التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة مغايرة عما تمّ في الماضي: (انتفاضة 1985 وليلة الجنرالات) من وثائق العميد(م) السر أحمد سعيد

 


 

 

 

alshiglini@gmail.com

(1)

مقدمة (أ) :

لم يفشل الانقلاب العسكري أو ( انحياز القوات المسلحة للانتفاضة ) في ليلة أبريل 5/6 ابريل 1985 الذي سنتحدث عنه كما فشل في قصة الانقلاب ضد الهر "رودلف هتلر" الذي أوضحه الفلم السينمائي الشهير ( ليلة الجنرالات ) . فالوثائق قدر المتوفر تكشف جانباً من الكرة المعرفية التي يتعين التعرف عليها من قبل جميع الذين يهمهم أمر الوطن ، ماضيه وحاضره . والتعرف على التفاصيل التي وردت في كتاب " السيف والطغاة – القوات المسلحة السودانية والسياسة – دراسة تحليلية (1971- 1995) " لمؤلفه العميد الركن (م) السر أحمد سعيد ، وكذلك من كتاب( أسرار جهاز الأمن السوداني – الفترة من 1969 – 1985 ) الذي صدر بتاريخ 1993 لكاتبان من ضباط جهاز الأمن السابق أيام مايو " عميد (م) محمد عبد العزيز محمد إبراهيم " و " عقيد أمن (م) هاشم عثمان أبورنات " ، وتلك رؤى يتعين الاطلاع عليها لنرى الصورة من داخل قيادة القوات المسلحة وقيادة الأمن في الوقت الذي كانت السلطة الفعلية من بعد سفر رئيس الدولة الأسبق " نميري " متقاسمة بين نائبه الأول اللواء" عمر محمد الطيب" ، وبين القائد العام للقوات المسلحة " الفريق "عبد الرحمن سوار الدهب" ، في الوقت الذي انتشرت فيه الانتفاضة الشعبية المدنية السلمية وأعلنت قوى التجمع العصيان المدني . وقد أثبتت الوقائع انضمام رتب الضباط الصغار والرتب المتوسطة إلى انتفاضة الشعب وضغطت على قيادة القوات المسلحة .
(2)

ليس ذلك بكاء على ماضٍ تولى . أو استدعاء لوثائق تاريخية من الذين شهدوا الأحداث وهم يعملون بقرب الجهات التي اتخذت القرار وحرروا كتبهم ، أو لنُعِد تغيير الحاضر ، الذي نرى حاضره يحاول أن يعيد نفسه من الانهيار الاقتصادي في النظم الدكتاتورية وفشلها المدوي في كافة مناحي الحياة السودانية وأعظمها المساهمة الفاعلة في التسبب المباشر في فصل جنوب السودان ، وسيادة لغة السلاح في حل معضلات الوطن المزمنة ، لأن التاريخ يقولون قد يعيد نفسه ، ولكن بصورة تختلف عن عما تمّ في الزمان الماضي .

(3)
مقدمة (ب) :

نحن بالملف لا ندعي أنا نملك الحقيقة كاملة ، ولكن مضاهاة الوثائق ببعضها ، تمكننا من رؤية الوثائق وفق رؤى منهج أفضل . منها طرائق ( القبعات الست ) التي تعين علينا اختيار أفضلها للنظر للتاريخ وتحليل العبر والدروس الموضوعية . والقبعات الست هي تصور لاحتمالات التفكير واختيار أنسبها موضوعية وأقربها عند التحليل :
- القبعة البيضاء ...... وهي تفكير بناء على المعلومات والحقائق والأرقام والإحصاء و تحديد المعلومات المطلوبة بطلب المعلومات والحقائق اولا ثم ينتقل إلى الوصول إلى النتائج .
- القبعة الحمراء ....... وهي تعني التعبير عن الانفعالات والمشاعر والتخمين.
- القبعة السوداء ........ وهي القبعة التى يرتديها الناس أكثر الوقت فهي قبعة الحكم السلبي على الأمور في ظل تفكير منطقي تخفف من ميل الناس إلى النقد .

- القبعة الصفراء ....... وهي القبعة الايجابية فهي خطة لتفكير يبحث فيه الفرد عن الجوانب النافعة والايجابية والنظر في الوضع الذي سيحدث في المستقبل .

- القبعة الخضراء....... وهي قبعة الابتكار والإبداع فهو يشمل هنا الاقتراحات والبدائل واستشارة التفكير .
- القبعة الزرقاء........ وهي تشبه المايسترو و القائد إلي يوجه إلى التفكير يعطي الفرصة المناسبة لجميع أنواع التفكير فهي توضح الهدف وتأمر كل واحد كم بان يحاول تقديم ما عنده ويخبر كل واحد كم اقترب من الهدف المطلوب.

(4)

مقدمة (ج) :

بات واضحاً أن نقابة الأطباء ثم نقابة المهندسين ، ثم المحاسبين ثم الصيارفة قد تضامنت جميع النقابات ، وتحرك طلاب الجامعات ثم جموع الشعب ولحق الأحزاب بالحركة وصولاً إلى مرحلة إعلان العصيان المدني مما أدى لانهيار السلطة منذ نهاية مارس إلى 6 ابريل 1985 .
وكان للقوات المسلحة دوراً في ختام إنجاح الانتفاضة ، بالانقلاب على السلطة أو ما يسمى تخفيفاً لثقل اللفظ " انضمام القوات المسلحة للانتفاضة تحت ضغط صغار الضباط . وقد يكون التفسير الحقيقي هو لحاق القوات المسلحة بركب الانتفاضة ، التي سبق .

قال صديق : إن الشعب السوداني له خصوصيته ، كالمبدعين الذين يخترقون كل التوقعات . يصنع ما لم يكن متوقعاً فعله . هذا المارد النائم ، عندما يستيقظ ، لن تقدر عليه كل القيود التي تكبله .
(5)

مقدمة (د) :

سيكلوجية الجماهير :

يقولون في سيكولوجية الجماهير ، إن الفعل ليس هو بمجموع حسابي لعدد أفراد الجماهير ونضرب مثلاً :
إن( فِعل X 1000 فرد = 1000 فِعل ، ) ليست بالمعادلة الصحيحة )
بل : فِعل X 1000 فرد = تغييراً نوعياً أكبر من 1000 فِعل
(وذلك يعني تغيراً نوعياً سوف يحدث للأفراد المشاركين في الجمهرة )،
وفي الفعل الذي ينتج عن الجمهرة . قوة وشجاعة يكتسبها كل من الأفراد المشاركين بالتضامن ، وبعدوى المسلك . وتنفتح كوة للتغير النوعي الذي أفضى بالانتفاضة أن تُكسر هيبة السلطة الحاكمة وهدم أركانها . لا أحد يعرف متى يبدأ ولا كيف تتحول الجماهير إلى قوة كاسحة .
تَضامنَ الشعب السوداني بأنيابه المُمكنة وتحققت الطفرة .

(6)

مقدمة (هـ ) :

من تاريخنا الجماهيري في ثورة أكتوبر1964 وانتفاضة 1985 ، ليست النار من مستصغر الشرر فحسب ، بل تنهض النار من رماد يبدو ميتاً للناظر . ليس ما يسمى بالموت السريري ينطبق على الشعوب السودانية . ودائماً يسبق الشعب عندنا أحزابه المنظمة ، فيلتحقون في مؤخرة الركب في النهاية ، من بعد أن تحركت النقابات ثم اتحادات الطلاب ثم وكافة جماهير الشعب .
إن الربيع السوداني كان أسبق منذ أكتوبر 1964 وإلى 1985 ، وسيكون من بعد له يد فيما سيحدث . وكما يقولون الأمهات يلدنَّ الجمار الكاوية . لا أحد يعرف متى وكيف . ففي ظل حكم عسكري فردي صادر الحريات والديمقراطية ، وطبق قوانين دينية في سبتمبر 1983، وإعدام الشهيد الأستاذ " محمود محمد طه " في يناير 1985 .ثم الانهيار الاقتصادي وغلاء المعيشة وفقدان الدولة للمؤسسية وفشل الحزب الواحد وتفشي الفساد . خرج الشعب في منظماته الطلابية والنقابية وعامة الشعب ثم أحزابه ، وأخيراً انتمت القوات المسلحة للشعب فيما اصطلح على تسميته ( ليلة الجنرالات )التي اكتملت نتائجها في الساعات الأولى من صبيحة 6 أبريل 1985 م .


(7)

مقدمة (و) :

من هذا المنبر نتقدم للعميد الركن (م ) السر أحمد سعيد بالشكر الجزيل على تلك الكتابة و ذلك التوثيق الذي أورده في الفصل الرابع من كتابه
" السيف والطغاة – القوات المسلحة السودانية والسياسة – دراسة تحليلية (1971- 1995) " .لقد سجل العميد الركن (م)" السر أحمد سعيد" الكثير من الخفايا دارت في داخل المؤسسة العسكرية السودانية ، مسلطاً الضوء الجهير على خفايا دورها عند اندلاع انتفاضة 1985 . وقد استشهد لاحقاً بوثائقه " المحبوب عبد السلام " في كتابه :
( الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء- تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ ).
ونعيد إلى من يعرفون وأنْسَتهُم الدنيا ، و لمن لم يشهد الانتفاضة ( مارس /ابريل ) 1985 م ، و لمن لا يعرف بتفاصيل ربما كانت غائبة عن كثيرين حول دور القوات المسلحة أثناء اندلاع الانتفاضة الشعبية وإلى تمام سقوط السلطة .

*

نقتطف من ص (109) ونتابع أحوال الوقائع من داخل القوات المسلحة ، الأوضاع قبل الانتفاضة ، وأثنائها ثم التحرك حتى مرحلة الحسم مروراً بـ ( ليلة الجنرالات) ،

الوثائق مما أورده سعادة العميد الركن (م ) السر أحمد سعيد ، وهي إضاءة عن دور القوات المسلحة في الانتفاضة .سوف نقوم من بعد الوثائق ، الدخول في معرفة طبيعة ما تم وأثره في ما لحق بالقوات المسلحة و القوات النظامية من أدلجة بغية التخلص من حياديتها كمؤسسة وطنية . وهو الذي تم في كافة مؤسسات الدولة توطئة كي لا يتكرر نزع السلطة من أي حركة انقلابية ترغب الاستيلاء على السلطة .وإجراء التغيير الهيكلي كماً وكيفاً ، وتحويله تدريجياً إلى قوات تتبع أيديولوجية معروفة . ويتبع المنتمون لها تلك الإيديولوجية. لقد تم فك أسنان القوات المسلحة السودانية ، واستبدالها بقوات أخرى لتمنع الآخرين ألا يحذوا حذو الخارجين على القوانين بليل ويحبون المُلك والسلطان ، لا التكليف والخدمة الوطنية ! .

(8)

النص الذي أورده العميد (م) السر أحمد سعيد.

(8) - 1 :

أوضاع القيادة العامة قبل الانتفاضة :
مع بداية العام 1985 ومع توقف حفر قناة جونقلى ،وتوقف حلم البترول في التدفق بعد أن أغلقت شركة "شيفرون "ما حفرته من آبار ورحلت ، بدأت شعبية " نميري " في التدني إلى أقل مستوياتها . كثرت القصص حول الفساد ، ثم جاءت موافقته على الحكم الذي أصدرته إحدى محاكم الطوارئ ، بإعدام الشيخ " محمود محمد طه " وتم تنفيذه بصورة مأساوية . أخذ كبار الضباط وكثير من صغار الضباط يتحدثون علناً عن شكوكهم في قدرات الرئيس " نميري " في إدارة البلاد .


(8) - 2 :


وفي يناير من ذلك العام 1985 تخلى الرئيس النميري بعد ثلاث سنوات كاملة عن منصب القائد العام للفريق " سوار الذهب " باعتباره من الرجال المأمونين الذي لا طموحات لهم . كان الجميع يطلق عليه لقب " مولانا " ، حتى الضباط من الإقليم الجنوبي . ثم تمّ تعيين الفريق تاج الدين نائباً للقائد العام ، وأدخل الفريق " بحري " يوسف حسين رئيساً لهيئة الإدارة .

(8) - 3:


كانت هيئة القيادة أو ما كان يطلق عليه " مجلس القائد العام " يتكون من القائد العام ونائبه ورؤساء الهيئات الثلاث ، ويضاف إليهم مدير فرع العمليات الحربية ومدير إدارة الاستخبارات العسكرية ز هؤلاء هم الذين يصدرون القرارات التي تمس مصائر الضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة . كان مدير فرع العمليات الحربية العميد الركن " عثمان عبد الله " والذي كان رئيساً لأركان الفرقة الأولى حينما اختاره الرئيس نميري تقديراً لأدائه في الفرقة الأولى لحضور دورة الدفاع الوطني في أكاديمية " ناصر العسكرية " لنيل درجة " الزمالة " والتي تعتبر أرفع تأهيل في المجال العسكري . تم اختياره قبل دوره وقبل أفراد الدفعة الثانية عشر الذين يعتبرون أقدم منه بدفعة ، فقد كان من أفراد الدفعة الثالثة عشر ، ثم قام بتعيينه مديراً للعمليات الحربية في خطوة عدها الجميع أن الرئيس نميري يهدف إلى تصعيده كما فعل مع الفريق " عبد الماجد حامد خليل "


(8) - 4 :

أما منصب مدير الاستخبارات العسكرية فقد كان يشغله العميد " فارس عبد الله حسني " بالوكالة ، إذ أن المدير المعين اللواء " السر محمد أحمد " الذي كان ينتمي للدفعة الثانية عشر وكان في دورة بالأكاديمية العسكرية العليا السودانية ، وكان مؤملاً أن يتولى منصبه بعد نهاية دورة الأكاديمية العسكرية فهو أحد المقربين للرئيس نميري وقد عمل طيلة فترة " مايو " في رئاسة إدارة الاستخبارات العسكرية . إلا أن الرئيس نميري في خطوة اتسمت بالغرابة ، قام بتعيينه قائداُ للقيادة الوسطى معللاً له عند اجتماعه به أنه يود أن يجعله يمارس القيادة ، لأن اللواء " السر محمد أحمد " في نظره حسب رؤية الرئيس لم يحدث أن تولى قيادة تشكيلات . أما اللواء " السر محمد أحمد " فقد أوضح لبعض المقربين له أنه ذكر للرئيس " نميري " استعداده للعمل معه في أي مكان أو أي منصب . لكن الأمانة تقتضي أن يقول له أن النظام المايوي الذي شيد بالعرق والدماء والدموع آخذ في الانهيار ، والمؤامرات تحاك حوله من كل الجوانب وأن الأرض تحته " أي الرئيس " تتشقق !. وكان ذلك قول رجل قوي وأمين وفوق ذلك مخلص على الأقل لما يؤمن به وعمل من أجله طيلة سنوات خدمته .

(8) - 5 :

قبل الوصول إلى نهار وليلة الانهيار أو " ليلة الجنرالات " والتي كانت في ليلة 5/6 ابريل نيسان 1985 ، أشير إلى أن الخرطوم كعاصمة قومية كانت لأغراض حفظ الأمن الداخلي فيها تعتبر منطقة عسكرية واحدة ، تم تقسيمها إلى قيادة المنطقة المركزية و6 مناطق عسكرية فرعية هي : الخرطوم والشجرة وبحري وأم درمان ووادي سيدنا وجبل أولياء .

*

كانت قيادة منطقة الخرطوم الفرعية تقع على عاتق اللواء إبراهيم يوسف العوض الجعلي " قائد القوات المحمولة جواً ، وقائد منطقة الشجرة الفرعية هو العميد " حمادة عبد العظيم " قائد سلاح المدرعات . أما قائد منطقة بحري الفرعية فهو العميد " فضل الله برمة ناصر " قائد سلاح النقل . وقائد منطقة أم درمان الفرعية العميد " عبد العزيز محمد الأمين " قائد سلاح المهندسين . أما قيادة منطقة وادي سيدنا فقد كان يقودها العميد " عثمان الأمين " وهو قائد الكلية الحربية السودانية ، بينما القيادة الفرعية السادسة والأخيرة وهي منطقة جبل أولياء العسكرية كان يقودها العقيد " عز الدين أحمد حسن هريدي " بالوكالة .

*

نتيجة للأسباب المعروفة لدي الجميع اندلعت مظاهرات الانتفاضة في 26 مارس 1985 واشتعلت في معظم المدن السودانية . كان الرئيس نميري الذي تخلى عن منصب القائد العام للقوات المسلحة السودانية يستسهل الأمر إلى درجة أنه غادر البلاد في نفس اليوم متوجهاً في زيارة طويلة للولايات المتحدة الأمريكية والباكستان ، وتلك هي المرة الأخيرة التي لم يستطيع بعدها الرجوع إلى السودان كرئيس .

*
(8) - 6:

الانهيار :

اعتباراً من 26 مارس 1985 بدأ النظام المايوي ينهار ويتهاوى ، فقد عمت المظاهرات واشتبك أفراد الشعب مع رجال الشرطة الذين كانوا يبدون تعاطفاً مع المتظاهرين بصورة واضحة . تحفظ قائد قوات الاحتياطي المركزي في استخدام القوة لفض المظاهرات ، أما الاتحاد الاشتراكي السوداني فهو أصلاً لم يكن موجوداً ورغم عدم قناعة الناس به لأنه لم يقدم لهم شيئاً ، قام بعض قادته بعمل سخيف لم يكشف إلا عن ضعفه وهزاله ، وهي المظاهرة التي أطلق عليها مظاهرة الردع . شارك في تلك المظاهرة الهزيلة " أبو القاسم محمد إبراهيم " عضو مجلس قيادة الثورة السابق ، والقائد العام لقوات الشعب المسلحة الفريق " عبد الرحمن سوار الذهب " ، ولم تكن سوى مظهر من مظاهر التداعيات المتلاحقة للنظام . ثم جاءت الطامة التي كشفت بوضوح عن ترنح النظام وهي إعلان النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس جهاز أمن الدولة اللواء " عمر محمد الطيب " في بيان هزيل ومعه بعض قيادات الاتحاد الاشتراكي الرجوع عن زيادة أسعار الخبز التي أعلنها النظام وأدت إلى بداية المظاهرات . لم يكن ذلك البيان سوى استجداء من قيادات خائرة تماماً و تجسيداً لضعف النظام وفتور قوته وهوانه .

(8) - 7:

حينما شعر أمن الدولة بأن النظام أخذ يتداعى ، قام بإرسال أفراده إلى الشوارع لفض المظاهرات بالسلاح ، ولكن باللبس المدني !! ، وكان ذلك شيئاً مثيراً للرأي العام العسكري وللضباط وأفراد القوات المسلحة . والأدهى والأنكى أن بعضاً من أفراد وجنود جهاز الأمن لبس ملابس القوات المسلحة وأخذ يشارك في فض المظاهرات . وبدأت التكتلات من اليسار واليمين تظهر داخل القوات المسلحة .لامتصاص الغضب الذي امتد إلى ضباط القوات المسلحة رأت القيادة العامة أن يقوم قادة المناطق بالاجتماع إلى وحداتهم وضباطهم ولم تكن هناك خطة محددة طلب من القادة الالتزام بها ، أو تصور محدد لحل الأزمة القائمة سوى بعض التطمينات والتي كانت في حد ذاتها من من عوامل إثارة الضباط الذين جابهوا قادتهم بأحاديث ساخنة وأحياناً ملتهبة ، خاصة في قيادة المهندسين ( منطقة أم درمان ) ، والتي كانت تحت قيادة العميد الركن " عبد العزيز محمد الأمين ، وأيضاً في منطقة الشجرة العسكرية ، وهي قيادة سلاح المدرعات وتحت قيادة العميد " حمادة عبد العظيم حمادة " كانت نتيجة ذلك أن عاد كل من قادة المناطق العسكرية الست ليس فقط والشجرة فحسب ، ولكنهم عادوا جميعاً مسرعين إلى القيادة العامة وأوضحوا للقائد العام الفريق " عبد الرحمن سوار الذهب " وبقية هيئة القيادة أن الضباط في حالة استياء وثورة ، وأن فيهم من ينادي للتحرك حقناً للدماء ، خاصة في ظل قيام جهاز أمن الدولة ( ضباط وإفراد ) بتسليح أنفسهم ونزولهم إلى الشارع لفض المظاهرات ، وأوضح هؤلاء القادة وخاصة ( المهندسين في أم درمان والمدرعات في الشجرة ) خشيتهم من أن يقوم بعض الضباط المتطرفين مستغلين الظروف القائمة بتدبير انقلاب عسكري لحساب إحدى الجهات السياسية المتطرفة يميناً أو يساراً .

(8) - 8:


هنا لا بد من الوقوف للتأمل في حقيقة : هل كانت هنالك مجموعة جاهزة للتحرك للانقلاب على السلطة والتي امتد عمرها إلى أكثر من خمسة عشر عاماً ، وتكاد أن تصل إلى العام السادس برغم مؤشرات الضعف والانهيار ؟
استطيع أن أؤكد هنا أنه حتى صبيحة يوم 6 ابريل / نيسان 1985 لم يكن هنالك من تنظيم يستطيع القيام بذلك ، أي بتغيير أو قلب نظام الحكم ، لكن لا أستطيع أن أجزم بأنه لم تكن هناك تنظيمات موجودة والمؤكد أنه في حالة وجود أي منها فهو لم يكن جاهزاً أو بمعني آخر لم يكن في مقدوره إعداداً وتحضيراً القيام بذلك . لقد سألت عدداً من الضباط في أوقاتٍ لاحقة من الذين يمكن وصفهم أو تصنيفهم بأنهم يساريون أو يمينيون أو أنهم يعملون داخل تنظيمات أو من الذين ضغطوا لحدوث التغيير سواء في سلاح المهندسين أو سلاح المدرعات أسئلة محددة :

- هل كانت لديكم خطة للتحركات " الانقلاب العسكري " هل لديكم خطة لتنفيذها ؟؟؟
- هل كانت بياناتكم جاهزة " البيان الأول ..تشكيل مجلس قيادة الثورة ..طبيعة الحكم الخ " ؟؟؟
- من كان سيقرأ البيان الأول إن كان موجوداً ؟؟؟

*
كانت الإجابة نفياً قاطعاً أو سكوتاً مطبقاً ، مما يدل على أنه لم يكن هناك تنظيم أو مجموعة جاهزة للقيام بذلك ، ولم يكن الأمر سوى أحاديث حماسية ملتهبة في ذلك الجو الصيفي الغائظ من ابريل / نبيسان . وفي حقيقة الأمر ، فإن إدارة الاستخبارات العسكرية حينما وضعت يدها على ذلك التنظيم العريض في العام 1983 كان عبارة عن جبهة تشكلت من اليمين واليسار والوسط وكل ألوان الطيف السياسي بهدف الإطاحة بالرئيس نميري ونظامه وبعد اكتشاف ذلك التنظيم ومن ثم تم إبعاد الناشطين فيه من القوات المسلحة واحتواء الأمر . بالرغم من تردد اسم ضابط كبير من أعضاء هيئة القيادة كقائد له كما ذكرنا ذلك سابقاً ، فإن ذلك كان بمثابة ضربة قاسية لكل الاتجاهات السياسية ولكل المغامرين الذين كانوا يتطلعون للقفز على السلطة.

(8) - 9:


لابد من التنويه بأن مدير الاستخبارات العسكرية ، وهو العميد " فارس عبد الله حسني " وهو أحد أعضاء هيئة القيادة في 1985 ، كانت لديه معلومات مؤكدة تبين أن تنظيم الإخوان المسلمين قد اخترق القوات المسلحة ونشط خلال العام 1984 في تجنيد ضباط المركز الإسلامي الأفريقي ( جامعة أفريقيا ) . وهم من الضباط الذين حضروا دورة أطلق عليها " دورة الدعوة " والتي كانت تمتد عاماً كاملاً وتمنح دبلوماً باسم الدعوة . أحد الضباط المنقولين حديثاً لإدارة الاستخبارات وقد تم تعيينه لحضور تلك الدورة هو الذي ابلغ عما يجري في المركز الإسلامي الأفريقي . ومما يشار إليه أن ذلك المركز كان يحاضر فيها عدداً من كبار زعماء الإخوان المسلمين " الجبهة الإسلامية سابقاً " ويبدو أن القائمين على أمر المركز أو المشرفين عليه كانوا يمنحون الضباط منحاً مالية ضخمة بالعملة الصعبة ، ويرتبون لهم أداء العمرة على نفقة المركز . قطعاً إن المال له بريق ووهج في نظر كل من يسعى إليه باستثناء الدعاة بالطبع !! . رغم أن ذلك كان مؤشراً قوياً إلى أن "الإخوان المسلمين " لهم تنظيم داخل القوات المسلحة ، بيد أنه من المرجح أن ذلك التنظيم لم يكن مستعداً أو بالأحرى لم يكن باستطاعته التحرك . ربما ساهم ضباط منهم في مرحلة لاحقة في مراقبة الضباط اليساريين ، أيضاً يمكن تفسير إلقاء القبض على زعماء " الإخوان المسلمين " واعتقالهم بواسطة الرئيس نميري واصفاً إياهم بـ " إخوان الشياطين " . إلى ما كان يحدث في ذلك المركز . على كل يمكننا أن نقول هنا ، حتى يثبت العكس ، أن الرئيس نميري لم يترك أي تنظيم نشط داخل القوات المسلحة أو أي مجموعة قادرة على التحرك في تلك الفترة ، تستطيع أن تنجح في قلب الحكم.

(9)

"السيف والطغاة – القوات المسلحة السودانية والسياسة – دراسة تحليلية (1971- 1995) "
لكاتبه سعادة العميد (م) السر أحمد سعيد ، جديرٌ بالقراءة والحفظ . له منا الشكر أجزله ، بأن أفسح لنا أن نذكر توثيقه في ذكرى انتفاضة 6 أبريل 1985. وسِفره حافلٌ بتفاصيل تاريخية
بين الأعوام ( 1971-1995 ). من النادر الحصول على إفادات الضباط الوطنيين ، الذين نالوا تأهيلاً عالياً ، داخل وخارج السودان . عمل في قوات حفظ السلام في لبنان ، كما عمل في الجنوب مدة طويلة .

عبد الله الشقليني
6 أبريل 2017

 

آراء