماثيل في الميادين العامة، وغيرها من أشكال توثيق تواريخ الشعوب والاحتفاء بها والاعتبار منها.
الحركات الشبابية وفئة الشباب التي وردت في رسالة البروفيسور عبدالله علي إبراهيم - حسب فهمي لها- هي مصطلح لتكوينات قصيرة العمر بحساب السنوات، كسبها السياسي يقتصر على فترة الإنقاذ، والخسارات التي أُبتليت بها كبيرة، فقد وُلدت من رحم الاحتجاج على استبداد السلطة الحاكمة، ولكنها رضعت من ثدي رفض استبداد الأحزاب والتكوينات التي تعارض هذه السلطة، ونشأت على أكتاف الصراع بينها وحرس البوابات العتيقة، ولكنها تعلَّمت وخبرت منهم وعنهم الكثير. عانى من انضم لهذه التكوينات من الإرث الثقيل الذي خلَّفته ممارسات الأجيال السابقة لها، فلم تعُد الإنقاذ فقط هي المشكلة، بل وعت المفاهيم والممارسات التي صنعت الإنقاذ، فأصبحت هي هدفها الاستراتيجي للغزو، وما مقتل الأفعي إلا من رأسها.
قد لا يكون (الشباب) وفق المفهوم آنف الذكر لوحدهم في هذه العملية، أي عملية التغيير الشامل، وربما تأتي عملية التغيير الشامل نفسها بيد تكوينات أخرى في رحم الغيب، كما أن هناك احتمالات بأن يفشل هؤلاء في سلوك دروبٍ مُعبَّدة نحو هذا التغيير، أو قد تنحرف عن ما اختطَّته، فتقع فريسةً لعلل السياسة والتنظيم. ولكن الراسخ حتى الآن أن ما احتازته من تجربة، سيكون على الأقل، صبغةٌ تُتبع.
ربما أكون قد قصّرت في الإجابة أو لم أوفها حقها، فهذا شأن شائك ولا يجدي معه مقال عجول، ولكنها رسالة لم تُكتب نهايتها بعد، فالنهايات يكتبُها تيارٌ كاملٌ، عبر تضحياته وآلامه وآماله في النضال والتغيير.

baragnz@gmail.com

 

آراء