يا بختنا، فالسودان كله اصبح سياسي ، حتى انا والله ، كنت سابقا من قبل ان يزورني هذا الشيطان اللعين ، اتهنأ بزمني وبصلاتي واجتماعيات وبحياتي ، ولا شيء يهمني ولا غم يغمني ، وجدت نفسي فجأة في نزاع نفسي ، وفي دفاعات ومرافعات ومعمعة عظيمة ، وفي معية وانحياز تام لجهة ما ولفكر ما ، وكأني املك وحدي ما يمسى بالسودان حتى صار همهه يتقاسم همي لاولادي ومعيشتي لا بل يقسم جهدي في تعبدي لله رغم اني من عوام الناس ، لا نعتاش عليها ولم نوظف عليها ولم توضع على كتوفنا النياشين على اننا سياسيين ولم نؤجر عليها حتى ولو بكلمة شكر ، وما زلنا نرزح في مرض عجيب يصل لدرجة الادمان .
الغريب اني اعرف انني فقط اقذف بحجر في بئر آسنة تسمى السياسة في السودان فنلبس وحه القباحة عند من يسوءنا ، ووجه الحسن عند من لا يشكر ولا يشبع في الثناء عليه .
هل تستطيع ان تنفي ذلك عن نفسك ؟
السياسة في السودان للاسف اصبحت فرض عين ، وتليها كرة القدم ، وتليها هموم الحياة ، وياتي اخيرا الهم الديني ومن المفترض ان تعكس هذه المتوالية.
والسياسة في البلدان الراقية هي إدارة مثلها مثل ادارة شركة ، يدير من خلالها السياسيون البلاد والعباد ، ودور اعوام لعباد مثلي ينتهي بصناديق الاقتراع وبعدها تجدهم ينسون النزاع ولا يدمنون السياسية بشكل يومي ، ونحن هنا اصبحنا نأكل سياسة ونتنفس سياسة حتى غطت علينا اجواء الحياة ، ونمارسها بما لا تستحق حتى يخسر الولد ابيه والاخ اخيه والزوج زوجته وفي النهاية مجرد عوام نرجع بالمساء بيوتنا للنام على العناقريب وجيوبنا خواء ورؤوسنا هواء.
السياسيون من فوقنا يديروننا كما تدار القطعان ، سرحة وسربة وزربة ، يسرحوننا كيف وبما يشاءون ويزربوننا بالليل في بيوتنا نصقع جرة العدم ونلوك الشقاق والعداوات ، ويرجعون هم لبيوتهم بوافر الدينار واسرة في رغد وهناء ونحن جراء شقوتنا وحرق اعصابنا نخسر حتى اطفالنا احيانا.
انا وصلت درجة الادمان في هذا هل تستطيع ان تنفي عن نفسك ذلك.
السياسة في السودان كما هي في كثير من بلداننا العربية حولنا تجردت من الله ومن موازين الحق والعدل وظلمت حتى اصبح الناس في الوطن الواحد صنفان ، مدافع عن حكومة لدرجة الادمان ، ومعارض لها لدرجة الجنون ، لا وسط ولا وسطية ، لا وطن يراعى ولا دين يلتزم .
اذا جاءنا من يدعي الإسلام وتطبيق الشرع عليه ان يكون اقرب لله واكثر مثالية وعدلا واكثر قبولا تحملا للغير.
ومن جاءنا يدعي غير ذلك فعليه ان يثبت لأنه اكثر رحمة على الوطن وعلى المواطن تنمية وعمرانا وبناءا وقبولا للاخر ايضا لأن الاخر هنا وهناك انما هو عماد الاوطان وذخرها وجوهرها.
للاسف نحن في السودان وقعنا بين خطين متوازيين تماما ، أما يمين وإما شمال ، قطبان لا ثالث لهما وبين هذين القطبين يهضم الوطن وحق والوطن ، واللامنتمي امثالنا ، لكن نظل ساسييين بلا وعي للوطن وبلا فائدة له ولا لنا ، انما قد عينا انفسنا عبيد سياسة تخدم احدى القطبين .
واذا دخلنا في تفاصيل السياسة في السودان نجد اننا لا نطبق اسلاما ولا علمانية ولا ديمقراطية ، فتجربة تطبيق السلام قد فشلت بسبب سوالب يعرفها الجميع ، والعلمانية قبلها فشلت باسباب يعرفها الجميع الا ان أس هذه الاسباب هما التعنت والتعصب لتينك القطبين بلا هوادة ، تعصب لدرجة العمى ، اما الديمقراطية ، المدعاة فهي فشلت وستفشل للأسباب النالية:-
1- يتنازع القطبان عليها بحيث يستخدمانها ظاهريا ، للتحشيد لصالح اي منهما فترى برامج جميلة مزينة تدعي خير الوطن ونمائه في شكلها ومضمونها من كلا الطرفين، وترى صناديق اقتراع يصطف لها الناس للتصويت ولكن للاسف هؤلاء الناس واغلبهم عوام مثلي ، جاؤوا لتلك الصناديق وبعضهم حمية وعصبية بلا اي هدف غير الغلبة لاحد القطبين ، واما بائع لضمير واما مخدوع بأيدولوجيا معينة واما سياسي يدعو للاستقطاب ، فيصوتون ، لترى برلمانا مبتذل ، وخطا القطبين فيه واضح ، نزاع وشقاق ولعب بالذقون وضياع للزمن والمال وهدر للطاقات وفي النهاية ، لا يستطيع ان يحل معضلة الوطن الحقيقية والتي هي ليست ديمقراطية صورية ولا صناديق ولا عضوية برلمان ، ثم ترى توزير وتعيين وتنصيب ومجلس وزراء وترى رئيس دولة ، لكنها دولة اخر ما تحل هي معضلة الوطن .
معضلة الوطن تتمثل في هذين القطبين ، يمين ، يسار ، لا وسط بينهما ، هل تستطيع ان تنفي انك يمين فقط ، أو يسار فقط؟
الوسط في السودان ، داب بسبب تخطي الاحداث له ولاطروحاته التي اما تتقوى بالقبيلة او الطائفية او الإقطاع ، والوسط استقطب ايضا مع اليمين او اليسار ، دعنا من وسط ، هل ينكر اصحاب الوسط عندنا الان انهم دابوا وانهم يلهثون بين اليمن واليسار حتى يتقاسموا كعكعة السودان المقسومة لنصفين اساسا؟.
تعاقب الحكومات عندنا اصبح دورة لليسار تليه دورة لليمين ، لا وسط ولا ديمقراطية مزيفة لأن الديمقراطية نفسها اصبحت صورية المظهر مستقطبة المخفر أما يمين واما يسار .
هل يستطيع ان ينفي اليسار انه اعطي الفرصة في الحكم ففشل وابتذل ايام نميري ؟ ونحن نعرف ماذا حدث تماما له ومنه . وهل يستطيع ان يعدد لنا انجازاته في تلك الفترة غير انه كان كالدجاجة الخائبة التي تفقع بيضها لتأكله؟ ألم يجد اليسار سكة حديد ومشاريع زراعية واتصالات بعرض البلاد وطولها ففقع بيض السودان ودمرها جميعا في عطبرة وفي حلفا وفي سكر عسلاية ، ألم يعمل على محو اي شيء ليصبغه بلونه الاحمر ناسيا الوطن وذخر الوطن؟
هل يستطيع اليمين ان يدعي انه في الانقاذ انه حافظ على الوطن وعلاقات الوطن الداخلية وحافظ على خارطته وهويته وحافظ حتى على المشاريع التي أنشأ ؟ ونعم ان الحال والقضية في السودان الان صارت امنية بالدرجة الاولى ، جراء الاستقطاب والاستلاب وانعدام الثقة والخوف من الاخر ، لكن هل يستطيع اليمين ان يواصل الحفاظ على أمن الوطن؟ وحتى اذا حافظ فأين نماء الوطن واين عيش المواطن وأين النماء والرخاء والعلاقات الخارجية ؟ هل قضية الوطن هي حفاظ على أمن فقط ؟ وهل اذا تزعوع الامن عندك الى هذه الدرجة هل انت بخير وسياستك بخير؟ هل يعني ذلك ان هنالك رضى من الداخل ومن الخارج عليك ؟ هل يستطيع اليمين وحده ان يحمى ويحجي السودان عن عتو رياح التغيير العالمية والإقليمة بغض النظر عن اي شيء؟ ومهما وجد انفسه اعذار !!! ومهما صبر له الناس على ان القادم أسوأ سواء كان ذلك حقا ام انه مجرد ترويج وتخويف من الاخر؟.
قضيتنا ، يا وطن ! أننا لم نتعرف عليك الى الان ولم نعرف معناك وقضيتنا اننا جميعا نلعب بالنار وقضيتنا اننا قد عدمنا الثقة بيننا وقد نسيناك ففقدناك.
لم تك عندنا ازمة متعلمين ولا ازمة علم ولا ازمة ادارة ولا ازمة واضعي دستور ولا ازمة دستور نفسه ولا ازمة خيرات ولا ازمة اخلاق فردية نتعامل بها مع العالمين خارجا ، لكن عندنا الان ازمة ثقة وازمة اخلاق جمعية نحكم بها الوطن ، عندنا ازمة اخلاق سياسية وايدولوجية وعندنا ازمة وعي جمعية بما يحيك بنا اقليميا ودوليا ، والاكثر من ذلك عندنا ازمة ضمير وازمة شعور بالوطن واصبح شيطان الترويج للقطبين بلا وازع ولا ضمير واصبحت عندنا ازمة هوية واحدة وازمة دولة واحدة إذ اننا دويلات وجزر متداخلة ومتشاكسة ليس لخير الوطن انما دويلات يحكمها الجشع والتراص والتصنيف والقطبية القصية.
أسأل الله ان يأتي لنا الله برجال يجبهم ويحبونه ويحبونا ويحبوا وطننا ، رجال يرفضون ويعافون القطبين ويتعففون عن الاستقطاب واستلاب الوطن والحكم بالتداعي عليه والتحامل والتحايل على انهم اعظم الناس وطنية واقربهم ربانية بإسم الدين ، او ان رجال يدعون اعظمهم ديمقراطية واقربهم نماء له بإسم العلمانية ، رجال همهم الوطن ويعرفون كيف يديرونه ليخرجونه من عنق الزجاجة الصيق جدا هذه المرة.
middleastmarketing@gmail.com