العقوبات وحقوق الانسان السوداني في لعبة المصالح الكبري … بقلم: معتصم أقرع

 


 

معتصم أقرع
8 October, 2017

 

 

7 أكتوبر 2017 

"لو أمريكا رضت علينا معناها نحن فارقنا الشريعة والدين"- عمر البشير

اصدر مجلس حقوق الانسان في 29 سبتمبر قراره فيما يختص بالسودان . وقد اتي القرار في مصلحة الحكومة اذ انه, رغم بعض النقد الناعم , يقول بتحسن محسوس من جانب احترام الحكومة لحقوق الانسان وتعاونها . ورغم ان القرار يبقي السودان تحت البند العاشر الذي يختص بتقديم الدعم, الا انه وضع مريح بالنسبة للحكومة , مقارنة بالبند الرابع الذي يضع الحكومة المعنية تحت المراقبة وتترتب عليه اضرار اقتصادية ودبلوماسية غير مباشرة . ولم يكتفي مجلس حقوق الانسان بوضع الحكومة تحت البند العاشر بل مضي القرارلان يعد بأنه أذا ما استمر تحسن اداء الحكومة وتعاونها فانه من الممكن اخراجها حتي من البند العاشر الناعم في الدورات القادمة للمجلس.
يمكن القول بان هذا القرار انتصار معنوي ودبلوماسي للحكومة , تم تعزيزه برفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية . فقد قام الوفد السوداني بصياغة القرار بالتعاون التام مع الوفد الأمريكي لتكتمل اجازته بعد يوم من مجزرة معسكر كلمة مضيفا الاهانة الِى الأذى الذي لحق باهل دارفور الذين ما زالوا يدفعون فواتير لعبة المصالح وتبادل الازواج بين القوي التي تتصارع علي جماجمهم. ولكن هذه الاختراقات الدبلوماسية من قبل الحكومة لا تغير الكثير في توازنات القوة السياسية في السودان ومآلات الصراع المحتدم فيه منذ1989. من المهم ملاحظة ان هذه التغيرات تأتي تتويجا للغزل المستمر بين الحكومة والغرب المسمي بالمجتمع الدولي . يمكن تلخيص أسباب الانفراج في علاقة النظام البشيري مع الغرب والعرب في الأسباب ادناه :

+ مارست دول الخليج , بالذات السعودية والامارات , وساطة وضغوط علي الادارة الأمريكية لرفع العقوبات عن السودان لمشاركته الفعالة في حرب اليمن وانضمامه الكامل للحلف السعودي المعادي للشيعة . وصادفت هذه الوساطات هوي في الادارة الأمريكية التي يسيطر عليها رجال اعمال يهمهم , لاسباب خاصة , خلق علاقات جيدة مع انظمة الخليج البترودولارية. فسطوة دبلوماسية الريال تتضح من ان أول زيارة خارجية للر ئيس ترمب تمت للملكة العربية السعودية في سابقة غير معهودة اذ ان الزيارة الخارجية الاولي للر ئيس عادة ما تكون لحليف استراتيجي من دول الغرب.
+ مارست إسرائيل وساطة لترفع الادارة الأمريكية العقوبات عن السودان نسبة لانضمامه للحلف المعادي لايران وقطع علاقته مع الجمهورية الاسلامية التي تري إسرائيل انها تشكل الخطر الاستراتيجي الاكبر الذي يهدد هيمنتها علي الشرق الأوسط بعد ان ذهب العراق مع الريح . ويبدو ان إسرائيل تتبني سياسة مزدوجة تجاه السودان , فهي تثمن انضمام السودان الِي الحلف المعادي للشيعة وفي نفس الوقت تبني علاقات خاصة سرية وعلنية مع حركات الهامش وبالذات مع اجنحتها الانفصالية. لذا لم يكن من المستغرب ان يشكر الرئيس سلفا كير السفير الإسرائيلي ويصرح بان إسرائيل حاربت مع أهل الجنوب لنيل استقلالهم .

+ قبل نظام البشير بان يتحول الِي مخبر صغير وقام بتسليم الادارة الأمريكية كل المعلومات التي طلبتها في كل المجالات وبالذات فيما يختص بـالحركات الاسلامية في افريقيا والشرق الاوسط .

+ كما ان دول الاتحاد الاوروبي قد دخلت في شهر عسل مع نظام البشير بهدف استخدامه كمصد لوقف تدفق هجرات الشباب من افريقيا الي اوروبا عبر السودان وليبيا ومن ثم الِي البحر الابيض المتوسط . فقد ادخلت هذه الهجرات اوروبا في ازمات سياسية وأخلاقية هزت مصداقيتها ورفعت عن وجهها قناع الانسانية وعززت من مكاسب الاحزاب العنصرية والقومية المتطرفة ذات النزعة الفاشية التي تشكل خطرا علي الديمقراطية الأوروبية , وعلي اندماج دولها الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي كما تهدد هذه الاحزاب القومية حرية التجارة – أي انها تهدد توازن الاقتصاد السياسي الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية لذي مهد للازدهار الاقتصادي والسلام في القارة العجوز . كما ان صانع القرار االأوربي يؤرق مضجعه ان الهجرات الافريقية نحو اوروبا مرشحة للازدياد في العقود القادمة بتاثير الانهيار الاقتصادي الافريقي تحت ضغوط الليبرالية الجديدة وانسداد افاق التنمية التي تشمل الجميع ونتيجة للتداعيات الاقتصادية الواسعة لتغير المناخ والاحتباس الحراري المتسارع . عليه فان دول الاتحاد الأوروبي تري ان هذه الهجرات الافريقية تهدد أمنها القومي وتوازناتها السياسية لانها تؤجج حماس اليمين المتطرف الذي عانت القارة تحت قبضته من دمار الحرب العالمية الثانية . ولذا فقد قررت دول الاتحاد الأوروبي ان مصالحها تكمن في التطبيع مع نظام البشير واستخدام جيشه وميليشياته كخفير يحرس حدودها بقطع الطريق علي لاجئي المناخ والحروب والليبرالية الجديدة قبل وصولهم للبحر الابيض عبر ليبيا التي انهارت فيها مؤسسات الدولة بعد الغزو الغربي لتسيطر عليها ميليشيات دينية وقبلية ضالعة في الارهاب والاتجار بالبشر وفي أحسن الاحوال لا مصلحة لها في حماية حدود اوروبا .

+ اضف الِي ذلك ادراك المجتمع الدولي )وهو اسم التدليل/التضليل للغرب ( للفشل الذريع للمعارضة المسلحة والذي تبدو ثمارها واضحة في الانهيار التام لدولة جنوب السودان تحت حكم الحركة الشعبية المدمر والذي نتج عنه فراغ امني وفوضي ربما تقود تداعياتها الاقليمية الِي صبـ مزيد من الزيت علي نار الهجرات الافريقية شمالا . كما انه من المثير للقلق تشظي الحركة الشعبية- شمال واشتعال الصراع بين فصائلها وفقدانها لأي بوصلة مما يطرح مخاطر واحتمالات نشوب صراعات اثنية داخل مكوناتها علي منوال الصراع الدموي بين الدينكا والنوير في دولة جنوب السودان المستقلة تحت شعارات السودان الجديد وتحرير الهامش . وفي ذلك فقد صرح دونالد بوث المبعوث الأمريكي السابق للسودان وجنوب السودان ، في يناير الماضي بان قادة الحركة الشعبية والحركات المسلحة الأخرى ترجح مطامحها الشخصية على مصلحة الشعب ، ودعا المجتمع الدولي للتعامل معها بحذر. ويبدو ان توصيات الستد بوث للمجتمع الدولي لم تذهب هباء فها هي تشق طريقها عبر دهاليز صنع القرار الدولي .

+ أما في دارفور فان حركاتها المسلحة تتوزع علي اسس قبلية لا تخطئها العين المجردة . كما ان فصائل مهمة من هذه الحركات المسلحة قد تحول الِي قوي تنشر الفوضي والدمار باشتراكها كقوات مرتزقة يكمن استئجارها من قبل أي جهة مستعدة لدفع الثمن في حروب الجوار في ليبيا وجنوب السودان وتشاد. وايضا فان هذه الفصائل قد ولغت في الارهاب والاتجار بالمخدرات وتهريب البشر والسلاح. عليه فان دول الاتحاد الأوروبي قد اعادت النظر في هذه الفصائل ويبدو انه قد تم تصنيفها كعامل مهدد للاستقرار والسلام في افريقيا , الشيء الذي يفاقم من خطر الهجرات الافريقية نحو اوروبا التي هي اكبر ما تخشاه الدول الأوروبية .

من الواضح ان تغير المعادلة الدبلوماسية لصالح الحكومة يمكن ارجاعه لتغيرات حدثت في الاوضاع الاقليمية والدولية من ناحية , والي انمساخات الحركات السودانية المسلحة المتحالفة مع الغرب , من ناحية اخري. وعليه فانه من العبث تصوير هذه التحولات كانجاز انتصاري للدبلوماسية السودانية , بما انها اتت كنتيجة لتغير في اتجاه الريح الدولي و االاقليمي في ضربة حظ استغلها النظام بفعاليته الانتهازية المعروفة .

السؤال الذي يفرض نفسه بقوة الان هو ماذا تعني هذه 'الانتصارات ‘ الدبلوماسية لمستقبل حقوق الانسان وتوق الشعب السوداني لاستعادة الديمقرطية والحرية والحكم الرشيد ؟ الاجابة باختصار انها لا تعني الكثير بما انها لا تحدث أي تغيير مستقل في توازن القوة بين معسكر الديمقراطية السوداني ومعسكر السلطة الثيوقراطية المنبطحة دوليا . فمن المؤكد ان قرار مجلس حقوق الانسان الاخير ,الذي اتي في مصلحة الحكومة , والذي ساهمت امريكا في اخراجه , يطرح احتمال وضع السودان كليا خارج الاجراءات الخاصة لمجلس حقوق الانسان وبذلك يرجح بقوة من احتمال ان ترفع الادارة الأمريكية ما تبقي من عقوباتها القسرية, الاحادية علي السودان إلا انه لا يعزز من مقدرة النظام علي الاستمرار في الحكم ان لم يضعفها. فمن المهم في هذا المنعطف استحضار ان نظام نميري ونظام عبود قد سقطا رغم انهما كانا يتمتعان بعلاقات محبة مع العرب ودول الجوار ومع الغرب ترقي لدرجة العمالة السافرة, فلم تعصمهما تلك التقاربات من هبات الشعب السوداني التي اطاحت بهما في أيام غليان ثوري معدودة . فقد سقط نظام مايو حينما كان نميري ضيف شرف في زيارة لامريكا في وقت كان فيه سعر صرف الدولار لم يتعد الجنيهان. كما لم يحمي رضاء الغرب شاه ايران من غضب شعبه ولم يحمي حسني مبارك ولا بن علي من أشواق الشعوب للحرية والعدالة.
هناك دلالات تاريخية تشير الِي ان العقوبات الغربية لا تطيح بالأنظمة المستهدفة ولكنها تنجح في انهاك تلك الشعوب وتقويض مؤساساتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كما حدث في ليبيا والعراق وسوريا وكوبا وكوريا الشمالية وايران . وفي بعض الاحيان يتم الادعاء بان العقوبات تهدف الِي تغيير النظام واستعادة الديمقراطية وحقوق الانسان ولكن احيانا يظل الهدف الحقيقي المستتر وغير المعلن هو بث السوس في عظم الوحدة الوطنية وترويض النظام ليمرر اجندة اجنبية مثل تقسيم وتفكيك الدولة أو تحويل النظام الِي تابع مطيع يخدم مصالح اجنبية بهمة وفعالية. فها هي العقوبات تفرض علي السودان وترفع مع تبدل ظروف لعبة المصالح وليس مع تغير اوضاع حقوق الانسان. وهذا يأتي في توافق مع تاريخ العقوبات في العالم , فالدول التي عانت منها لم تكن ملائكية في احترام الحريات ولكنها لم تكن الاسوأ في العالم , اذ ان هناك عشرات الدول ترتكب انتهاكات اكثر فظاعة ضد الانسان ولكن لا تفرض عليها أي عقوبات . فمن الواضح ان فرض العقوبات لا يرتبط بأوضاع حقوق الانسان في البلد المعني وانما يرتبط اكثر بوجود هذا البلد داخل أو خارج بيت الطاعة فعلي سبيل المثال تم فرض العقوبات علي العراق في عام 1990 الشيء الذي نتج عنه نقص الامدادات الطبية وتدمير القاعدة الاقتصادية والانتاجية ، مع تراجع القطاع الزراعي وتدني مستويات الأمن الغذائي للسكان وارتفاع معدلات سوء التغذية . كما ان نقص قطع الغيار، وعدم كفاية الدراية التقنية، نتج عنهما انهيار العديد من المرافق الحديثة لينخفض نصيب الفرد من الدخل من 3510 دولارا في عام 1989 إلى 450 دولارا في ظرف 5 اعوام فقط من العقوبات . اشارت دراسات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن ما يقرب من نصف الأطفال دون الخامسة من العمر عانوا من الإسهالات وانتشار الأمراض الناجمة عن نقص المياه النظيفة. وبلغت وفيات الأطفال بسبب العقوبات نصف المليون طفل ولكن وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين اولبرايت أكدت علي عن موت نصف مليون طفل في العراق ثمن مناسب تبرره الاهداف السامية لسياسة حكومتها .

نجحت العقوبات في تكسيح الاقتصاد العراقي وتقويض جهاز الدولة وتمزيق نسيجه الوطني ولكن النظام لم يتأثر وحافظ قادته علي امتيازاتهم سنين طويلة لم تنتهي الي مع الغزو الامريكي الذي تم عقابا للعراق علي جريمة القاعدة في 11/9 التي لم يكن لنظام العراق أي علاقة بها من قريب أو بعيد . فمرتكبي تلك الجريمة اتوا من دول حليفة لامريكا والغرب هي السعودية والامارات و مصر. نفس السيناريو العراقي تم في ليبيا انتهاء بتقسيم كل تلك الدول عمليا الِي دويلات كما حدث في السودان.

من المحتمل ان تكون التغيرات الاخيرة في العلاقات الدولية بركات خفية علي مستقبل العمل الديمقراطي المعارض في السودان لأسباب متعددة . فاولا من الثابت ان العقوبات الاقتصادية والسياسية يدفع تكاليفها الشعب ولا تمس مصالح الطبقة الحاكمة ولا تحد من مقدرتها علي الاستمرار كما ذهب بذلك تقرير الخبير الاممي عن العقوبات القسرية الاحادية الصادر في سبتمبر السابق
فقد ذهب المقرر الخاص لمجلس الامم المتحدة لحقوق الانسان بان العقوبات الاحادية علي السودان تفتك بـالابرياء من الشعب ولا يتأثر بها أهل الانقاذ. فقد صرح االمقرر الخاص بعد زيارته للسودان بـأن الواقع أثبت عدم تأثير العقوبات سلبا على المسئولين ولا على نخبة ما ، وإنما أثرت كليا على المواطنين الأبرياء وعلى تعميق التفاوت في توزيع الدخل بين طبقات المجتمع السوداني، وبين الأقاليم، كما أدت إلى توسيع السوق السوداء، وانفلات التحكم بالتحويلات المالية فخرجت هذه الأخيرة من الشبكات المصرفية الرسمية مما شجّع تطوير اقتصاد موازي. وقال ان الحق في الحياة والحق في الصحة تأثرا بسبب عدم القدرة على الحصول على قطع الغيار للأجهزة والأدوية المنقذة للحياة، فأصبح السودان من الدول القليلة التي يموت فيها المصابون بمرض السكري، نظرا لعدم قدرة الحصول على الأدوية، لأنها لا تُنتج إلا في دولتين تُشاركان في الحصار.و من ناحية اخري ربما تدعم هذه العقوبات من مقدرة الطبقة الحاكمة علي اعادة انتاج نفسها بتوسيع فجوة القوة بينها وبين الشعب المعارض الذي يدفع الفاتورة. ايضا هذه العقوبات توفر شماعة فعالة ومريحة يعلق عليها النظام فشله في اشاعة الرخاء وتوفر له قناع يساعده علي الظهور بمظهر الضحية الضعيفة التي تخضع لهجوم ضاري من قوي الاستعمار الجديد. نجح النظام في استغلال هذا الوضع وسوق لنفسه كدولة معادية للامبريالية والاستكبار الدولي علي غرار كوبا وفنزويلا الشافيزية ونجح من تحت هذا القناع في الحصول علي الدعم السياسي والدبلوماسي من دول الاتحاد الافريقي وكل الدول ذات التوجه اليسارى والتي, من منطلقات مبدئية, تعارض الهيمنة الغربية علي فضاءات السياسة والاقتصاد في العالم. كما ان ارتماء المعارضة التام في احضان الغرب وذهولها المتعمد عن الابعاد الاستعمارية الكامنة المرتكز عليها جزئيا في عداءه لنظام البشير قد سهل للنظام في ان يسوق نفسه زورا كقوة معادية للاستعمار الجديد الشيء الذي مكنه من حصد الدعم الافريقي في المحافل الدولية , كمجلس حقوق الانسان وفيما يختص بالمحكمة الدولية التي تلاحق الرئيس البشير. فرغم ان كل الحركات المسلحة ترفع شعارات الهوية الافريقية وتشكو للعالم من الاستعلاء العروبي التهميشي الذي دفعهم لحمل السلاح الا انها فشلت في حشد الدعم الافريقي ضد النظام في المحافل الدولية. كما فشل أهل اليسار في اقناع الدول الاقرب اليهم ايديلوجيا بعزل نظام البشير دوليا بغض النظر عما اذا كانت هذه الدول اشتراكية ام دول تحكمها احزاب شيوعية ام دول معادية للهيمنة الغربية لاسباب يسارية في طبيعتها . وبـذا فشلت المعارضة بكل مكوناتها في ان تنوع من مصادر السند السياسي الدولي ووضعت كل بيضها في سلة الغرب المعروف بالمصالح المتقلبة والمبادئ عالية المرونة وها هي تدفع ثمن خياراتها غير المدروسة. فقد نتج عن ارتهان المعارضة السودانية للغرب مشهد شديد الغرابة في المحافل الدولية . ففي هذه المحافل تري ان الدول الافريقية والدول التي تحكمها نظم يسارية معادية للاستعمار, مثل كوبا وفنزويلا وغيرهم تقف مع نظام البشير في التصويت بما ان المعارضة لا ولم تبذل جهدا مع هذه الدول التي تبني مواقفها علي مباديء القانون الدولي والرفض للاستعمار بكل اشكاله الصريحة والمستترة . ذهول بعض اركان المعارضة عن اشكليات تحالفاتها الدولية يقودها احيانا الِي تفاسير سريالية تري ان الاختراقات التي حققها النظام تمت عن طريق مقدرته علي رشوة صانعي القرار في عشرات الدول الافريقية , وهذا منطق فيه من الجهل والطفولة بقدر مافيه من الاسىاءة العنصرية والتنميط الذي يري ان صانع القرار الافريقي متاح للبيع علي نطاق واسع وعلي اعلي المستويات حتى من قبل دولة تشكو من قلة الفئران في مطبخها.
من الفوائد المحتملة لهذه التغيرات الدولية التي تصب في مصلحة الحكومة انها قد تكشف وتضع حدا للوهم الرغبوي الذي سوقت له بعض مكونات المعارضة علي مدي ثلاث عقود بتصوير ان عزلة النظام الدولية اتت من ضمن انجازاتها الدبلومايسة ونتيجة لعملها السياسي في الخارج . فكل مافي الامر ان الغرب أو ما يسمي بالمجتمع الدولي قد دخل في عداء مع نظام الاخوان لأسباب تخصه وحده وتتعلق بمصالحه واستراتيجياته الدولية والاقليمية. ومن ثم فقد قام هذا "´المجتمع الدولي " باستغلال المعارضة السودانية لتمرير أجندته في السودان واعطاءها مشروعية ديمقراطية وغطاء انساني الِي ان ان تم فصل الجنوب , وتم تمزيق النسيج الوطني في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق والِي ان تم ارساء جذور الكراهية بين المجموعات الاثنو-ثقافية في السودان كما تم رفع العيب والحرج عن الثوريين القدامي والجدد من التفاخر بعلاقاتهم مع محاور الاستعمار القديم والحديث المعروفة . ومن الجانب الاخر فقد أحتفلت المعارضة بزواج المتعة مع " المجتمع الدولي" وتبنت عداءه مع النظام كانجاز خاص من عبقرياتها بما انها لا تملك انجازات اخري حقيقية تبرر بها وجودها علي القمة وعلي موائد الحوار والحل والعقد وتقارير المصير .
يمكن استغلال الانقلابات الاخيرة في العلاقات الدولية اذاء النظام لاعادة النظر في افة الانجوة - -NGO-ization التي اصابت العمل السياسي السوداني في مرحلة التعويل العظيم علي الخارج . كانت هذه الانجوة وما زالت نوع من الايدز السياسي الذي قضي علي المناعة الوطنية ومواريث التحرر التي راكمها العمل الوطني السوداني عبر العصور . فبعض هذه الحركات والافراد ومجموعات المجتمع المدني كنبات القرع لا تمد جذورها إلا نحو الخارج , ولا تبذل جهدا مماثلا في الداخل لتنظيم وحشد الشعب ورفع وعيه للدفاع عن مصالحه امام سلطة غاشمة . وقد كان اداء بعض هذه المجموعات , بمزايداتها وابتزازتها وبالا علي خطاب الوحدة الوطنية والتضامن الانساني بين أهل السودان , وخصما علي العمل الوطني المستقل والمتجرد. كما انها سحبت مركز ثقل العمل السياسي من تحت اقدام قوي اكثر استقلالا ووطنية ومبدئية برغم أخطائها ومشاكلها وبذا تم وضع جل كروت اللعبة السياسية في ايدي قوي خارجية متحالفة مع كمبرادورية داخلية تدعي الثورية والنضال ضد العنصرية في السودان وتنغمس في نفس الوقت في تحالف مع دول عنصرية يموت فيها الانسان ويطرد من حارة سكنه فقط لانه اسود , وهي نفس القوي الدولية التي ساندت نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا حتى اخر لحظات سقوطه. ولكن قادة الكمبرادورية الجديدة لا يتحدثون كثيرا عن زياراتهم المتكررة لمراكز القوي في الدول الأكثر عنصرية , اذ انهم يفضلون السيلفي والثرثرة التي لا تنتهي عن زياراتهم لجنوب افريقيا وتمرغهم في رمس مانديلا ورفاقه العظماء , فقد رأوا ان الصلاة خلف مانديلا أقوم لكن مائدة اعداءه من داعمي الفصل العنصري أدسم.
من المؤكد ان رفع العقوبات الاقتصادية يفتح قنوات التبادل التجاري والاقتصادي بين السودان وبقية العالم باعادة العلاقات المصرفية التي تسهل تصدير واستيراد السلع ومدخلات الإنتاج وبعض الادوية والأدوات الطبية بالغة الأهمية. كما ان رفع العقوبات يعزز من فرص التعاون مع مؤسسات تمويل هامة ويفتح الباب للاستثمار الاجنبي. فعموما العقوبات نتج عنها استحالة الحصول علي ادوات ومدخلات انتاج اساسية ومعاملات مصرفية من المصادر الأساسية لهذه الخدمات و السلع التي كانت سوف تتعرض لعقوبات من امريكا لو تعاملت مع السودان حتى لو كانت هذه المصادر اوروبية أو يابانية .
فكان علي المنتج السوداني الالتفاف حول العقوبات الأمريكية من خلال انشاء شركات وهمية في دبي أو غيرها أوان يقنع بـبدائل اغلي أو اقل جودة . وفي الحالين , المحصلة الاخيرة هي ازدياد تكلفة الانتاج وانتقال منحني العرض الكلي يسارا ليستقر الاقتصاد الكلي في توازن بـمستوي أسعار اعلي ومستوي عطالة اكثر اتساعا وفقر اشد حدة .
ولكن كل هذا لا يعني ان رفع العقوبات سوف يقود الِي انفراج سريع في الضائقة المعيشية. فكما قال دكتاتور لاتيني , فانه من الممكن ان يكون "الاقتصاد" في تحسن ولكن أحوال الشعب ليست كذلك . فبعيدا عن التوازنات المهمة في الميزان الداخلي والخارجي , فان أي تحسن عام في مستوي رفاهية الشعب رهين بـتوفر فرص عمل اكثر وان ترتفع الأجور أو ان تنخفض الاسعار , ومن المؤكد ان هذه الشروط لن تتحقق في المدي القصير. أما علي المدي المتوسط فان تحسن الظرف المعيشي رهين بتطبيق سياسات اقتصادية رشيدة قادرة علي الارتكاز علي رفع العقوبات لإصلاح بيئة الاقتصاد الكلي وتشجيع الاسثمار بالسيطرة علي التضخم وايقاف انهيار سعر العملة وانهاء الحروب الأهلية والقضاء علي الفساد والصرف البذخي والرشوي علي جهاز الدولة المتضخم باجهزته الأمنية ومليشياته المكلفة . ولكن من الصعب تصور ان هذه الحكومة قادرة علي أو راغبة في احداث هذه التحولات الجذرية التي من شأنها ان تحدث تحولا اقتصاديا ايجابيا . فهذا النوع من السياسات المطلوبة يحتاج الِي درجة من المسؤولية والوطنية لا تمتلكها هذه الحكومة التي تتلخص أولوياتها في الحفاظ علي سيطرتها علي جهاز الدولة واثراء منسوبيها وافقار وتحجيم خصومها الفاعلين والمحتملين . من غير الممكن ان تتحسن فرص العمل والأجور وتستقر الاسعار بدون استثمارات كبيرة في قطاعي الزراعة والصناعة , ولكن من غير المتوقع ان تتحقق هذه الاستثمارت بالمستوي المطلوب حتى في المدي المتوسط , وذلك نسبة لسوء البيئة الاستثمارية وتقلبات الاسعار وسعر الصرف , وعدم الاستقرار السياسي والسياساتي. فمن الممكن تدفق استثمارات اجنبية ولكنها لن تكون في قطاعي الزراعة ولا الصناعة , فلو اتت مثل هذه الاستثمارات الاجنبية فانها سوف تتركز في قطاعات التعدين والبترول , وهذه قطاعات كثيفة التكنولوجيا وراس المال ,تتجه للتصدير ولا توفر عمالة ومداخيل علي مستوي واسع وبالتالي لن يجني منها المواطن العادي شيئا فكل مكاسب رفع العقوبات حتى لو كانت مهمة فسوف تتركز في ايادي قليلة ولن يتم تعميم هذه المكاسب علي مستوي واسع . عليه فان رفع العقوبات الأمريكية , رغم انه قرار سليم يخفف من الضغوط علي بعض قطاعات المهمة في الاعمال, والتعليم والصحة والتكنولجيا إلا انه لن يقود الِي تحسن ملموس في الاوضاع المعيشية العامة ولا حتى في المدي المتوسط في ظل استمرار هذا النظام.
في المدي القصير والمتوسط الاحتمال الاعلي هو ازدياد معاناة المواطن, اذ انه من المرجح ان يقوم النظام باستغلال رفع العقوبات كحافز ومبرر لتطبيق وصفة صندوق النقد الدولي التي تم الاعلان عنها في سبتمبر الماضي بالادعاء بان ترجمة رفع العقوبات الِي مكاسب اقتصادية ملموسة يستوجب اجراءات جذرية و"شجاعة" لاعادة توازن واستقرار الاقتصاد السوداني . فقد زارت بعثة من الصندوق السودان واجرت محادثات مع الجهات المعنية في الحكومة , وفي الختام أصدرت البعثة بيان صحفي يحث علي تخفيض الصرف الحكومي برفع ما تبقي من الدعم , وبالذات الدعم لمصادر الطاقة . وهذا يعني ان أسعار المحروقات والكهرباء مرشحة للارتفاع في الوقت الذي تقرر فيه الحكومة تطبيق توصيات الصندوق والذي هو ات بلا ريب . كما طلب الصندوق زيادة الايرادات الحكومية . وهذا يعني ان الضرائب والرسوم والجمارك علي كافة السلع والخدمات سوف ترتفع. مما يعني ان تكلفة المعيشة سوف تزداد لتتفاقم معها معاناة المواطن. وايضا طلب الصندوق بـالمزيد من المرونة في سعر الصرف , وهذا يعني تحرير اما تحرير سعر الصرف أو التخفيض المتواصل لقيمة الجنيه في سباق محموم مع السوق الأسود أو الموازي ولذلك فان قيمة الجنيه مرشحة للانخفاض مقابل العملات الاجنبية , فحتى لو تحسن سعر صرف الجنيه في الايام القادمة مع تلاعب تجار العملة بـنشوة رفع العقوبات العابرة إلا انه من المؤكد ان الجنيه سوف يعاود الترنح بعد شهور قليلة وربما اسابيع. كل هذا يشير الي ان معدلات التضخم العالية سوف تواصل في الارتفاع مع ارتفاع أسعار كل الواردات التي تقود ايضا الِي ارتفاع اسعار السلع المنتجة محليا.

من المؤكد ان قرار مجلس حقوق الانسان وقرار رفع العقوبات الاقتصادية سوف تؤثر علي حظوظ بعض مجموعات المعارضة التي تمد جذورها الِي الخارج ولكنهما لا يغيران الكثير في مآلات ومعادلات المواجهة المستمرة بين النظام والشعب ولا يعززا من فرص النظام في البقاء علي سدة السلطة . فالمعارضة, في صراعها مع الحكومة , لم تكسب الكثير من سنين العسل مع المجتمع الدولي والنظام ايضا, ولنفس الاسباب , لن يكسب الكثير من زواج المتعة مع المجتمع الدولي .

يقال ان كل ازمة هي ايضا فرصة . فما يبدو وكأنه انتصار سياسي للحكومة يتمثل في قرار مجلس حقوق الانسان ورفع العقوبات الأمريكية هو ايضا فرصة للمعارضة لاعادة التموقع وتجديد التأسيس بـالقراءة النقدية لميراث ثلاث عقود من الفشل المستند علي الانجوة والبندقية المدعومة من الخارج , والحشد الاثني والجهوي وتقزيم دور العمل الدؤوب مع وبين الجماهير علي الطريقة القديمة والمجربة وبطرق جديدة مبتكرة تراهن علي الشعب أولا واخيرا .
elagraa@gmail.com

 

آراء