boulkea@gmail.com
نشرت صحيفة "الصيحة" الأسبوع الماضي حواراً مُطولاً مع القيادي في حزب المؤتمر الوطني أمين حسن عمر, وقد تناول الحوار الذي أدار دفته بمعرفة وذكاء الصحافيين مقداد خالد وعبد الرؤوف طه العديد من المحاور التي سأقوم بمناقشتها في سلسلة من المقالات أبتدرها اليوم بالمحور المتعلق بموضوع التمكين.
بداية أقول أنَّ الأستاذ أمين لا يطرح نفسه في ساحة العمل العام كسياسي فقط, بل كمفكر متفسلف, وهو الأمر الذي يتطلب منه الحذر والدقة في تناول القضايا, ذلك لأنَّ المفكر لا يُلقي الكلام على عواهنه ولا يستهين بعقول المتلقين بإطلاق كلام يُناقض حقائق الواقع, وهو كذلك لا يُرسل سهام الحديث الطائشة كيفما إتفق.
سُئل الأستاذ أمين : لماذا لم تلجأ حركة النهضة التونسية لتطبيق سياسة التمكين ؟ فأجاب بالقول : النهضة حكمت قريباً والوقت لم يُمكِّنها من التمكين, وعندما قيل له : في المستقبل هل نتوقع أن تلجأ لذلك ؟ كانت إجابته : كل حكومة تقوم بالتمكين, وأخيراً طرح عليه السؤال : العلمانيون حاربوا تجارب الإسلام السياسي في الحكم خشية التمكين كما حدث في السودان ؟ وكانت إجابته كالآتي :
- ( الحديث عن التمكين يعتبر نوعاً من العبث، ولا يوجد حزب في الدنيا يحكم من خلال آخرين لا يؤمنون بفكرته، والتمكين في السودان كان في الوظائف القيادية في الدولة. وكذلك غيّرت الإنقاذ أشخاصاً مسيسين كانوا يعملون ضد فكرة الإنقاذ ). إنتهى
من الواضح أنَّ الأستاذ أمين لا يُبرِّر لسياسة التمكين فحسب, بل يدافع عنها بالتمويه والتلاعب بالكلام, فالتمكين في السودان لم يكُن "في الوظائف القيادية في الدولة" فقط, وهذا أمرٌ لا يحتاج لدليل, ذلك لأنَّ مجزرة الفصل للصالح العام شملت الآلاف من العاملين في جهاز الدولة من شاغلي الوظائف العليا والمتوسطة والدنيا, وهو الأمر الذي أدى لاحقاً لإنهيار الخدمة المدنية بإعتراف قيادات الإنقاذ.
وكذلك يعلمُ القاصي والداني أنَّ الفصل لم يقتصر على الأشخاص "المسيسين" بل إمتد للكثيرين من غير المنتمين سياسياً, هذه هى حقائق الواقع الساطعة, أمَّا التبرير الواهي الذي يقول أنه "لا يوجد حزب يحكم من خلال آخرين لا يؤمنون بفكرته", فهو لا ينطبق إلا على الأحزاب في ظل الأنظمة الإستبدادية التي لا تؤمن بالتداول السلمي للسطة, ذلك لأن وجود خدمة عامة محايدة يتعارض مع الأسس التي تقوم عليها تلك الأنظمة.
الجانب الذي يتعمَّد الأستاذ أمين السكوت عنه وتمريره, هو أنَّ الفصل دون أسباب لم يكن سوى أحد الأوجه القبيحة لسياسة التمكين, ذلك لأنَّ الجوانب الأكثر قبحاً تمثلت في إختطاف الدولة نفسها لصالح منسوبي الإنقاذ عبر توظيف آلاف الكوادر في الخدمة العامة, دون كفاءة وتأهيل وخبرة, والأهم من ذلك هو إحكام السيطرة على مفاصل الدولة الإقتصادية عبر القوانين و السياسات والقرارات وبصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث.
ثم تتواصل الإجابات المدهشة للأستاذ أمين, فعندما قيل له أنَّ التمكين في عهد الإنقاذ كان غير مسبوقاً, قال :
( كل الحكومات في العالم تفعل ما فعلت الإنقاذ من تمكين وبطريقة دستورية وشرعية، ومن حق أي رئيس دولة أن يستبدل كل الموظفين من الدرجة الثالثة إلى أعلى، أو يعين ما يشاء على الأسس التي يراها مناسبة ), وأضاف ( وفي أمريكا الرئيس الجديد يأتي ويغير آلاف الموظفين لأن السياسة التي يريد تنفيذها تختلف عن سياسة هؤلاء الموظفين ). إنتهى
مرَّة أخرى يدخل الأستاذ أمين في مغالطة لا يسندها المنطق والواقع عندما يقول بتعميم مُخل لا يليق بشخصٍ يدَّعي إنتمائه لفئة المفكرين أنَّ "كل الحكومات في العالم تفعل ما فعلته الإنقاذ من تمكين", فالدول التي تحكمها أنظمة ديموقراطية لا تسمح بمثل هذه الممارسة الإقصائية التي لا تليق إلا بالأنظمة الشمولية.
أمَّا المغالطة الكبرى فتكمن في إستشهاده بأمريكا لتبرير سياسة التمكين التي إنتهجتها الإنقاذ, وفي هذا مقارنة ساذجة وتمويه لا ينطلي على كل صاحب بصيرة, فالجميع يعلم أنَّ التغيير الذي يطال "الوظائف السياسية" في أمريكا وفي الدول الديموقراطية عموماً ليس له علاقة "بالفصل التعسفي" غير المبرر الذي يُمارس في إطار سياسة التمكين التي تهدف للسيطرة الكاملة على جهاز الدولة والخدمة المدنية.
توجد في أمريكا جهة تسمى "هيئة الخدمة المدنية" مهمتها إدارة الخدمة الفيدرالية العامة, والقانون الأمريكي ينصُّ على أن الموظف العام يتم إختياره فقط "عبر الإمتحانات التنافسية وعلى أساس الكفاءة", وهو يمنع المسؤولين المُنتخبين والسياسيين المُعينين من "فصل موظفي الخدمة المدنية" وينصُّ على حماية " الموظفين العموميين من تأثيرات المحسوبية السياسية والسلوك الحزبي".
أمريكا دولة قانون, تحكمها عملية معروفة "بالإجراءات القانونية الواجبة" أو "دوو بروسيس" وهى تعني أن الحكومة يجب أن تتوخى العدالة قبل حرمان أي مواطن من حقه في الحياة أو الحرية أو العمل أو الملكية, وهى عملية مُضَّمنة في الدستور وتنطبق على الوظيفة العامة ولا تستطيع أي جهة العبث بها, وفي حال مخالفتها فإنَّ السلطة القضائية المستقلة تتدخل لوضع الأمور في نصابها.
لكل هذا فإنَّه يتوجب على الأستاذ أمين وأضرابه أن يتوقفوا كثيراً قبل أن يطلقوا مثل هذه الإدعاءات الفطيرة التي تكشف عن عدم تقديرهم لوعي الجمهور المُبتلى بقراءة حواراتهم و تصريحاتهم البائسة.
أمَّا الأمر الأكثر خطورة فقد تبيَّن في تعليق الأستاذ أمين على محاوريه الذين إعترضوه بالقول : الرئيس البشير ذكر مؤخراً أن عهد التمكين قد إنتهى, حيث قال : ( أوقفنا التمكين لأن السياسة والفكرة التي حملناها قد تمكنت في المجتمع ولكن لن نكفر بالتمكين ). إنتهى
الحديث أعلاه يعكس الطبيعة الإقصائية التي يُفكر بها قادة الإنقاذ, وهى طبيعة نازعة للسيطرة و للهيمنة و تُبيح إستخدام كل الوسائل من أجل نشر و ترسيخ الإفكار وفقاً لمبدأ الغاية تُبرِّر الوسيلة, ولا يهم إن كان ذلك عن طريق العنف أم الوسائل السلمية, فالأستاذ أمين - بعد أن إطمأن على أن فكرته قد تمكنت في المجتمع - لا مانع لديه من وقف التمكين, دون الكُفر به تماماً, أو الإعتراف بأنه ممارسة خاطئة من الناحية المبدئية.
خطورة مثل هذا التفكير الأحادي وهذه العقلية الإقصائية تتمثل في أنها لا يُمكن أن تستوعب معاني الحرية وتكافؤ الفرص وتداول السلطة لأنها ببساطة لا تستطيع أن ترى أو تتصَّور وجوداً للآخر المُختلِف إلا في إطار مشروعها الفكري والسياسي الذي تمكنت من فرضه على الناس بجبروت الدولة وأدوات القهر.
وعندما قال المحاوران للأستاذ أمين : في السودان هناك تسييس لمؤسسات الخدمة المدنية ؟ أجاب بالقول : ( لا يوجد شخص سياسي يعمل في الخدمة المدنية ).
ونحن من جانبنا نقول له (كضباً كاضب), هذا ضربٌ من الإنكار للحقائق عقيم, وإذا سألتَ كاتب هذه السطور فإنه سيعطيك عشرات الأسماء لسياسيين تابعين لحزب الحكومة ويعملون في الخدمة المدنية, في واقع الأمر فإنَّ تسييس مؤسسات الدولة – وبإعتراف قادة كبار في الإنقاذ – كان هو السبب الرئيسي في التدهور الذي أصابها ولم تستطع جميع برامج الإصلاح في إنتشالها من الدرك السحيق الذي وصلت إليه.
لا يكتفي الأستاذ أمين بمغالطاته أعلاه بل يُضيف إليها واحدة أخرى يُمكن دحضها بسهولة شديدة, فعندما قيل له : الحكومات التي سبقت الإنقاذ لم تمارس التمكين ؟ كان رده : ( الصادق المهدي قام بالتمكين واختار منسوبي حزبه، وآخرون كانوا يتماهون معه وهذا طبيعي ).
هذه الإجابة لا تحتاجُ لكثير عناء لكشف زيفها وفضح عوارها, إذ تكفينا مطالبة قائلها بتقديم إسم "شخص واحد" تم فصله من الخدمة المدنية لسبب سياسي في ظل الحكومة الديموقراطية التي ترأسها السيد الصادق المهدي, ومن ناحية أخرى يستطيع كاتب هذه السطور أن يقدم للأستاذ أمين كشفاً يضم مئات الأسماء التي تم فصلها لأسباب لا تتعلق بعدم الكفاءة أو سوء الأداء, بل لأنهم فقط لم يكونوا من مؤيدي الجبهة القومية الإسلامية.
أمَّا إذا كان الأستاذ أمين يعني أنَّ السيد الصادق المهدي إختار منسوبي حزبه لملء وظائف ذات طابع سياسي, فهذه ممارسة مقبولة و أمرٌ لا غضاضة فيه كما أوضحنا في صدر المقال ولا يجب التعامل معه مثل قضية الفصل للصالح العام أو التمكين عبر القرارات و السياسات الحكومية التي تم تصميمها خصيصاً لمنح الإمتيازات ولخدمة أهداف ومصالح جهة سياسية بعينها هى في هذه الحالة الجبهة الإسلامية.
هذا الحوار يُعتبرُ في ظني وثيقة إدانة مكتملة الأركان للنظام الحاكم وللفكر الذي يحمله أتباعه, وهو يعكس العقلية التي يتعامل بها أصحاب هذا الفكر مع القضايا الوطنية الكبرى, وهو كذلك يُعطي الإجابة الواضحة عن السؤال : لماذا وصلت بلادنا لهذا الحال المتردىء في مختلف المجالات ؟