المهندس / حسن عثمان البحر

 


 

 


كتب الطيب صالح في دوحته الرائعة " موسم الهجرة إلى الشمال "،على لسان الراوي :

{ كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا ، نبتت في دارنا ولم تنبت في دارٍ غيرها . وكونهم جاءوا إلى ديارنا ، لا أدري لماذا ، فهل معنى ذلك أننا نسمّم حاضرنا ومستقبلنا ؟ إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً ، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة . سكك الحديد ، والبواخر ، والمستشفيات والمصانع ، والمدارس ، ستكون لنا ، وسنتحدث لغتهم ، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل . سنكون كما نحن قوماً عاديين ، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا .}
(1)
هذه إذن صورة صادقة عن إرث البريطانيين في الوطن. من حسن حظنا أن استعمار السودان يتبع " وزارة الخارجية البريطانية "، وليست "إدارة المستعمرات ". والفرق بين الاثنين كبير يعلمه العارفون .أمكنةٌ تعبق بأريج حضارة رغِبت أن تنتقل ببطء إلى هنا . جاء المستعمر لغرض ، وأجبرته الدنيا أن ينثر بعض حضارته، ولكنه إنجاز ضخم مقارنة بما كان قبله. حين شربنا حتى الثمالة ،من كأس القبلية والعرقية البغيض. جُلّ تاريخنا حروب بلا هدف استراتيجي. فجاء " الجهل النشط " آخر المطاف لحاضرنا ، يعيد ذلك الإرث البائس! .
*
هؤلاء ليسوا بصفوة وفق الادعاء العام ، فهؤلاء " روبوتات " الحركة الإسلامية " مُبرمَجين على الطاعة العمياء وأمن التنظيم ودربة السلاح والقتل !. لا شيء آخر .
(2)
وليم شكسبير رحل قبل ما يقارب مئتي عام، قبل انهيار دولة سنار( 1627 م) .شاعر هو وكاتب مسرحي وممثل إنجليزي بارز في الأدب الإنجليزي خاصة والأدب العالمي عامة، ُسمي شاعر الوطنية والشاعر الملحمي. أعماله تتكون من 38 مسرحية و158 سونيته واثنتين من القصص الشعرية وبعض القصائد . وقد تم ترجمة مسرحياته وأعماله إلى كل اللغات الحية وتم تأديتها أكثر بكثير من مؤلفات أي كاتب مسرحي آخر.
أين نحن من مثل هذا الإرث الثقافي، وأين نحن من الحياة الثقافية الإنسانية وعصور التنوير ؟.
(3)
كان السيد "عبد الرحمن المهدي "، شئنا أم أبينا ، يريد أن نتعلم من المستعمر الإنكليزي ، الحياة ، اقتصادها وصناعتها ولغتها وأساليب الحياة المدنية . ولكنه توقف كثيراً عند التطور الثقافي ، لأنه مثل غيره كانت المقدسات حواجب تقف أمامه ، منعت بصيرته أن ترى . ولم تأخذ ذريته اللاحقة بمفاتيح التطور ، بل ارتدّوا سريعاً إلى الخلف بنهج التقليد !. لم يكن يرى في مصر إلا أنها كانت تدفع عربة المستعمر وتجرّ أحصنتها ،ولن يتطور السودان تحت وحدة وادي النيل ولو طال الزمن !.

(4)


الراحل المهندس حسن عثمان البحر :

نعود لصاحب الأقصوصة .لن تمر ذكرى الذين قدموا عملاً للوطن مرور الكرام ، فنحن في زمان تذوب الذاكرة فيه من وهن الذين يُشغلوننا بأنفسنا ويستأثرون باهتمامنا ولا يستحقون ذلك ! . جاء ميعاد التذكير ببعض ملامح طواها الدهر ، تُعطي لمحة عن أخلاقيات ومُثل الزمن الغابر ، فقد قبرنا نحن دون تروٍ كل الخير ، الذي ورثنا ! .
*
تحت عنوان " تحويل مبنى اتحاد الطلاب القديم إلى متحف " في الصفحة " 170" من ترجمة كتاب "EVERY THING IS POSSIBLE " " كل شيء ممكن " تأليف" الفنانة التشكيلية "مارقريت بوتر " وزوجها " بروفيسور أليك بوتر ". والأخير هو مؤسس قسم العمارة في جامعة الخرطوم منذ قدومه عام " 1957 م ، و قد تَرجم الكتاب للعربية الروائي "الزبير علي " . نقتطف النص الآتي الذي دونه البروفيسور " أليك بوتر " وهو يتعرف على المهندس "حسن عثمان البحر " كبير مهندسي جامعة الخرطوم ،عند مقدمه :

{كان إحساسي بالرضى يغمرني وأنا أكاد اختفي داخل الكرسي الوثير، الذي كنتُ أجلس عليه بمكتب السيد" حسن البحر" المهندس المقيم لجامعة الخرطوم . وكنت على ثقة من أن السيد "حسن "لابد أن يكون قد ضغط على الزر الكهربائي الخفي واستدعى الساعي ذا الجلباب الأبيض الناصع ليُحضر لنا أكواب الليمون المثلج الممتع وأقداح الشاي و " كنكات " القهوة على " الصينية " الفضية الأنيقة .وأثناء انتظاري لهذه المنعشات كنتُ أستمع في سعادة إلى شقشقة أعداد لا حصر لها من العصافير التي ترسل أنغامها الموسيقية الحلوة فتختلط في الهواء الساكن مع الأزيز الرتيب الذي كانت تصدره مروحة السقف فوق رأسي .حقيقة لقد كانت تلك من اللحظات التي كما تقول أحد التراتيل : ( كل مشهد فيها يسُر ويُبهج ) . كان إحساساً مُريحاً ينبع من أعماق بعيدة في نفسي ، إذ وجدت أنني بعد أسابيع قليلة من وصولي للسودان أُمارس المعمار عملياً إلى جانب تدريسه بالجامعة ، فقد كُلفت بتحويل "مبنى اتحاد الطلاب "القديم الذي يواجه شارع الجامعة من الجهة الجنوبية ، إلى" متحف للتاريخ الطبيعي" . ولا يدري سوى الله، ماذا كان يشغل ذلك المبنى من قبل . ومن حسن الطالع أن التعديل المطلوب كان ضئيلاً جداً وكان مما يبعث على الارتياح أنه لم يكن مطلوباً إزالة المبنى من الوجود فالمبنى كان طرازاً فريداً في نوعه }
*
وأورد البروفيسور "أليك بوتر" مقطعاً آخر حين كتب :

{ كنت لا أزال جالساً بمكتب "حسن البحر "مع ألحان العصافير وأشعة الشمس المتكسرة والأحاسيس الودودة التي تغمرني بفيضها وقد مددت قدمي لأبعد مدى وأنا أنتعل ( مركوبي ) البرتقالي الجميل والذي يطلق عليه طلبتي أسماء عديدة !

كان "حسن" يعمل بجهد واضح للفراغ من الأوراق التي أمامه تمهيداً لبدء الحديث عن المهمة التي جئت من أجلها . وكانت اللوحة الزيتية الكبيرة خلف "حسن " تتوهج وهي تفيض حياة وحركة بكل ما فيها من عنف وحقد قديمين .

لم يكن" حسن" من أولئك الذين يجلسون الساعات الطوال خلف مكاتبهم يؤدون أعمالاً روتينية، بل كان مولعاً لحد بعيد بالعمل الميداني .وكانت له خبرة لا تُضاهى في عالم المقاولات ولديه ذخيرة وافرة في هذا المجال . وقد أدخلته هذه الخبرة في مأزق حقيقي ، إذ قُدِم له عرض مغرٍ للمشاركة مع أحد المقاولين بخبرته ومهارته لإعداد بعض قنوات الري لزراعة القطن في مشروع الجزيرة . وهنا أطلَّت سحابة صغيرة في كبد سمائنا الصافية. إنني أعلم جيداً أنه إذا ترك " حسن" العمل معنا وذهب إلى مشروع الجزيرة ، فإن الحياة بعده في الجامعة ستفقد كثيراً من رونقها وغناها ، وسنكون نحن أصدقاؤه في غاية التعاسة . ولسعادتنا ورغم العرض الذي قُدم فإن "حسن" اعتذر عن قبوله. وقال : إنه لن يترك الجامعة ولن يتركنا مهما كانت المغريات ، وقد كان .وبقي "حسن " معنا بالجامعة}

(5)

كان "مُتحف السودان الطبيعي" الماثل في مبناه بشارع الجامعة هو مثار حديث البروفيسور" أليك بوتر " في أواخر الخمسينات من القرن الماضي ، وكان الراحل المهندس "حسن عثمان البحر "مهندساً مقيماً للجامعة ، جاءها من " وزارة الأشغال " .من يذكر " متحف السودان الطبيعي " سيمر بخاطره أياماً قضاها البروفيسور " محمد عبد الله الريح " حين كان علماً يرِّف على سارية ذلك المبنى.
(6)
أول مرة أتعرف على المهندس " حسن عثمان البحر" ، حين جاء لمكتب " كبير المهندسين " بجامعة الخرطوم عام 1978، والذي تتبع له " وحدة المباني " التي كُنا نعمل عندها . وهي الجهة التي تقوم بتصميم الأعمال الهندسية والإشراف على التنفيذ ، وإعداد ميزانية التنمية السنوية ، وتُناقش أيضاً جدوى تلك المشروعات مع مُختصي وزارة التخطيط والمالية وفق المُسميات القديمة .تعاون وثيق بين " وحدة المباني " و" مكتب كبير المهندسين " وأساتذة كلية الهندسة ،عندما يتوسع العمل التصميمي ،فتجدهم يمدّون يد العون وفق المُرتجى .
" المهندس " حسن عثمان البحر "رجل متوسط الطول بحُمرة ،غطت عليها شمس الوطن . أشيب الرأس ، ضامر الجسد . كان يعمل حينها مقاولاً حين تعرفنا عليه . شربنا أكواب الشاي الأحمر. وبدأ يروي قصة حياته المفتوحة لمَن يشاء أن يسمع ! . و ذكر أن مرتبه الشهري كمهندس في أربعينات القرن الماضي ، يعادل (40) جنيهاً سودانياً !ّ. ويُعدّ مرتبه الشهري ذلك ثروة في زمانه ، تضعه أعلى أهرامات الأفندية ، بل من كبار " البرجوازيين " إن صحّ المُصطلح .
*
ودودٌ هو .نضطر نحن في كثير من الأحايين أن نستوقف تسلسل سرده المُمتِع ، ونذكِّره بأننا نعمل برفقة آنسات بجوارنا . يسمَعن حديثه وتعلو وجوههنَّ دهشة مشوبة بالحذر . فيأخذ حذره ، حتى تخفُت قصص الذكورة الطنَّانة ، إذ أنه في حضورٍ ملتبس !.
(6)

نعود بالتاريخ إلى العام 1978 م ، عندما كانت الجامعة بصدد إنشاء مبنى إضافياً لأحد امتداد مباني " شعبة النبات " في كلية العلوم ، جامعة الخرطوم . قامت بتصميمه وحدة المباني . وكان القيّم على المشروع ، المهندس المعماري " متوكل الطيب " وهو من خريجي العام " 1972 ".وتم طرح المناقصة بعد إعداد المواصفات وجداول الكميات .وتقدّم لها مجموعة من المقاولين المتناقصين ، وكان التقدير التقريبي لتكلفة تنفيذ أعمال المشروع تتراوح ما بين ( 28 إلى 30 ) ألف جنيه سوداني ،وفق قيمة العملة في ذلك الزمان .

*
تمّ فض مظاريف المناقصة المطروحة أمام لجنة العطاءات بجامعة الخرطوم ، في حدود التقدير الذي أسلفنا ذكره ، عدا واحد من المتقدمين للعطاء ، كان قد تقدم بعرضه البالغ (17) ألف جنيه ، وكانت مفاجأة ! .
*
تندّر الحضور من أعضاء لجنة العطاءات من المفارقة في السعر . وبدأ الرأي الغالب وهو استبعاد العطاء الأقل . وبعد مراجعة المستندات تبين أن المتناقص صاحب العرض الذي يقارب نصف التكلفة الخاصة بالمشروع ،قد تقدم به المهندس" حسن عثمان البحر" .
تذكَّره الجميع ، فقد كان يشغل منصب " كبير المهندسين بجامعة الخرطوم " في أواخر خمسينات القرن الماضي ،ورأت اللجنة استدعاءه لمقابلة اللجنة ، قبل البّت في أمر العطاء ، وتقديم مُبررات السعر أو إن كان هنالك خطأ في التدوين أو التسعير الذي تقدم به والضمانات التنفيذية ، لأن سيرته الذاتية وخبرته في جامعة الخرطوم تستدعي طلب مقابلته لجنة العطاءات .
*
وكان اجتماعه باللجنة يوماً مشهوداً بحق ، فقد قدم المستندات والضمانات وقبلها سَردَ سيرته الذاتية وقدم شهادات الخبرة من " وزارة الأشغال " ومن " جامعة الخرطوم "،وأوضح بالوثائق أنه كان مهندساً في الأربعينات وكان عضواً في المجلس الستين لمؤتمر الخريجين الأول ، وأنه كان مهندس الجامعة المقيم، قبل أكثر من عشرين عاماً .
*

احتارت اللجنة ، وأبلغته بأن أسعاره مقارنة مع المواصفات وأسعار المواد والعمالة والترحيل لا تناسب أسعار المشروع السائدة في السوق، فإنه خاسر لا شك في ذلك ، وكان رده :

{ إن الدراسة التي قدمتها تحمل ما تحمله من عهد وميثاق وضمانات بنكية . وتلك أهم لديّ من احتمالات الربح والخسارة .وسأقوم بإنجاز المشروع مهما تكلَّف من تبعات ، وإن الأمر في نظري هو مبدأ اتخاذ القرار والالتزام فيه. ثم ماذا يُضير أن ينفق المرء خلال حياته مشروعاً في تنمية الجامعة الأولى في السودان ؟ .}

(7)

نفذ المهندس " حسن عثمان البحر" المشروع بكفاءة واقتدار ، وبالسعر الذي حدده رغم الخسارة . كنا نرقب كمهندسي إشراف إنابة عن الجهة المالكة بعين الرفق الخسارة الفادحة ، والتي تمنعنا الأعراف وأخلاقيات المهنة إلا أن ننفذ الإشراف المهني مهما تكلّف . كان هو ينظر للأمر بمنظار غير منظارنا ، ولا منظار أهل زمانه ، رغم أنه اضطر لبيع أحد بيوته العامرة بالخرطوم (3) لسداد بقية كلفة التنفيذ ، بكامل رضاه! .
*
تجده في كل يوم عمل يجلس مع عماله لإفطار الضحى ، مفتون مثلهم بوجبة يتوسطها طبق "الفول المصري "الضخم عند مائدة عمّاله تحت شجرة ظليلة من أشجار " اللبخ " التي تُظلل المكان، قرب مباني كلية الهندسة بجامعة الخرطوم ، التي تقع غرب مجمع وسط الجامعة . مكاناً لا يبعد كثيراً عن مكان عمله حين التقى بروفيسور أليك بوتر عام 1957!.
*
في مسلك المهندس "حسن عثمان البحر " الكثير من المهنية و الطيبة والتراحم مع عمالته الفنية ومراقبي التنفيذ. يضع الثقة في مرؤوسيه ، يهبهم حق التصرف وفق اختصاصاتهم المهنية . كريم ،يمد يد المساعدة في وقتها المناسب و بلا منّ .

منذ متى يا تُرى رحلت عنا مثل تلك القيم ! .
*
يصر الكثير من زملائنا أن أداوم الكتابة عن أجيال المهندسين السودانيين ، ليس لأني واحد منهم ، بل لأن الكتابة بضمير حي تُبقي على المصداقية التي يفتقدها الجميع . فجميع " المهندسين " يتقنون أعمالهم التنفيذية في ذلك التاريخ القديم ، ولا يحسنون الكتابة عن انجازاتهم ، رغم أهمية ذلك. فالصروح الهندسية التي نشهدها اليوم تلفُ بها المخاطر ، وعدم الوثوق بالاختبارات والنتائج ، إن كان في الأصل هنالك اختبارات تُذكر !.
يبدو أننا بالفعل نتحدث عن تاريخ الهندسة في السودان !
ألا رحم المولى المهندس " حسن عثمان البحر " ، كان مثالاً للمقدرة المهنية والطيبة ، التي لا تكترث للمال .كان إذ وعد وفى . لم يُبدد ماله كما يحسب بعض أهل هذا الجيل ، بل يقدم وفاءً مقابل وفاء قديم . يدٌ سلفت ودينٌ مُستحقُ.
عبد الله الشقليني
13 يوليو2017

عبد الله الشقليني
alshiglini@gmail.com

 

آراء