ذكريات عارية (1/3) قصة قصيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
أعلم جيدا أننا قد نتفق أو قد نختلف في مفهومي الفشل و النجاح ، فكل منا يرى الفشل من زوايا أو أركان معينة و النجاح في أخرى ، غير أنني أستنبطت بعد طول تفكير و تأمل أن النجاح والفشل هما لنظرية واقعية واحدة كالعملة المعدنية ذات وجهيين مختلفين .
بمعنى مقارب و آخر أنه يمكن أن يولد النجاح من رحم الفشل والعكس هو الصحيح يمكن لنا أن نستخرج الفشل من رحم النجاح .
وحتى أدلل على صدق ماتوصلت أليه أعطيكم مثالا من صلب التاريخ لمجرد التأكيد على هذه الخطرفات التي ذكرتها لك حتى يبلغ اليقين قلبك .
العالم الألماني السويسري الأمريكي الجنسية ألبرت أنشتاين هو كما تعلمون جميعا أحد أبرز علماء الفيزياء والذي شقت سمعته الأفاق و دون التاريخ أسمه بحروف من ذهب حتى سمي بأبوالنسبية .
ذلك العالم الفذ حقق للبشرية فتحا علميا مشهودا كونه وضع النظرية النسبية الخاصة و النظرية النسبية العامة ، واللتان كانتا اللبنة الأولى لعلم الفيزياء النظرية الحديثة .
نال أنشتاين أعلى وأبرز جائزة علمية عالمية وهي نوبل للفيزياء عن ورقة بحثية عن التأثير الكهرومغناطيسي ضمن ثلاثمائة ورقة علمية أخرى له في تكافؤ المادة و الطاقة ومكانيكا الكم وغيرها ، وقد أدت أستنتاجاته المميزة و المبرهنة الى تفسير العديد من الظواهر العلمية المعقدة و التي فشلت الفيزياء الكلاسيكية في أثباتها وفك شفراتها .
نفس هذا العالم المشهود الذكر والزائع الصيت والذي أصبح اليوم مضربا و مثالا للعبقرية ، كان قد ذكر فيما ذكر عنه أنه كان يعاني ضعفا بينا في الأستيعاب جعله يرسب عدة مرات في أمتحانات المدرسة وفي مادة الرياضيات تحديدا ، ويفشل فشلا ذريعا في الأستمرار فيها حتى تركها تماما لكرهه لنظامها التعليمي الصارم و لروحها الخانقة ....... !!؟
فقيمة و معيار أصل النجاح و الفشل في هذه الحياة أمر تقديراته نسبية تتأرجح بين شخص و آخر ، وهي في الأخير أصبحت أمر لا يعنيني ولا ألقى له بالا كثيرا لذلك ستجدني متسامح للغاية ولأبعد الحدود لأي أحكام أو أوصاف يطلقها من هم في محيطي أو حتى العامة من الرجرجة الدهماء إن أصابني يوما ما سرطان الشهرة و الأضواء مثل أنشتاين !
*********
في أيام طفولتي حيث ترعرعت في أحدى الدول النفطية الخليجية أدخلني والداي مدرسة أبتدائية خاصة تكاليف الدراسة السنوية فيها عالية مقارنة بالمدارس الحكومية التي يدرس فيها أبناء المواطنون و المقيمون مجانا .
أسترعى أنتباه المعلمين منذ دخولي في السنة الأولى نبوغي و سرعة أدراكي للدروس الملقاة لي ، وكان الفارق بيني وبين الآخرين شاسع وكبير .
حجزت لنفسي منذ دخولي المدرسة في السنة الأولى مقعد الأول أكاديميا في الدفعة لا ينافسني عليه ألا طفل آخر مصري يدعى حسام كنت قد تركت له أحتكار المركز الثاني .
لم نكن أنا و غريمي المصري متحابان في أغلب الظروف و الأوقات ، ومع توالي الأيام تولدت عداوة كبيرة بيننا ، لم أعرف لها أسباب سوى أنه كان دائما يتميز غيظا مني لتفوقي الأكاديمي المتواصل عليه .
كنا نتنافس في كل شيء حتى في حصص النشاطات مثل الرياضة و الموسيقى و المسرح وهي حصص ثانوية ضمن المقرر المدرسي ، نتنافس فيها بقوة لأحراز الدرجات العليا وكسب ثناء المدرسين لأبراز تفوق أحدنا على الآخر .
كان هو تارة ينتصر علي في مادة أو أثنتين فيستكين قلبه لذلك ، ثم آتي بعدها فأرد له الصاع صاعين و أحرز الدرجات الكاملة في بقية المواد ، فأعيد لذاكرته أصل تفوقي المستبين و المتواصل عليه فيزداد كرهه وغيظه علي أضعافا وأضعافا .
لم أكن أعلم لماذا كان دائما ثقيلا فظا و غليظ الطبع خشنا معي ، يتعامل بأستعلاء رغم أنني حاولت مرارا و تكرارا أن أجعل التنافس بيننا تنافسا شريفا بين أصدقاء لا أعداء ، لكنني فشلت فشلا ذريعا في ذلك !
وفي أحدى الأيام جمع حسام طلاب الفصل في فسحة الأفطار بعد أن تأكد من وجودي بالفصل ثم أخرج مقصوصة من جيبه يبدو أنها صورة من كتاب ، ثم بدأ يقرأ بصوت خطابي عالي :
قرر محمد علي حاكم مصر أن يغزو و يستعمر السودان في العام 1820م لأن هذه البلاد كانت تمنح لمصر العاج والذهب و ريش النعام و الرقيق ، فإذا أستعمر حاكم مصر السودان يسيطر بذلك على موارد كل هذه الأصناف التجارية و البشرية ، فينظمها و يفرض عليها المكوس و يحتكرها في الأخير من أجل رفاهية و راحة المصريين !
لم أكن ساعتها لأتحمل كل ذلك فقمت بضربه بحذائي في وجهه حتى أحمر من شدة الكدمات المتتالية و المتساقطة عليه بعد أن أرتمينا سويا في الأرض ، ولم يسعفه وقتها ألا تدخل المشرف الأجتماعي الذي هرع الينا مع تعالي أصوات الأستغاثة من زملائنا الذين فشلوا في فض النزاع و الصراع بيننا !
وفي اليوم التالي جاء بمقصوصة أخرى من كتاب آخر و بدأ يقرأ لمن حوله من أصدقاءه بصوت أقل علوا ولكنه كان متأكدا أنه واصل و مسموع لدي :
ثم قرر الجيش المصري الذي كان يتفوق على الجيش السوداني قوة و عددا و سلاحا أن يعيد أستعمار هذه البلاد و يخضعها لسيطرته في حملة عسكرية ضخمة كانت في مارس العام 1896م بأمر أصدرته الحكومة البريطانية الى السردار بالتقدم و تخليص هذه البلاد من حكم الدروايش و أنتشالها من وحل التخلف و المرض و الفقر الذي أنتشر في كل أرجاءها .
فضربته أيضا بحذائي في وجهه ، و دارت مجددا حرب حامية الوطيس بيننا لم يسلم كلانا فيها من الأصابات و الجروح و الكدمات ، فجاء المشرف الأجتماعي وفصل بيننا و عوقبناهذه المرة من حضور كل حصص النشاطات لمدة شهر كامل .
بعدها بأسابيع قليلة قرر أن يتحداني في مطارحة شعرية نقيمها بين شعراء السودان و مصر على أن تكون بعد شهر كامل من قبولي التحدي و بأشراف أستاذ اللغة العربية و حضور كل طلاب المدرسة ، بعد أن أدعى أن السودان لم ينجب شعراء ببراعة و قوة شعراء مصر .
قبلت العرض و التحدي رغم علمي أن حسام كان يتفوق علي دائما في مادة اللغة العربية بحكم أن والده معلم قديم للمادة و موجه تربوي فيها .
عكفت في منزلي شهر كامل حرمت نفسي فيه من كل ملذات الترفيه بعد أن أستعرت من مكتبة والدي كل دواوين الشعر لشعراء السودان أحفظ مابها من قصائد عن ظهر قلب و أعيد ترديدها ليل نهار حتى ترسخ في ذهني .
وفي اليوم الموعود وقف الجميع بحماسة ليشهدوا النزال الحامي بيننا وكان الشرر يتطاير في أعيننا أنا و حسام و كأننا على أهبة الأستعداد لدخول حلبة للمصارعة الحرة لا مطارحة شعرية .
أجرى أستاذ خليل أستاذ اللغة العربية قرعة البداية بيننا ، وكان هو في ذلك بيننا اليوم من أسعد خلق الله بتلميذيه النجيبين و اللذان ظنا منه قد قررا دخول هذا المعترك الشريف من أجل أبراز قدراتهما الأدبية !
كانت البداية من نصيب الفرعون المصري فبدأ ملقيا على مسامع الجميع هذا البيت الشعري ، يقول محمود سامي البارودي :
أبيت في غربة لا النفـس راضية بها * * * و لا الملتقى من شيعتي كثبُ
الباء يا زميلي أحمد ... فقلت له يقول عبدالله الطيب :
بكى امرؤ القيس من ذكرى أحبته *** و للأحبة في جنبيك عرفان
النون يا زميلي حسام .... فقال أنشد حافظ أبراهيم :
نَبِّئاني إِن كُنتُما تَعلَمانِ* * * ما دَهى الكَونَ أَيُّها الفَرقَدانِ
نظر حسام إلي بأستخفاف وفي وجهه أبتسامة خبيثة محاولا بعث التوتر في نفسي ، ثم قال النون يا زميلي أحمد مرة أخرى .
قلت له بثبات وفي وجهي نظرة أصرار و تحدي .... يقول عبدالله الطيب :
نخادع الناس عن نجوى ضمائرنا * * * وفي قرارتها جهر و عصيان
النون كرة ثالثة يا زميلي حسام ..... قلتها بطريقة هزلية مسرحية بعد أن رأيت الأمتعاض و الحنق يتطايران بشدة من وجهه .
فقال في تحدي و أصرار و بنبرة صوت حادة عالية ، يقول الأستاذ محمود خفيف في قصيدة الطائر السجين :
ناسل الريش نحيل شاحب * * * ذابل المقلة محزون الجبين
النون يا زميلي أحمد مرة أخرى رابعة ، فقلت له أيضا في هدوء و أستخفاف يقول عبدالله الطيب :
نبغي السلامة هيهات السلامة * * * و الأحشاء ظامئة والقلب غرثان
هنا صاح حسام وقد أشتطط غضبا :
أنا أعترض يا أستاذ خليل ، ألا يوجد في هذه السودان شاعر غير عبدالله الطيب هذا ؟
تدخل أستاذ خليل و هدأ من روع حسام ، وقال له أحمد لم يخرج من قواعد المطارحة الشعرية ، ومن حقه أن يستند لشاعر واحد أو لعدة شعراء شرطا كما أتفقنا أن يكون من بلده ، ويا ليتك كنت تعرف من هو عبدالله الطيب جيدا كنت قطعا لن تعترض بهذه الطريقة الفجة !
أستمرت الجولة الأولى على ذلك ، و كذلك الثانية ، فقرر استاذ خليل في الأخير بذكاء قطع الطريق علينا و أنهاء النزال بتعادل الطرفين حتى لا يخرج أي طرف خاسر منا ، ويكون الجميع قد كسب متعة الحضور و ألق المشاهدة ، ولكن حسام عاد أدراجه للبيت غاضبا مضمرا الشر و غير راضي تماما بالنتيجة التي أنتهت عليها هذه المطارحة الشعرية .
أنتقل الصراع بعدها بيننا لمشهد آخر ......
ديمة زميلة من أصل لبناني معنا في الفصل كانت تبدو وتتمثل لنا في ذلك العمر بجمالها الفائق و شعرها الأشقر الطويل وشفتيها القرمزيتان و عيونها الزرقاء كزرقة مياه البحر كالسندريلا .
نعم أصدقكم القول أننا كنا نراها كالسندريلا التي قرأنا عنها كثيرا قصصا و شاهدنا لها مرارا وتكرارا أفلاما و مسلسلات للرسوم المتحركة لذلك أطلقنا عليها في الفصل هذا اللقب و الذي كانت تعتز و ترتاح له كثيرا .
كانت رغم رقتها و أناقة ملبسها متعجرفة و معتدة بنفسها و بجمالها وسط صديقاتها بعض الشيء ، تتصدر المجالس و تحب أن تعامل كملكة أو أميرة بدلال من قبل الجميع .
ديمة هذه أضحت اليوم هي الأخرى محلا للصراع و التنافس الشديد بيني وبين نديدي المصري لكسب ودها وصداقتها بعد أن لاحظ حسام أنها كبقية من في الفصل تأتي إلي يوميا لمراجعة و شرح ما أشكل عليها من مسائل مادة الحساب .
بدأ حسام فجأة يتودد لها بكل السبل بأن يحل لها مرة كل الواجبات المدرسية و يهديها مرة ثانية كل أسبوع هدايا ثمينة ومتنوعة أمام صديقاتها لأرضاء نرجستيها و غرورها .
لم يكتفي بذلك فكان يشتري لها يوميا من مقصف المدرسة وجبة الأفطار التي تشتهيها بجانب الشوكولاته و العصائر ، ويصر أن يرافقها في كل حصص النشاط حتى قويت العلاقة بينهما و صارا لا يفترقا أبدا .
مع الأيام تغيرأسلوب ديمة معي فجأة فلم تعد كالبقية تراجع معي دروس العلوم و الحساب ، وإذا حييتها في الصباح لا ترد السلام إلا على أستحياء ، وأحيانا كثيرة تتظاهر بعدم سماعها للتحية .
كنت أجدها في كثير من الأوقات تجلس مستمعة له وهو يرغي و يزبد بكلام كثير و ممل ، وكان يبدو عليها الضجر من ذلك لكن أمرا ما كان يجبرها أن تسايره في هواه لم أعرف أسبابه .
قدرت ساعتها بأنها في الأخير الطرف المستفيد من كل هذا العطاء ، لعلمي التام أن ديمة بنت لا تحب ألا نفسها و كل من يدللها و يخدمها ، وأنها في الأخير لن تخسرني لأنها تعلم حوجتها الماسة لي في مساعدتها في شرح مسائل الحساب .
لم أعر للأمر أهتماما في بادئه ربما لأنني وجدت أن موقف الفرعون المصري في ذلك سيكون ضعيفا لأن كل زملائي و زميلاتي في الفصل بمن فيهم ديمة يقصدونني في شرح مسائل الحساب كلما أستعصى عليهم الأمر لحلها ولا يقصدون أحدا غيري لذلك .
في خواتيم الفصل الدراسي الأول من السنة أنتظرت بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي سوف تذاع فيه نتائج أختبار مادة الحساب حتى أنتهز فرصتي كاملة لأذلال هذا المصري أمامها وأبراز تفوقي و نبوغي عليه .
كنت أريد أن أبرهن له أن الفوز بصداقة و صحبة هذه اللبنانية سوف يكون فرصة ثمينة و سهلة لصفعه و أظهار عجزه عن تحقيق ذلك برغم كل المجهود الخارق الذي بذله في ذلك ، فيقفل هذا الملف نهائيا ويبحث ذلك المصري المأفون عن ميدان آخر للتنافس فيه معي غير ديمة أصرعه فيه أيضا .
كانت أمتحان هذا الفصل الدراسي في غاية الصعوبة وكنت على يقين أنني سأحرز الدرجة الأولى على كل زملائي خصوصا على ذلك الفرعون الصغير .
وبالفعل سارت الأمور في البداية كما أريد وأحرزت الدرجة الكاملة في الأختبار وتفوقت على غريمي المصري ، فصفق لي الجميع بحرارة وأخذت أنظر نظرة خاطفة أثناء أذاعة أسمي نحو هدفي ...
نحو تلك الحسناء اللبنانية التي قررنا أنا وهذا المصري أن تكون مجالا للتنافس و الصراع حولها ....
نحو ديمة !
لم ألحظ منها تفاعلا و صدى نفسي كبير في ملامح وجهها سوى أنها صفقت مع الآخرين و أبتسمت أبتسامة طبيعية !!؟
وكانت الدرجة الثانية في الفصل على الفور بناقص علامة واحدة فقط من أحراز العلامة الكاملة لنديدي المصري حسام ، وعلى غير العادة طلبت معلمتنا التصفيق له أيضا على هذه الدرجة الرفيعة تشجيعا لروح المنافسة بيننا كتلاميذ لفصلها .
العجيب أنني وجدت ساعتها أن تفاعل السندريلا فرحا كان أشد وأوضح بيانا ، حيث ألتفتت أليه وقوفا ومنحته بجوار تصفيقها الحار أبتسامة ثغرها الساحرة .
ما الذي يجري أمامي ؟
هل كسب هذا المصري ودها لمجرد أنه أغدقها بالهدايا و ظل يقدم لها يوميا الحلوى و الشوكولاته !!؟
أنا أعلم جيدا أن هذه البنت تستغله لصالحها !
هي تكره أسلوبه الأرعن مع الجميع و ربما رائحة فمه الكريهة التي يصعب تجاهلها كلما جلست أو تكلمت معه للحظات .
كيف كسب هذا المصري ودها بهذه السرعة ؟
أحبطت جدا لهذا وكانت صدمتي عنيفة ، ولكنني حاولت سريعا تمالك نفسي و تجميع أطرافي وتناسي هذا الموقف حتى لا ينعكس على ملامحي وتقاسيم وجهي فيشعر نديدي بنشوة الأنتصار علي بعد تفاعل السندريلا معه .
ظل يرمقني بنظرات ساخرة طويلة أثناء توزيع المعلمة لبقية درجات زملائي بالفصل ، ويبتسم نحوي أبتسامة صفراء بشعة بينت لون أسنانه الصفراء القبيحة ، قاصدا بها أشعال نار غيظي وأثارة حنقي خصوصا انه شعر و ربما تيقن تماما أنه ساقني دون أن أشعر لملعبه الذي أراده ، وهو هدف الظفر بصداقة هذه الفتاة اللبنانية الساحرة .
بعد أنتهاء الحصة أتجهت تلقائيا نحو ديمة سريعا قاصدا سماع أي تعليق منها على نتيجتي المميزة في الأختبار ، فحييتها فردت علي التحية ببرود ، ثم أنتظرت منها أن تعرض علي مساعدتها في حل الواجب المدرسي ، فطال الأنتظار !
وحينما خيمت بيننا غيمة صمت قصيرة أعترتني فيها الدهشة و التعجب من أنكماشها مني ، أرادت أن تقطع الطريق لذلك ، فستأذنتني بكل تهذيب ولباقة الخروج للساحة لتناول وجبة الفطور .
حاولت عبثا أعتراضها وردها لجادة الحال الذي كان بيننا في السابق فقلت لها ممسكا بيدها بقوة :
بأمكاني مساعدتك في حل واجب الحساب اليوم يا ديمة ... هل تريدين ذلك !!؟
أفلتت يدها من قبضة يدي بسرعة و قالت لي بصوت هادئ و رزين :
شكرا أحمد .... حسام ينتظرني في ساحة المدرسة لنتناول معا طعام الأفطار وبعدها سوف يساعدني هو في حل هذا الواجب .
أشتعلت غضبا وحنقا من ردها و صدها لي ، وشعرت بدوران في رأسي من هول صدمتي ووقع كلماتها القاسي ، فأصبحت لحظتها لا أرى أي شيء أمامي من فرط الغيظ ، ضربت الطاولة بيدي بقوة دون أن أشعر بنفسي ، وصرخت في وجهها بصوت عالي ألتفت له كل من تبقى وقتها بالفصل :
لكنه لا يستحق ذلك .... أنا الأقدر على هذا الأمر ، أنا من أحرزت الدرجة الكاملة في الحساب ، أنا صديقك من قبل، و أنا أول الفصل !
أنتفضت ديمة من صياحي وعلو نبرة صوتي فتراجعت للخلف هلعا وبدأت أطرافها بالأرتعاش خوفا مني ، ثم بعد ثواني معدودات أخذتها لتستوعب ردة فعلي صاحت في وجهي وهي تبكي :
أنت الأول نعم في كل شيء ولكنك لست صديقي ، أنت سوداني ... أنت أسود البشرة يا أحمد ........ !!؟
صمت لبرهة بعد وصفها لي بالأسود !
شعرت ببرودة في جسدي وكأن الدماء فيه قد توقفت عن الجريان في عروقي ، ثم بقلبي ينخفض و يرتفع وكأنه يسرع تارة و يتوقف تارة أخرى عن الخفقان .
تواصل صمتي لدقائق مرت علي من ثقلها كالساعات وأخذت أنظر للناس من حولي بأنكسار وقد أفزعهم و هالهم المشهد ، أتفرس ردة فعلهم بعد وقع وجرح هذه الكلمة القاسية على نفسي و التي لم أكن أتوقعها أبدا ولم أضع لها أي حساب !
عم صمت رهيب المكان والكل في الفصل مابين مشفق علي من قسوة الكلمات التي سقطت على رأسي كزخات المطر و بين آخر مترقب لردة فعلي .
رفعت يداي الأثنتان أمامي ونظرت الى بشرتي السوداء بعد حديثها ، ثم نظرت أليها وهي تبتعد عني بفزع غاضبة بصحبة نديدي المصري الذي كان يراقب المشهد من بعيد ، بعد أن هرع نحوها ليتفقدها ويطبطب نفاقا وتذلفا لها محاولا تهدئتها .
فرح حسام لهذا الموقف أيما فرح خصوصا عند سماعه عبارة ( أنت أسود البشرة ) ثم أبتسم بخبث أبتسامه عريضة طال أنتظاره لها ، و أخذ بعدها بطريقة عبثية يغريها لأكثر من هذا وهو يتوعدني أمامها بأنهما سوف يتقدمان بشكوى سريعة ضدي لمربية الفصل لصراخي فيها و تهجمي عليها وبشهادة الكثيرين هنا .
لم يكن هذا كل شيء ......
ولم تنتهي المشاكل والصدمات عند هذا الحد فماهي ألا دقائق معدودات حتى جاء أحد أصدقائي يخبرني بحزن بأن مربية الفصل غاضبة جدا مني وهي تستدعيني الآن الى مكتبها حالا .
توجهت نحو المكتب وأنا أعلم جيدا سبب الأستدعاء ، وحينما دخلت وجدت ديمة تجلس في مقعد بجوار المربية وهي تذرف الدموع وتبكي وتصرخ ونديدي المصري يقف بجانبها وهو يمارس بحنكة و دهاء دور الصديق الوفي يخفف عنها و يواسيها في مصابها .
نظرت لوجه مربيتي التي طالما كنت أنا طالبها المثالي والمقرب والمحبب لها ، فوجدته مقتضبا ومحمرا غضبا مما سمعت ، ثم سألتني هل فعلا صرخت في وجه ديمة وفرضت عليها صداقتك مقابل أن تساعدها في حل الواجب المدرسي يا أحمد !!؟
سكت لثواني معدودات قطعتها سريعا أستاذة منى بترديد السؤال ... ألم تسمعني يا أحمد هل فعلا صرخت في وجه ديمة وفرضت عليها صداقتك مقابل أن تساعدها في حل الواجب المدرسي !!؟
أومأت برأسي منكسرا نحو الأرض بعلامة الأيجاب ، فبدأت بعدها تعنفني و توبخني بشدة و بكلمات قاسية عبرت فيها عن صدمتها الكبيرة فيني ولسلوكي الهمجي ولتصرفي الأستغلالي الغريب الذي لم تعهده مني أبدا في يوم ما .
أنذرتني بأن هذه السقطة الأخلاقية سوف تتجاوزها مني اليوم وتعتبرها لفت أنتباه لي ، ولكنها أذا تكررت مني ثانية سوف تضطر لأستدعاء ولي أمري وتواجهني أمامه بسلوكي النشاذ .
ثم أمرتني بالأعتذار لديمة فأعتذرت ذليلا لها أمام نديدي حسام و الذي أعجبه مشهد أنكساري و تعنيف المربية لي ، وكان في غمرة و نشوة أحساسه بأنه أخيرا أنتصر علي أنتصارا كاسحا لن أستطيع أن أرده له بأي حال من الأحوال في أي يوم من الأيام .
عدت أدراجي للفصل وأنا أجرجر أذيال الخيبة و الحسرة و الألم والهزيمة ، و كانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بطعم الفشل و الحزن بعد سنوات طوال كنت فيها أتذوق و أتلذذ بشهد النجاحات و الأنتصارات خصوصا على هذا الفرعون المصري الصغير .
في المنزل لاحظ أفراد أسرتي فقداني الكامل للشهية لعدة أيام حيث كنت أكتفي بقدر بسيط من الطعام في الغداء و العشاء ، و أستأذنهم للخلود لغرفتي لأخذ قسط من الراحة والنوم كلما أجتمعوا للحديث و التأنس .
لم يحاول والداي على غير العادة معرفة السبب الذي دعاني لذلك رغم أنهم كانوا في كل ظهيرة وقبل تناول وجبة الغداء يراجعون معي كل تفاصيل أحداث يومي المدرسي .
أظن أنهما قد رأوا في هذه المرة أن يخففوا عني هذا الثقل ويتركوني لحالي و شأني لعلي أعود سريعا لطبيعتي العادية !!؟
في نهاية الأسبوع و بعد صلاة العشاء جلست مع والدي كعادتي معه في التآنس و تبادل الأحاديث و الأخبار عن برامج الترفيه ليوم الخميس ، فوجدني على غير الحال ، فوعدني وأخوتي بالخروج لشارع الكورنيش اليوم ، وقال لي أنني أحمل لك أيضا هذا اليوم هدية أضافية قيمة يا أحمد .
سألته عنها ببرود ؟
فقال لي خذ هذا المظروف الموضوع في مكتبتك ولا تفتحه ألا في داخل الغرفة و ستكتشف الهدية بنفسك .
لم أكن متحمسا لأي هدايا في هذه الأيام تحديدا ،فقد بدأ يتسرب لذهني أحساس الدونية و النقص و فقدت معها كل أحساس بالفرح !
توجهت بفتور وعدم مبالاة حسب رغبة والدي نحو غرفتي لفتح المظروف ، فوجدت أن الهدية هي قصة من سلسلة قصص السيرة النبوية لصحابي جليل من صحابة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
بدأت أقلب في صفحات الكتاب و أقرأ العنوان ......
كانت قصة عن سيرة صحابي أسمه سيدنا بلال بن رباح - أسير حبشي الأصل أسود البشرة - كان يعايرونه في الجاهلية وسط العرب بأبن السوداء .......... !!؟
ماهذا الأيام الغريبة الذي لاتنفك تذكرني باللون الأسود في كل ثانية و دقيقة و ساعة !!!!!؟
توقفت عن القراءة وأتجهت نحو المرآة ونظرت لوجهي جيدا وتفرست في ملامحي ، نعم أنا وسيم وشعري ناعم ولكني أسود البشرة كما وصفتني ديمة .
نعم أنا أسود البشرة كبلال بن رباح الذي تحكي عنه هذه القصة ، وأبن سوداء أيضا مثله .
أنحدرت من مقلتاي دمعتان ساخنتان ، ثم بدأت أفكر بعدها في ماذا لو لم يكتفي غدا نديدي المصري الحقير حسام بوصفي يا أسود ، وتجرأ لأكثر من ذلك و وصفني بأبن السوداء !!؟
كيف لي أن أرده عن هذا ساعتها ؟
لقد وجد هذا الحقير ضالته فيني ونقطة ضعف لا يمكن أن تعالج أبدا .
ما أسوأ هذا الشعور الذي ينتابني هذه الأيام .
لماذا ولدت أسودا ؟
لماذا لم تلدني أمي أبيض البشرة ؟
ولكن كيف تلدني أبيض البشرة وهي مثلي سوداء !!؟
هذه أيضا لحظة سوداء من لحظات حياتي التي تمكن فيها الأنكسار و الذل في روحي و مشاعري ، وبدأ العجز يدب في أوصالي وينذرني بأنني مقبل لا محال للغوص في دوامات من الأحباط و اليأس و الفشل لا فكاك منها مع هذا المصري النذل .
نعم نجحت في أحراز الدرجات الكاملة في كل المواد الدراسية ولكن ماذا يفيد هذا ؟
نعم نجحت في تقلد كل أوسمة العلم التي كانت تقدم لطلاب المدرسة المتفوقين ولكن ماذا يفيد هذا أيضا ؟
نعم نجحت في كسب رضاء والداي عني بألتزامي الحرفي و الكامل بكل تعليماتهم و نصائحهم لي ، دون حتى أبداء أي تفلتات أو روح تمردية على النظام الصارم الذي فصلاه لي لأسير عليه ولكن ماذا يفيد هذا أيضا ؟
خسرت أحترام و وقار الجميع لي في الفصل بما فيهم أحترام و محبة مربية فصلي لسوء أستغلالي لتفوقي الأكاديمي .
الحقيقة التي لا مفر منها أن الفرعون المصري أنتصر علي بدهاء بعد أن فشلت في كسب صداقة السندريلا !
ألم يجرني بذكاء لهذا المعترك وقبلت هذا النوع من النزال ؟
حتى ديمة نفسها لم ننتبه لسحر جمالها ولم تكن ذات أهمية لي وله يوما ما ألا بعد أن تخيرناها سوية مادة للنزاع و الفصل بيننا في حرب القدرات .
لقد تملكتني بعد اليوم روح للأنتقام و للكراهية !
كراهية لكل مصري ، و كل لبناني ، بل ربما كل عربي !
هل نحن عرب أقحاح أم أفارقة سود ؟
لساننا عربي هكذا يتكلم ، و حال السياسة يقول أننا مع هؤلاء العرب تجمعنا معهم الجامعة العربية والقضية الفلسطينية ، و كذلك هذه الخريطة الغبية للوطن العربي الكبير من الخليج الي المحيط التي تزين كل كراسات المدرسة !
ولكن السودانيين سود البشرة و العرب عرفوا ببياض بشرتهم ؟
من أين جاءت تسمية بلادي ؟
ربما جاءت من كون أهلها سودا يجلل السواد سحناتهم بفعل الجينات أو بفعل شمسنا المحرقة كما يرددون .
صرخ عقلي جنونا من صخب كل هذه الأسئلة التي لم أجد لها أي أجابات ، فعدت لسريري و أستلقيت فيه بأرهاق شديد تملك كل أطراف جسدي طلبا فقط للنوم ...... ولا شيء غير النوم .
teetman3@hotmail.com