alshiglini@gmail.com أسمر اللون مربوع القامة ، ليس بالقصير ، ولا هو بطويل القامة . ملامحه قد تجدها من ذات ملامح منْ تعرفهم من الأقرباء . ليس بوسيم ولا بدميم . هو وسط في كل شيء . لا تكاد تُميّز ملامحه بشيء . جُلبابه المنتفخ الجيوب ، بما فيها من حاجيات لا يستغنى عنها ، تكاد تَقفز من مكانها . يعتمر " طاقية " حمراء ، أقرب إلى اللون البرتقالي . هي من ألبسة العهد الغابر . كانت أول أمرها أحد أقراص " الطواقي ". تُنسجها الأمهات والجَدات في بيوتهم . وكُنا نذهب بالأقراص إلى سوق النسوة بأم درمان. نبيعها ، ليتم لاحقاً إكمال نسجها لتصبح " طواقي " بذات اللون. و هي تَتِمّة لملبوسات الذكور في أزيائهم القومية وسط السودان ، في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.
(1)
"مُسلمي " محبوب من الجميع ، تماماً كبطل " عُرس الزين " في رواية " الطيب صالح " . كأنه من ذات السُلالة . يتشابهان .هو من مواليد 1944، قبل عامين من فيضان النيل 1946 . أصيب في طفولته بالتهاب السحايا الفيروسي، ونجا ، ولكن بوجود بعض الآثار السالبة. عند الأطفال هناك العديد من الإعاقات المُحتملة التي قد تَنتج عن تلف الجّهاز العصبي، بما في ذلك فُقدان السمع الحسي العصبي، والصَّرع، وصعوبات التعلُّم والسلوك، فضلا عن انخفاض مُعدل الذكاء. وقد ترك ذلك عند " مُسلمي " تركيبة غريبة من الأعراض . ضعفٌ قليل في السمع ، وصعوبات في التعلم مع ذاكرة حديدية ، تستغرب أنتَ من حدّتها أحياناً ، مع كثيرٍ من " الدروَّشة " المخلوطة بطيب نفس صاحبها وحسن سريرته ونقاء سلوكه . لم يعمل في حياته إلا " عامل مباني " . يكِّد في شمس النهار ، ويأتي بأسبوعية مرتبه على قلَّته ، لتحفظه والدته . يطيعها في كل شيء .
(2)
كانت في أم درمان في الخمسينات والستينات والسبعينات ، حياة القرية البريئة ، أفضل منها اليوم ، وهي تُحاول التَمديُن ، لكن ضعف بصيرة زووا الشأن جعل من التحضُر المُنسق أمراً شبه مُستحيل . تمُرُّ ظهر موسم الصيف "عربات رش المياه " التابعة للبلدية . تقوم برش الطرقات التُرابية بين الأحياء بالمياه ، تلطيفاً للمناخ صيفاً .و خوفاً من انتشار وباء السحائي. مع أن شُرب الماء يُغنيك عن الكثير. تزرع البلدية فسائل الأشجار على جوانب الطرقات الرئيسة ، مُسيجة بأقفاص حديدية خوف افتراسها بواسطة الأغنام ، وللبلدية مسؤولية سقايتها جميعاً . كُنا في طفولتنا نتعجب ، أن نساء الحي يتقرّبنَّ إليه ، ويستأنسون ويضحكون . يسألونه عن زينب بتْ عُثمان ، منْ يتزوجها ؟
فيقول هو : - عباس ود حاج أحمد .
ويسألونه :
- وفاطمة بتْ حمد النيل ود جابر ؟
فيقول على الفور :
- ناصر وَد عبدالله الفكي . * يتحدث كالواثق . وعندما يُخالِفنه ، يقول : - دَة ما وَد عمّها !.
لم يكُن يوزع الزيجات إلا كما يشاء . يتذكر الأسماء جيداً ، وصلة قرابة الجميع بين بعضهم البعض . يربط أصول النسب وقف المعروف من القرابة .
(3)
تجده عند قدوم شهر شعبان ، يلتقي بأعمامه في الحسبة في متجر " الحاج محمد " ، وهم يحبون أن يستأنسوا بوجوده :
يقول له العم عباس عبد الواحد :
- تعال يا " مُسلمي " ..
فيرد عليه ، وهو يضم قبضة يده مُذكراً مُحدّثه بشهر الصوم :
- رمضان جايي ، ياحاج عباس .... شِد حيلك وأبقى رَاجِّل !
فينفجر الأعمام بالضحِك .
تجده دائماً مُحاطاً بالجميع ، يتسابقون في منادمته أخبار وسيّر الأهل والأقارب ، يعرفون منه الأخبار . وفجأة يسرح " بغَنم إبليس " . ينظر البعيد ، وكأنه يخرج من حيز الزمان والمكان بُرهة . يعود بعدها ، يسأل عن فُلان بن فلان ، هل جاء من السفر؟ . ونحتار نحنُ ، كيف علِم بأخباره !.
(4)
كان مشهوراً ، يزور ليالي المآتم ، ومناسبات الأفراح وطقوس الظأر وختان الأنجال وعادات أهل أم درمان الغاطسة في الطقسِّية : " السُبوع " ، " الأربعين " ، " الخامسة " ، " السِّماية " ، الجرتِّق ، القيدومة، " الخروج من الحَبِس " .ومناسبات مُتعددة يحسبها النساء في ذاك الزمان كواجبات لا فكاك منها ، بل إهمالها يُعرض الأُسَر لما يسمونه " السَّبِر " . وهو التشاؤم من الكثير من الحوادث المحزنة . يبدو أنها قضية تقلق استقرار حياتهم! . كانت كلها حِزمة عادات الزمن الغابر .بدأت تتغير على مضض.
كانت شهرة "مُسلمي" ، أنه في حالات إتمام مراسم عقد قران في الحي ، يُطلق صيحات معروفة ، فتتلقفها النسوة بالزغاريد ،فتعرف أنت أن عقد القران قد اكتمل. كان حُضوره يعتبره الجميع بركة ، يتفاءلون بحضوره . يتحدث لكبار السن وللأطفال بنبر واحد . يزور المرضي في بيوتهم والمستشفى ، ويسأل عن الأحوال . تجده يجلس قرب سرير المريض ، يسأل عن أنواع الطعام ، يلطّف حزنه بالطمأنينة ، واستنفار البسمة من الشفاه المغلوبة على أمرها . فيقول لهم إن الشفاء قريب . كأنه هو الآمر الناهي ، فيصدقون أنه صاحب الفأل ، و هو صاحب " الكرامة "!. بوجوده ، لا يحس أحد من الأسرة بغرابة مقدمه . ودٌ وطمأنينة تكسو الجميع ، يصغون له باهتمام . ويكون الشفاء قريباً بإذن الله .
(5)
عند التجهيز لزواجه في السبعينات . تدفقت الأجيال من كبار السن والشباب والنساء من كل طيف ، الكل تقدم للنفير. إنهم ثلاثة أيام : يوم للعزومة ، وآخر للدُخلَّة والأخير للصبحيَّة ، اجتمع خلالهم الجميع . جاء المُختلفون والمُتحاربون والمُتقاطعون . وقفوا جميعاً يتقاسمون الفرح الحقيقي حفاوة بشخصية أحبونها ، رغم بساطة تكوينه العائلي . محبوب وطيب ، لا تلتف بمَسلكه إلا الطمأنينة الكاملة . يُشيعها بين الجميع . ازدانت الدار . تقاسم الأعمام والعمات والشباب من الجنسين البشائر . وعمَّت الأفراح أم بدة و الفتيحاب والعرضة وحي السوق والقوز وحي القلعة والعباسية .
عندما يلقاك ، قبل يوم "عزومة العريس " يقول لك بطيبته :
- يوم الخميس ، تجي " تَحْشيها "، ما تنسى .
يقصد تناول طعام العشاء يوم " العزومة " . وهي عادة تكون فيها أفراح " العريس " قبل الزواج ، ويتقاسم فيها الأحباب والعشيرة نفير الزواج . يشتركون النفقات. كلٌ يتقدم بما يستطيع . كان زواج " مُسلمي " من أضخم الزيجات في زمانها ، كان حال أسرته من أخوال عامة أهل الحي . جميع الأقرباء من الأهل والجيران ، تحلَّقوا في كل مكان يتقاسمون الفرح . امتلأ الطريق المؤدي لمنزل الأسرة بجموع وأطياف ما اعتدتَ تراها أبداً . هو معهم يتفقد الحفل ويسترسل في حديثه المُعتاد ، كأنه مُتفرِّج ، غير عابئ بالمراسيم . يقبضون عليه غصباً لإجراء طقوس "حناء العريس " ، فهو دائم التنقل والتجوال ، لا يصبر على شيء. يسأل عن أقربائه ومعارفه الغائبين. اضطر جميع الأهل لمشاركته " الحناء " ليحثونه على الصبرعلى مراسمها .
*
رُزق طفلٌ جميلٌ نبيلٌ، بعد عام . أحبه الجميع . فيه كل خصال الخير مبثوثة . تعوَّدت عليه البيوت . ذكي ، نابه ، يخدُم كل البيوت كأنهم أسرته . ولكن عُمره كان أقصر مما ينبغي . في الخامسة من عمره رحل كنسمة الصباح .
(6)
اعتاد " مسلمي " على الأسئلة المُبسطة ، ولكنها عميقة ، ببراءتها أقرب لفطرة الأطفال وأسئلتهم المُحيِّرة . مرة سمِع بأني سوف أتزوج من خارج العائلة . قابلني في بيت الأسرة قائلاً :
بعد زواجي ، قابلته ، وسألته عن " العروس " فضحِك وقال :
- عروسك مَنقة ..
(7)
يظل هو موجوداً في كل مكان . تجده حين تتذكره أمامَك كأنك استدعيتُه. يدخل ويسأل عن الحال . يزور الصّغار والكّبار . يتفقد الجميع . تجده دائماً عندما يأتي ، بعد فترة قليلة ، تُلاحقه أمه بالسؤال عنه . تسأل عنه كل ما تيسر لها من وقت . تبُثك بدعواتها الصالحات . وتتبسم ، وهو ساخط ، يلومها ويدعوها باسمها ، دون أن يذكر " أمي ". كانت عمَّتنا " سعدية " من أحب اناس إلى نفسه . يجلس عندها حتى المقيل يستطعم ،ولشرابه الشاي صوتاً تسمعه من البعيد . أغلب أوقات فراغه يقضيه في بيتها.
*
تظل ذكراه ، قريبة إلى القلب . كالهواء لا تتذكره كثيراً إلا حين تفتقده . عزيزة هذه الدُنيا ، بمنْ يزينونها لك بوجودهم ، وأنت غير عابئ بحالهم! . يطرقون حياتك التي اعتدتْ ، يملؤنها طولاً وعرضاً . يبثونكَ الطمأنينة المفقودة في زمان يلهث فيه الجميع ، وراء راحة الضمير . يسعون لراحة النفس وهي مطلب عسير. أُلفة وحنين ، تجدها أنت بلا ثمن . هو كالطفل ، رعم تقدمه في العُمر.
* هذه من وداعة أهل الريف ، التي وجدتْ نفسها في شخصه . مدينة أم درمان أشبه ما تكون بالقُرى. هي أم درمان الزمن الغابر . حين كانت عاصمة " المهدي " في أواخر القرن التاسع عشر . اجتمعت عندها الأعراق من كافة أطراف السودان . لكلٍ مشربهم . وصارت الحياة منذ أول القرن العشرين وإلى منتصفه ، حذرة بين العشائر . بينهم روابط ، التجارة والأتراح وبعض الأفراح . وتسللت العلاقات بين الأسر شيئاً فشيئا، بالمساكنة والجوار زماناً ، حتى اعتادت الأمم السودانية على وجود بعضها, امتزجت أمشاجا . ما لا تستطيع أن تغيره الثقافات، يُغيره الزمن بعجلته تَمُرُ على الرِقاب. انحلّت بعض أساور الغربة ، وصارت أم درمان من بعد الإستعمار ، غير دار الهجرة والجهاد في تسعينات القرن التاسع عشر .
(8)
في هدأة يومٍ ، خالٍ من الضجيج . جاءنا خبره الحزين عبر التلفنة . فقدنا جزأ عزيزاً من لُحمة الوُد . إنسان فقدناه ، وفقدنا الطمأنينة ، التي تُمثل لدينا جزء من الحنين القلب إلى الوطن . ونحن نركُض في كل شيء ومن أجل كل شيء ، توقفنا بُرهة لنُفكر في مصائرنا . لا يجد الواحد منّا وقتاً إلا ، حين تهاجمك الذكرى وأنت غافل عن أمرِك . تزرُف بعضاً من دمعك الذي تضنّ به السنوات . يُداهمُكَ وأنتَ في مُنعطف العُمر ، الذي ادّخرتهُ عيونك لتُغسل أحزانها. تم الأمر الذي ليس له من بُد . على غير ما تشتهي الأنفس . مُكعبات الجمر تهوي عليك من علٍ . تَهتك جزءً غائراً في ضميرَكَ الحي ، تردم فجواته ،فتبكي " دمع الدَّم ".