نظرتي ونظريتي ثابتتان في أن شقوتنا السياسية في السودان تتمثل في (النطاح التاريخي بين اليمين واليسار) ، والذي وصل قمته هذه الايام ، ويدعي اليمين ان النطاح هذه الايام نطاحا ميتا لا روح فيه ويتوهمون او يوهمون الناس ، ألا وجود لليسار اساسا ، وما يحدث انما يحدث للسودان جراء هوجة ضمن حراك عالمي واقليمي لا يملك كائن من كان ان يتسبب فيه داخليا بهذه الصورة ، وهذا خطأ قاتل، أذ ان اليمين متمثلا الان في هذه الحكومة عندما جلس ليحاور ويتنازل انما حاور وتنازل لكيانات داخلية ، وليست خارجية ، تعتبرها الحكومة (قلوب شتى )، لكن الواقع وارادة التغيير والالتفاف حوله ، وصناعته والقيام به وبصورة خارجة عن نمط التفكير التقليدي في اعتماد الكيانات المادية ، وبقيادات مرئية ودور تقليدية كالنقابات المعروفة تقليديا ، قد تلاشت وظهر الحراك بثوبه الاسفيري الجديد والذي يمثل وجود ، لأن الحراك الطبيعي في الشوارع هو من اجل الاستقطاب لكن الاستقطاب نفسه له سبل شتى وغير مكلفة وفاعلة وسريعة ، إذن يوجد يسار وله قلب وعين وروح شاءت الحكومة ام لم تشأ ، والتغيير الان هو مطلب وبأي ثمن وبأي كيفية يحزمها جميعا ويوحدها هدف واحد وهو التغيير ، وسواء اجتمعوا على قلب رجل واحد او اختلفوا فإن (قوة الحق في المطالبة بالتغيير )، في حد ذاتها انما تمثل حضور لمكون متحد الرؤية ، ويتحرك الان بالحكمة والتي يمكن ان تنعدم في اي وقت فينعدم السودان ، ويقيني ان سحابة حراك الكيانات هذا ستمطر في النهاية فقط لصالح برنامج اليسار فقط فينجمع في مصلحة كيان معارض واحد وتدور عجلة النطاح في النهاية بين يمين ويسار حسب قدرنا وشقوتنا.
والنطاح السياسي بين يمين ، يسار قد بدأ بالحقيقة منذ نشأة اليسار في السودان في ظل كنف الاستعمار قبيل انسحابه ، تبعته نشأة اليمين المضاد ، وفي نظري ايضا ان شقوتنا هذه شقوة مزروعة من الاستعمار ، ضمن استزراع نبتات خلاف شيطانية بين مكونات المجتمع السوداني ، فقبل ان يواري وجهه ، أجلس السودان السيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني في طرفي طاولة متباعدة الاطراف وفي وضع ندين وضدين متقابلين ، في صورة تأريخية متداولة للناس ومعروفة ، وقراءتها الاولية تدل على بدء صناعة قطبين طائفيين في السودان سيمثلا شرخا في اكبر حزبين يضمان اكبر قدر من المجتمع السوداني ، ومن ناحية اخرى ظهر الحزب الشيوعي اليساري ، ونقيضه جبهة الميثاق الاسلامية على انهما ايضا قطبا ايدولوجيتين متوازيتين لا يتقابلان ابدا، فدارت علينا شقوتنا في السودان.
وفي ظل ضمور اقطاب الطائفية كما نرى فقد تركزت شقوتنا الان بين نطاح اليمين واليسار اعتبارا من العام 1969 والى اليوم وتمثلت في دورات متعاقبة للحكم السودان الشقي ، وعلى هذا الغرار ، يكثر هذه الايام حراك كبير بين اليمين واليسار للتتغير ، وحراك مقابل للتصبير (التصبير الى ان يؤتي الحوار أكله )، والتغيير الان حتى يستمر التوقد في شعلة شقوتنا.
وسبب مقالي هذا ان احد الاخوة قد نقل لي مقالا يتحدث فيه احدهم ( تحت عنوان : جاكم البطلق أمكم )، يستبشر فيه ويعلي من قيمة التغيير من قيادات حزب المؤتمر السوداني كمثال للتغيير في احزاب اخرى وفي طواقم السياسة السودانية من الكهول الى الشباب ، وركز الكاتب على ان هذا هو (البطلق أم الخصوم ) ، واعتبر صديقي ان مقال الكاتب دعوة للخير والجمال ، بمعنى تواطء وتنازل لخير الوطن ربما يرمي لفك ضائقة النطاح ، ويحسب ان هذل الفعل ايجابيا لصالح اليسار متمثلا في حزب المؤتمر السوداني والذي يتزعم النطاح الآن.
فكان ردي على الصديق :
انا لا ارى في هذا المقال دعوة للخير والجمال ولخير السودان للاسباب التالية :-
1- المقال ناقش موضوع قيادات ، وحراك قيادي ونقلة من الكبار الى دماء الشباب الحارة الجديدة في اليسار وفي اليمين .
2- المقال من ناحية اخرى لم يناقش موضوع التغيير في عقلية الحكومة المتصلب في الكنكشة كما يراه اليسار ، ومن ضمنهم حزب التحرير السوداني نفسه ، وتراه جهات اخرى ان هنالك زحزحة في مواقف الحكومة ، أقلاه باللجوء للحوار الوطني سواء كانت الاسباب ضغوط اقليمة وعالمية او محلية من احزاب المعارضة ، وادراك عيوب في شحصية الحكومة من فساد وانسداد افق وهكذا.
- المقال لم يناقش تنازل الحكومة وتواضعها للحوار الوطني وما هي رؤية حزب التحرير اليساري لمخرجات الحوار كل اوجدته الحكومة وفي نفس الوقت لم يطرح رأيا وتنازلا مقابلا من اليسار انما ركز على تغيير دماء وليس اجندة انتماء لوطن.
نحن يا اخ لا ننظر ولا نتدنتظر لحل المعضلة الحالية للسودان لجهة منقذة جديدة تصب تفكيرها في تغيير افراد او دماء وبدون رؤية او اجندة وطنية ، انما نحتاج يا اخي من يفكر من اليمين بالتخلي الحقيقي عن الكنكشكة بالتنازل لبرامج و" اجندة وطن " حقيقية وليس اجندة انفرادية حتى لو طبق الشرع حرفا حرفا ، كما تهوى قلوب البعض ، لأن الحياة لا تسير بالشرع فقط لأن فيها معاش الناس وصحة الناس وتعليم الناس وعلائقهم ، وأن الأمن والاستقرار لم يأت بشرع لم يطبق اساسا ، وبالمقابل نريد دعوة للخير والحب والجمال من يسار ، ان يتنازل عن شعاراته المتطرفة جدا والتي تضغط في اتجاه التغيير بأي ثمن وبأي نتيجة بعيدا عن " اجندة وطن " لصالح الوطن.
الذي يخيفنا من اليسار أنه قلوب شتى فعلا وان ترآءى، وأنه يريد ان ينقل الوطن من حالة اقصى اليمين الى حالة اقصى اليسار دون المرور بالوسط وهذه نقلة سوف يتهشم فيها الوطن تماما ، حيث ان النقلة كما تعلم اكثر مني ليست نقلة مادية انما هي نقلة معنوية عمرها 27 عام ، ونقلة من بنية مؤسسات وطن تأسست على فكر مخالف وايدولوجيا مخالفة الى هدم وبناء مؤسسات جديدة بفكر نقيض ، يتطلب التحول اليه ، نقض او هدم بناء واعمدة وبناء اعمدة جديدة للوطن على ايدولوجيا ربما لا يرضاها الاخر ولا تناسب مع الوطن ، وتدور دورة الشقاء كما تدور منذ 69 وليس منذ 89 كما يصفها اليسار ، اذ بدأت دورة اليسار حينها فرفضها اليمين ، وناطح ، لكن السودان مر فيها بوسط الى 89 حيث انتقل فيه الحال الى اليمين الذي يناطح الان.
وشقوتنا في السودان يا اخي تتمثل في ان كل جهة ممن يتقاسم السودان الان (يمين حاكم ويسار مناطح)، تأتي لتمحو تماما مقدرات الوطن وتؤسس من جديد لوطن يبدأ من الصفر ، اعتبارا من علم السودان وشعاره ونقوده ولونه وطعمه ولسانه وشعاراته وعلاقاته، وكل شيء باعتبار ان هناك تواز وتنافر بين قطبي السودان الشقي ( يسار ،يمين ) فتدور علينا دوائر الشقاء ثانية.
وهنا ياخ اخي يبرز السؤال المحير الكبير ، لماذا يشقى السودان هكذا ، ويترجل من القمة في عهد الاستعمار وبعيده ، للحضيض في النماء وفي الهوية وفي الحضارة والتقدم والريادة التي تركها الانجليز ، لبعد ستين عاما من عمره؟ .
ان اعتقد ان الاجابة تنحصر في نفس العراك والحرب بين يمين ، يسار ومخلفاتها.
دعونا نعمل جميعا على ايجاد اجندة وطن وبرامج وطن لكي يدخل بها "السودان الجديد" مرحلة ما بعد الربيع السوداني الصامت ، ومرحلة الشرق الاوسط الجديد تحاشيا لخارطة قبيحة جديد يضمر فيها السودان من قلب افريقيا النابض لقلبها المريض فعلا ومن اكبر الدول واغناها من خيرات الله الطبيعية (المكنونة)، الى العوز والمصغبة ، بأجندة وطنية تسع الجميع وتحفظ ماء ووجه عزة عزيزا وجميلا ونضيرا.
والتنازل لأجندة وطن يتطلب التنازل من يمين يدعي الانقاذ وفشل بغض النظر عن أي شيء ، والتنازل من يسار يدعي التغيير وبدون برامج واضحة وفشل ايضا رغم اي شيء ، يتطلب ذلك ، التنازل من الاجندة الذاتية الاحادية التي ينعدم فيها الوطن وهذا في حد ذاته شيء مرير جدا على الطرفين ، ويتطلب التنازل اكثر من قبل اليمين وادعاء الانتفاخ الكاذب الذي ظهر انه ورم ، لتقرب الشقق بينه وبين اليسار ، وتنازل من ادعاء اليسار على انه يملك معاول تهشيم ضحمة ستهشم اليمين والأبد وهذا ادعاء فاجر وهو كاذب وخادع ايضا ، يظهر الطرفين النقيضين على انهما قطين سمينين متأسدين علينا وعلى الوطن ويقودان الوطن للحضيض.
والله المستعان
الرفيع بشير الشفيع
middleastmarketing@gmail.com