شَيّع مواطنو مدينة نيالا صباح يوم السبت 23 سبتمبر 2017 آخر نبلاء دارفور المقدوم أحمد عبد الرحمن رجال عن عمر ناهز التسعين عاماً (2017-1927) سخّرها في خدمة أهله ووطنه، ونذر جُلها في تسهيل الأمور وتقديم الخدمات الإدارية لكلِّ أهالي السودان. ولإن ورث الحكمة من آبائه، فقد صقلها بالتأهيل الأكاديمي في كلية غردون والتدرُّج في السلك الإداري من مرتبة ضابط إداريٍّ متنقلاً في جنوب السودان، الشمالية، إلى أنْ وصل مرتبة مفتش لرئاسة محافظة شمال دارفور. تسلّم المرحوم مقاليد المقدومية بعد وفاة أخيه الزين عبدالرحمن وسلّمها لابن عمّه صلاح الدين محمد فضل، إثر خلاف نشب بينه وبين الوالي آنذاك الحاج عطا المنّان، والذي كانت لديه القدرة والمرونة للتمشي مع سياسات المركزية الرامية إلى استهداف شعب دارفور وتفنيد السلطة السيادية لشعب الفور خاصّة.
وإذ غيَّبت المناهج المدرسية تاريخ هذه الأسرة المجيدة وسيرة أولئك الرجال الأفذاذ، فقد ساعدتني الصدفة، الواقع الاجتماعي، ولاحقاً الشغف العلمي، للتعرُّف على أكثرهم، وما زلت أبحث عن سير أهل السودان وأنقب عن سيرة الأكابر الذين تعمَّد المؤرخون السودانيون إخفاء جليل أعمالهم أو تزويرها لصالح هوس أيديولوجي أو حقد أو مُجرّد غيرة شخصية من فئة كانت القوي التقليدانية معتزة ومعتدة بها.
أقام المرحوم يحيى الفضلي ندوة، في إحدى أيام الانتخابات التي تلت الاستقلال، عند أهلنا السروراب واستحثهم للتصويت لصالح القوي الحداثوية أو التقدمية وكاد يؤلبهم على الإدارة الأهلية، بل ألَّبَهُم على الناظر سرور رملي، وقال لهم باللفظ "هؤلاء أعوان المستعمر." لم يفعل الناظر المخضرم والرجل الحكيم إلّا أنْ طلب إقامة ندوة في اليوم التالي وفي نفس المكان، وقال للأهالي "صَحِي نحن عاونا المستعمر لإدارة أهلنا، لكن الباخرة الجابت المستعمر دا كان سايقها أبو يحيى الفضلي التشوفو عينكم"! إذا كان يحيى الفضلي سليط لسان، فقد كان سرور رملي صاحب البيان. والحمد لله الذي أطال عمرنا ونوّر بصائرنا حتّى رأينا بأعيننا الدمار الذي فعله ادعياء التقدمية، وما آل إليه أمرهم، لا شَمّت الله فيهم عدوٌ ولا أبقى لهم صديق. هكذا حاله مع أصحاب الأغراض.
استبقاني والدي يوماً لخدمة الناظر سعيد مادبو، إذ كان متوقِّعاً ضيوفاً أجلاء من أهل دارفور - ناس الفاشر بالتحديد- لم أبدِ تذمّراً، لكنني كنت أنتظر على مضض إلى حين انتهاء اللقاء إذ كان اليوم خميس وأخر الأسبوع الذي ننتظره نحن طلبة الثانوية بفارغ الصبر. لم يكد الحوار بين الرجال الثلاثة، الناظر، والرجلين الفاضليْن، ينداح، تعلو نبرته وتنخفض، تنفعل همته وتبتعد، حتّى اكتشفت أنّ تلكم اللحظة كانت من أقيَّم لحظات حياتي البحثية وأثراها وجدانياً. قال أحدهم موجهاً الحديث للناظر سعيد، وكان مُسِّنناً جدّاً، إنّه حضر مقتل السلطان على دينار. وأسترسل في الحديث شارحاً تفاصيل المعركة ومُعقباً على بسالة السلطان ومُعجباً بشجاعته وعظيم استشهاده. ليس أوثق من شهادة هذا الرجل، والذي لا أتذكر اسمه ولم أجرؤ على السؤال، لكنني ما زلت أتذكر حديثه جيداً لكأنه بالأمس. فقد قال إنّه كان مُلازماً للسلطان في تلك الحملة وإنّه شهد ضربة الفاشر بالطائرة وخروج السلطان في حشد كبير ضم أربعة عشر من أبنائه مدججين بالسلاح، ونسائه وخدمه وحشمه وقليل من جنده الذين تفرّقوا أيدي سبأ عندما أيقنوا بهزيمة السلطان.
تحدّث الرجل بُحرقة (حسرة) عن مكر الآدميين وتقلُّب الدهر ووصف تعرُّض الموكب للنهب من قبل الأهالي، حتّى إنهم شرعوا في سلب الميارم أغراضهم وتجريد أفراد الموكب من كُلِّ شيء ما عدا أسلحتهم. كُلُّ ذلك والسلطان يعاين وقبل أنْ يلقي نظرة أخيرة على فاشر(أبو زكريا)، كان القصف قد ازدادت كثافته، كثر الهرج والمرج، وأيقن الكُلُّ من زوال المُلك وخراب المدينة التي اتّضح من بعد أنّها لم تكن آمنه من جراء العدل، إنّما بفعل الجبروت ومستندة على أفانين البطش.
لم يخرج السلطان مسافة بعيدة حتّى لحقه جيش المستعمر، فقد كانت أعين الجواسيس له بالمرصاد، وكان الجند الذين سرعان ما تبدّلت ولاءتهم متحفزين لأخذ الجائزة المرصودة لمن يأت برأس السلطان. لكن رأس السلطان كان عزيزاً، فقد كان عازماً على المقاومة، فما إنْ رأى الجند قادمين حتّى أخذ بندقيته وتأهّب ركوب الجواد واضعاً رجله اليسرى على الركاب. لم يمهله المستعمر مهلة لوضع رجله اليمني، فقد بادر بإطلاق رصاصة أصابت رأس السلطان، ولكن أحداً لم يوقن باستشهاده حتّى وقع على الأرض. هرع إليه ملازمه – المتحدّث في تلكم الجلسة – ورفع رأسه ووضعها على وركه (فخذه)، فلم يلبث السلطان قليلاً حتّى خرجت روحه وفاضت نفسه إلى بارئها. تحرّك الجند لتجريد أبنائه من السلاح، شدّ وثاقهم، وحشدهم في الطريق إلى الفاشر، التي كانوا فيها بالأمس حاكمين وأصبحوا فيها اليوم محكومين، بل مضطهدين ومهانين.
يجب أنْ يتمّ تناول تاريخ السلطان على دينار خاصّة، بصورة نقدية، لأنّنا حتّى الآن اكتفينا بالمنحى التبجيلي الذي لا يساعد في كشف مواضع الخلل في بنية النظام السياسي والاجتماعي الدارفوري. كثيراً من التشوُّهات التي نشاهدها اليوم هي انعكاس لإمراض كامنة تسبّب فيها علي دينار ونظامه الاستبدادي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا يسمح المجال هنا لتناول هذه القضايا، لكننا ننوِّه إلى أهمّية التعاطي العلمي، وليس العاطفي مع الشأن التاريخي.
سأل الناظر سعيد مادبو جليسه عن أبناء السلطان الأربعة عشر وتعجّب كيف لم يستطيعوا أو يحاولوا الدفاع عن والدهم رغم أنّهم كانوا مدججين بالسلاح وراكبين على ظهور الخيل. كان ردّ المتحدث صاعقاً، فقد قال للناظر سعيد مادبو إنَّ أولاد السلطان تربّوا بجلي (يعني أنّهم كانوا مُدلعين)، كما كان يأنف عن إرسالهم مع الجيوش. كان اعتماد السلطان كثيراً على أبناء عمومته من القادة أمثال القائد آدم رجال، أو الشجعان الآخرين، أمثال رمضان بورا. رمضان هو القائد الذي انتدبه السلطان لتأديب الرزيقات، فأبلى بلاءً حسناً، لكنه هُزم هزيمةً أطمعت الإنجليز في ملك سيّده، الذي لم يتحرّك حلفاؤه (الألمان والأتراك) لنصرته فبات مكشوف الظهر. لم تمض شهور على دوسة رمضان بورا حتّى تحرّك الإنجليز لدكِّ آخر حصون الوطنية وأفخم معاقل الاستبداد.
إنّ حماقة السلطان تلك هي التي أودت بمُلكه، إذ سولت له طموحاته التوسعية نقض عهده الذي أبرمه فور رجوع أهل الغرب من أمدرمان، مع الرزيقات. رغم التزام الرزيقات بعهدهم وموافاتهم السلطان بكافة أنواع الطلبات من خيل، سمسم، عسل، وريش نعام ، التي هي أشبه بالجزية وقد تحمّلوها إذ كانوا في لحظة ضعف حال رجوعهم من أمدرمان. إلاَّ أن السلطان ظلّ يتحجج بكافة أنواع الحجج، حتّى أنه قدّم شروطاً تعجيزية شملت إرسال رزيقيات ضمن الهدايا التي تُرسل له سنوياً. كما طالب بتسليم المعاليا، والذين كان يعتبرهم من ضمن رعاياه، بل أسوأ، فقد كتب إلى السلطان موسي مادبو يستحثّه، بل يأمره أنْ يعيد له "عبيده" (العبارة كما وردت في المخطوطة، رَجِّع لي "عبيد أبوي"). ورث الأمير جعفر علي دينار هذه النظرة الاستعلائية لشعوب دارفور وكان كثيراً ما يكرّر هذه العبارة في حقّ بعض خشوم الرزيقات، التي اتهمها بسرقة المال، أي البهائم والنياق، التي كانت موكلة برعايتها، عند خراب الفاشر.
استشار السلطان موسي مادبو الرزيقات في إرسال فتيات (كي يستفزهم ويعرف مدي قابليتهم للتضحية)، أقزعوا له في القول وأنفوا حتّى قال له أحدهم: يا موسى، لو بي أَّمك بتدَّها للسلطان أدها، إلا انحن عيين أبينا بيهن. أيقن موسي مادبو حينها بأنّ الحرب لا محالة واقعة وأنّ أي سبيل لتلافيها يعني تشجيع السلطان لإغارتهم في عقر دارهم، وقد كان. بيد أنّ استماتة المدافع عن أرضه وعرضه، مقرونة بالدعم العسكري الذي تلقّاه الرزيقات من الإنجليزي في شكل ثلاثمائة بندقية، قد ساعد في رجحان الكفة. هذه الخَلفية التاريخية مهمّة جدّاً إذا أردنا أنْ نعرف الدوافع والتبعات لكثير من الحزازات والكراهية والأحقاد التي تعتمل في قلوب كثير من الأفراد الذين يخوضون المعترك القبلي اليوم دون الانتباه إلى الأيادي الخفّية التي تُدير الأحداث، بل تركيز جهودهم في المحاولة لإفناء الخصم الماثل أمامهم.
وإذ لم يعد هنالك مجالاً لأيِّ أطماع توسعية فقد ظلّت مسألتيْ الحقّ السيادي وحُرّية الانتفاع من الأرض، مسألتيْن مهمتيْن، لا تخبو نار الفتنة التي يسببها التنافس حول الموارد والهُوِّية وتنخفض، حتّى يأتي طرف لإرباكها غير آبه بحجم الأضرار التي يحدثها في حاضر الأجيال ومستقبلها. لقد تجاوزت النخب القبلية/القيادات الأهلية، ومن بعدها النخب السياسية الدارفورية، هذا الأمر بحكمة عالية تمثّلت في رجوعهم للمواثيق والتزامهم بالعهود التي أُبرمت في غابر الأزمان.
هناك حيثيتان تبرهنان على زعمي فيما يتعلّق بالحقِّ السيادي وحُرّية الانتفاع على التوالي. الأولى، عندما نجح المستعمر في غايته وأحسّ باستتباب الأمر، أحبّ أنْ يكافئ القبائل أو الأشخاص الذين تعاونوا معه في حربه ضدّ "الأوباش" أو "الدراويش". في أول اجتماع له بقيادات مجلس عموم البقارة، والذي كان يرأسه الناظر إبراهيم موسى مادبو، اقترح المفتش الإنجليزي آنذاك تعيين الزيلعي (شايقي) مقدوماً لنيالا. لم يمهل إبراهيم موسى مادبو (خشم الباحث) الخواجة فرصة لإكمال حديثه، وقاطعه قائلاً: نحن ما بنعرف مقدوم لنيالا خلاف المقدوم عبد الرحمن آدم رجال.
آدم رجال هو القائد العظيم الذي خاض زهاء المائة معركة، لم يخسر فيها غير معركتيْن. هذا كله، لم يشفع له عند السلطان الذي اتهمه بالتآمر "لقلب نظام الحكم"، وسجنه حتّى مات متأثراً بالجوع، إذ أضرب عن الطعام فقد استنكف أن يتهم، وهو مَن هو، في الإخلاص والوفاء وعظيم الأداء. لا تنسي أنه ابن خالة السلطان على دينار ومتزوج بأخته. لكن السلطان كان عظيم الشكّ، كما كان يغار من الرجال العظام.
أقرّ المفتش رأي الناظر مادبو، إذ أحسّ بإجماع أهل المجلس، ولم ير داعٍ للإصرار على رأيه، إذ كان بمقدوره ذلك، لا سيما أنّ المجلس كان يدين بالولاء للإدارة البريطانية الجديدة، ومخلصاً يعرف كيف يحافظ على مصالح أهله. لقد نجح الحاج عطا المنّان في ما فشل فيه الخواجة، كما سنرى لاحقاً، لا لأنّه كان أدهى وأقوى من الإنجليز، بل لأنّه لم يكن حريصاً على وئام أهل دارفور، قدر حرصه على فرض السيطرة. وهنا يتبيّن الفرق بين منهج الخواجة في الحكم (Divide to Rule)، ومنهج الإسلاميين (Divide to Destroy). رفض المقدوم أحمد وقاوم قدر جهده محاولة الحاج عطا المنّان المساس بحقِّ الفور السيادي على أرضهم، واستنكف من حاكم منوط به حفظ الأمن والاستقرار، أنْ يسعي للعبث بمكونات منطقة عريقة مثل دارفور، جنوبها خاصّة، والاستهزاء بإرثها. فعل الحاج عطا المنّان ما فعل مدفوعاً بفلسفة الجبهة الإسلامية القومية، التي أقرت فكرة "الهندسة الاجتماعية"(أو التلاعب الديمغرافي) منذ اليوم الأول وسيلة لاستنقاذ دارفور من أيدي " الطائفية."
تمثّلت الخطّة في اختلاق مشكلة، أو افتعال واحدة موجودة أصلاً، للاستحواذ على أراضي الزرقة، الفور والمساليت، وإيلاء هذه المهمّة لعرب مستجلبين أو مستحدثين، لأنّ المشكلة، أي مشكلة مهما استعصت فستجد سبيلها إلى الحلّ طالما هي ناشبة بين مجموعات أصيلة وناشئة في هذا الكيان الدارفوري– فالتحالفات التاريخية بين الفور والعرب لا يمكن تجاوزها أبد الدهر. وقد رأينا أنّ دارفور قد مرّت بظروف قاسية استطاعت تجاوزها بالحكمة. وهذا ما تخشاه العصابة، ولذا فهي تسعى لاستبعاد أصحاب المصلحة الحقيقين وتعتمد آخرين بمقدورهم أنْ يحقّقوا لها مخطّطها.
ذهبت إلى تعزية السلطان سعد عبد الرحمن بحر الدين عام 2005م بعد الخريف مباشرة، فلما انتصف الليل اصطحبني في عربته وذهبنا إلى قصر والده، فرأيت سعداً مهموماً، وألهاني همّه عن المنظر البديع، فالقصر يطلّ على الجنينة، التي تستحي خضرتها وتتمنع عن الإبداء، حتّى تفضحها القمرة. قلت لسعد: هل ساهم عربك وعربي في هذه الإبادة إذا لم نقل الخيانة؟ قال لي: يا الوليد العرب الذين خاض أسلافهم معركة دورتي مع تاج الدين، لم يفعلوا هذه الفعلة، بل تورعوا عنها أشدّ الورع. أكتفيت بهذه الإجابة، حزنت لأنّ الدولة التي من المفترض أنْ تحمي مواطنيها، استهدفتهم، بل جعلتهم هدفاً لمدفعيتها. فرحت إذ علمت أنّ أبناء عمومتي لم يحنثوا بالعهد، وما حدث هو محاولة إحلال قام بها النظام عندما استقدم آخرين للعبث بمكوّنات المجتمع الدارفوري.
وجدت صعوب في إقناع المقدوم أحمد (رحمة الله) بهذا الأمر، فعندما التقيته في هايدل بيرغ على هامش المؤتمر الذي عقده معهد ماكس بلانك للمساهمة في حلّ المشكلة بصورة منهجية وعلمية، كان متحمساً وغاضباً، وحقّ له، إذ رأي بعض النخب الدارفورية، من أصل عربي، تتحجج بحجج واهية وتتملص في محاولة لمجافاة الحقيقة. كانوا يتزرعون بإشكالات متعلّقة بالرعي وقد نسوا أنهم باتوا أو أصبحوا دُمية في ظلّ نظام له أهداف استراتيجية عليا لا تخفى على أحد. نظام يريد أنْ يدمّر دارفور ويدفعها دفعاً نحو الانفصال أو تدجينها بشراء "مثقفيها وممثليها البرلمانيين"، هؤلاء الخانعين المارقين الذين برعوا في تجيير إرادة الشعب الدارفوري وعبثوا بمثله وقِيمه. هم لا يمثلونه في كبريائه ولا دهائه.
كتب السيد/ عبدالحميد أحمد مقالاً بعنوان "بين كاتالونيا ودارفور" استهله بقول رئيس حكومة إقليم كاتالونيا، كارلس بوجيمون، الذي اعتبر أن الاستفتاء كان بمثابة فرصة لإعلان الاستقلال من جانب واحد، خاصة بعد الاستفتاء الذي حظرته الحكومة ممّا صَعَّد من وتيرة والعنف وأعدم كل قنوات الاتصال مع المركز. واسترسل شارحاً "على مدى التاريخ حافظت كاتالونيا على هوية فريدة مهما كانت خاضعة للتاج الأسباني منذ القرن الخامس عشر لكن النزاع المتصاعد نحو إحياء الشعور القومي الخاص نما في القرن التاسع عشر وتجدد ذلك الشعور وتصاعد أن يصبح حملة من أجل الاستقلال السياسي وحتى الانفصال." فهل أصبح من حق إقليم دارفور الآن الحصول على "دولة مستقلة"، علي غرار ما تقره الدولة السودانية من عنف وإفلاس يشبه ممارسات الاستيطان، حتماً ليس صيانة الأوطان؟
عندما آتته الفرصة للحديث، كان المقدوم يتكلم موجّهاً خطابه للعرب الموجودين في القائمة: يا عرب هوي أرعوا العهود، ياعرب أرعوا العهود!!. وأنا أقول في نفسي أي عرب وأي عهود؟ هؤلاء لم يحضر أسلافهم أي معركة من معارك التحرّر الوطني، ولم يكونوا يوماً جزءاً من المتشكّل الوجداني، فأنَّى لهم أن يُراعوا أو يَرْعُوا؟!
كانت هايدل بيرغ (حديقة العشاق باللغة الألمانية) فرصة للتعرُّف على المقدوم عن قرب والتحدّث معه عن كثب في أمور غاية في الحساسية. كان فيما قال لي يوماً وظلّ يشرحه لي دوماً إنّ أرض دارفور تِرْحَابة وأنه يعي، بصفته ضابطاً إدارياً أو زعيماً إدارة أهلية، حوجة بعض القبائل للاستقرار وحوجة قبائل أخرى لنيل نوعاً من الاستقلالية، بيد أنّه كان يرى أنّ ذلك يتمّ وفق آلية ومرجعية متعارف عليها، ليس كما تهوى الإنقاذ ومجالسها الأمنية. لأن ذلك يورث أهل دارفور غبناً يعُطّل إمكانية الانتفاع من الأرض بصورة تحدث تواصلاً وإخاءً إنسانياً؛ لا يمكن لتنمية أنْ تحدث، ناهيك أنْ تستدام من دونه.
لقد استقبلت قبائل الفور والمساليت قبائل عربية عديدة، واستضافتها قبل قرون، إذا لم يكن باسم الإخاء الإسلامي، فبدافع الاستقواء وتبادل المنفعة. لقد رحّبت المقدومية ، مثلاً، بقبيلة الفلاتة عند مجيئها في مطلع القرن الماضي، واستقطعت لها أرضاً، دون أن يكون هناك نفور أو جفوة إلا فيما أحدثته الأيام. حتّى أنّ المرحوم قال لي إنّ صُرته مدفونه في بيت ناظر الفلاتة الحالي، وأنّه وُلِد في تُلُس قبل أنْ يرحل والده بأسرته إلى الجنينة.
كانت النخب القبلية تعي أنّ قوّة دارفور تكمن في تنوّعها، كما كانت النخب السياسية تدرك أنّ التحالفات والتفاهمات قادرة على حفظ هذا التنوّع وازدهاره. أكّد لي العمّ أحمد إبراهيم دريج (أطال الله عمره)، وذكر لي ذلك مراراً في لقاءات لنا تفاكرية بلندن (إنجلترا) وسينا (إيطاليا). بل مازال العم أحمد إبراهيم دريج يوقن بأنّ دارفور، إذا أُعطيت المجال، فهي قادرة على امتصاص الصدمات مهما بلغت قسوتها، وإنّ شعب دارفور عبر ممثليه الحقيقيين (وليس الإنقاذين أو الطائفيين)، بمقدوره التجاوز والتخطيط لمستقبل زاهر.
ما زال دريج يُعَوِّل على آل مادبو في القيام بدورهم لقيادة الرزيقات والعطاوة عامّة ويقول بأنّ هذه الأسرة تملك من الحكمة والحنكة والحسّ العدلي، ما يؤهّلها لكبح جماح الأعراب وصونهم من التفلت الذي يعود عليهم بالضرر، ويقول بأنّ رزيقات الجنوب فيهم من الروية والسؤدد وبُعد النظر ما يجعلهم أسوة للعرب قاطبة. فالرزيقات لم يُسمّوا سنكيت العطاوة من عبث، بل لأنّ لهم أدواراً فضلى في حفظ التوازن فيما بينهم ومع الآخرين (لقاء شخصي مع العُمدة محمود خالد، يوليو 2012). يحزنني أنْ تستكين هذه الأسرة، بل هذه القبيلة، لضباط (أمنيين) تافهين وهي تملك أنْ تثأر لكبريائها وكبرياء العروبة المجروح بتحريض الرزيقات والغرب كافة على مقاومة الفئة الباغية.
أعجب كُلّ العجب عندما أرى تملُّق بعضهم لقادة الإنقاذ وهم مَن هم، في البؤس والضِّعَة، وقد نسوا أنّهم سياد النُّقارة وأنّ أسلافهم قد قدّموا إلى هذا البلد في بادية لها خرير يستحثهم نحاس له شخير، فيما تسلل أسلاف هؤلاء ليلاً عبر الصحراء يستقلون المؤونة فيحملون أغراضهم في مُخْلاية إنْ وسعت الطعام لم تسع الشراب، وإنْ وسعت الشراب لم تسع الطعام. ولهذا فهم لا يشبعوا ولن يشبعوا من السرقة وأكل المال الحرام، وها هي البلد قد استبيحت بعد أنْ هيأ لهم إبليس (لعنه الله)المناخ بإزاحة كافة نٌظم الشفافية والمحاسبية، إذ كان أول قرارات الإنقاذ هو إلغاء لجنة المشتروات في المالية، إلغاء الأشغال و إغلاق النقل الميكانيكي. لم يكن الدمار صدفة، بل كان عملاً مُتعمّداً، لأنّهم ومَن حالفهم لا ينتمون إلى هذا البلد وجدانياً أو تاريخياً.
قد سعت الإنقاذ، كما المهدية من قبل، على استغلال الفراغ السياسي والاجتماعي لاستحداث قيادات بروس، بطل مفعولها بعد أنْ أفاق الشعب من الكابوس. لم تترك الإنقاذ لنا خياراً، إمّا أنْ نقتلعها أو أنْ نهلك. ولنا حينها موقفاً من المرتزقة واللصوص والمرتشين والقتلة والخونة الذين أساءوا إلى إرثنا وسعوا لمحو آثارنا. رأى الناظر إبراهيم موسى ببصيرته أنّ العرب إذا لم يساسوا سياسة حكيمة فسيدفعهم الطمع وغريزة البقاء للتغوُّل على حقوق الآخرين، فقال يوماً (منبهاً وليس معولاً): " أنا كان ما بعاين لأخوي عبد الرحمن آدم رجال، كنت حكمت دارفور قاطبة." يقصد من هذا الكلام ويفهم منه تنبيه العرب من خطورة المحاولة للتغوُّل على حقوق الآخرين، الفور خاصّة، ذلك أنّ الناس يزيدون وهم ينقصون. بمعني أنّ القبائل ستتكاثر على أرضهم بدافع الحوجة إلى المرعى، فينبغي اتخاذ التدابير المناسبة لحفظ الحقوق السيادية دون الإضرار بحقِّ الانتفاع المشاع. استشارتني الملحقية الثقافية في عام 2006م تقريباً في شأن التكريم لشخصيات دارفورية متميّزة من قبل البرلمان الإسباني، وما إذا كنت أرغب في ترشيح بعض الأسماء. لم أتردد مطلقاً، وقلت لهم حينها إن هنالك ثلاثة رجال لا رابعة لهم: الملك رحمة الله، الناظر سعيد مادبو، والمقدوم أحمد عبد الرحمن آدم رجال. هؤلاء هم نبلاء دارفور الذين حمل أسلافهم همَّها من المهد إلى اللحد، فحريٌّ بهم أن يسيروا على نهج آبائهم. ولا يقدر أحد على مكافأتهم فقد زهدوا هذه الحياة الدنيا، إنّما مجرّد الإقرار بالجميل الذي قدّموه لشعبهم واعترافاً بالوقفات التي وقفوها إبراءً لذمتهم وحفاظاً على سمعتهم الشخصية ومكانة أسرهم الوطنية. توفي الملك رحمة الله محمود، تبعه الناظر سعيد، والآن فقدنا آخر النبلاء وأول جيل الآباء المؤسسين، المقدوم أحمد (رحمه الله).
على الناشطين المدنيين والسياسيين والعسكريين الثوريين أنْ يتأسوا بهؤلاء الرجال في نكرانهم لذاوتهم، وسعيهم لجلب المنفعة والمصلحة لأهاليهم، بل وحرصهم على أنْ يفعلوا كُلَّ ذلك دون أنْ ينتقصوا من كرامتهم أو يستأثروا بخير يصيبهم دون الآخرين.
إنّ الإنقاذ لم تخلق مشكلة دارفور، لكنها إذ تعاملت معها بمنطق أمني، فقد فاقمت من حجمها وعقّدت إمكانية حلّها، إذ أصبحت مشكلة سياسية عويصة ذات أبعاد إقليمية ودولية. لم تنجح مشكلة دارفور في شيء قدر نجاحها في فضحها للدولة السودانية، والتي هي بالإضافة إلى إشكالاتها البنيوية، فهي دولة عنصرية في العمق، وروحها نتنة في الأصل. بإمكان المواطن أنْ يتعايش مع دولة فاشلة لا تستطيع أنْ تقدم له تنمية، لكنه مطلقاً لا يستطيع أنْ يتعايش مع دولة متحيزة لعنصر دون آخر. كيف لمواطن أنْ يتوقّع الإنصاف من قضاء مُتحيز، بوليس غير مؤهّل، ضباط إداريين هم عبارة عن فاقد تربوي؟ إنّ الوعود بجلب التنمية وإن جاءت متأخرة قد تروق لشخص يثق في الجهة المتحدثة، أمَّا إذا سقط شرط الكفاءة الأخلاقية، فإنّ الوعود السياسية والتنموية تصبح غير ذات جدوي.
كادت الوساطة أنْ تنجح لولا أنّ مجلس الثورة انتدب العميد/ عثمان أحمد حسن للمجيء إلى نيالا لحلّ المشكلة بين الفور والعرب. رأى سعادة العميد أنّ هذه مشكلة أمنية وأنهم قادرون على حلّها، بل بلغ به الصلف أنْ مزّق المسودة وأمر كُلّ شخص أنْ يذهب لحاله. بهكذا أسلوب أضاع سعادة العميد صلحاً حدّد له 2/7/1989م موعداً للإبرام، وبعثر جهوداً قام بها رجال أجلاء من أمثال العمّ الراحل سرور رملي، رئيس لجنة الأجاويد، المخضرم الأستاذ/ فؤاد عيد رئيس إدارة شؤون القبائل والرُّحل بوزارة الحكومات المحلية، القاضي المقيم الذي كُلّف بحصر الأضرار المادية الواقعة على الفور، كما الخسائر في الأنفس. لم ينظر هذا الضابط "العبقري" إلى تاريخ الاحتكاكات وجغرافية المسارات، ولم يراع أسس المعاهدات والأعراف المتبعة لمثل هذه القضايا، بل ذهب إلى أنها مشكله أمنية وهم قادرون على حلّها. كعادتهم العسكر بدأوا بفرض حلولاً عسكرية وجدت مقاومة شعبية، استفحل الخطب، وأزهقت الأرواح، فبدأت المقاومة، فالدولة السودانية عنصرية، وهي في كُلِّ الأحوال منحازة ضدّ الزرقة. الأخطر، إنّها تبحث عن حروباً تمول بها مشاريعها التجارية وتمول بها مخطّطاتها الاستعمارية الاستيطانية.
لقد أخلص النوبة إلى فكرة القومية حتّى أشاحت الدولة عن وجهها العنصري وهاهم يلوحون بكرت تقرير المصير. سيتبعهم آخرون. عندما بدأ التمرد في دارفور حذّرت القيادات القبلية الدولة من استخدام كرت العنصرية، ونوهوا إلى أهمّية التعامل مع التمرد كتمرد، وليس كحرب أثنية أو قبلية، بل تكفلوا بتجنيد كوادرهم وشبابهم لدرء الشبهة (حتماً ليس دحر التمرد) ودحض هذه الفرية. لم تكد قيادات المساليت والفور تستجمع قواها وتتفكّر في الأمر، حتّى كانت الطائرات قد بدأت في الضرب، تتبعها المدرعات، ومن ثم الأحصنة والجانويد، فكان الحريق. ممّا يوضح أنّ الأمر بُيِّت بالليل (حوار شخصي مع سعد عبدالرحمن بحر الدين، سلطان دار مساليت،2007م).
إنّ الفرق بين الإنقاذ والحكومات "الوطنية" الأخرى هو فرق درجي وليس نوعي. فقد سَلَّحت حكومة الصادق المهدي بإيعاز من فضل الله برمة ناصر العرب ضدّ الزرقة في دارفور وكردفان، وما زالت النخب المركزية تُعوِّل على تخويف المواطنين بالزرقة. لقد حذّرت مراراً وبَيَّنت خطورة التلاعب بهذا الكرت، لأنّه لا يفيد إلا في ازدياد المقاومة وتكثيف حدّتها.
لن تستطيع الدولة السودانية الخروج من المأزق الحالي إلاَّ بالتعويل على العنصرية، لأنّ أي تسوية وطنية شاملة وعادلة تتطلّب تنحي هذه النخب عن مواقعها التي نالتها بحكم الأقدمية، إذا لم نقل المحسوبية وهنا تكمن المعضلة. لا حلّ للسودان إلاَّ باقتلاع دولة المركز، وهذا الاقتلاع مؤلم لفئات عديدة. كيف يمكن تفكيك هذه الدولة دون أنْ يبدو في ذلك استهداف لجهة عرقية معينة؟ كيف يمكن للإصلاح أنْ يتم دون أنْ تكون هنالك عنصرية مضادة؟ هذا الموضوع يحتاج إلى فنّية، الأهم روح وطنية متجرّدة ومخلصة. إنّ الحلّ يبقي عويصاً خاصّة إذا علمنا أنّ قيادات دولة المركز ما عادت تعتمد في شرعيتها على الداخل. إنّما الخارج الذي له مصالح حيوية تتجاوز "حقوق الإنسان" ومبادئ أخرى ابتدعها الغرب ليهزم بها الاتحاد السوفيتي، وقد فعل. وها هو الغرب الإمبريالي تهمل المأساة وتتجاوز المحنة كي يطل برأسه على هضبة التبيثتي (المتكونة من جزء في شمال دارفور، جزء من شمال تشاد، وجزء جنوب ليبيا) الغنية باليورانيوم والذهب والبترول. يلزمنا أن نُعَوِّل على ذواتنا وألا نرجو نصرة من الآخرين، وأنْ نصلح ذات بيننا قبل فوات الأوان. فالغرب يريد الأرض ولا يمانع إنْ هي آلت إليه دون بشر.
ظللت أداوم على زيارة المقدوم، وأتفقد أحواله من حين لآخر، عند زيارتي لمدينه نيالا الجميلة،التي استحالت إلى مدينة كئيبة وحالكة كأنما الحزن سحابة تقبع فوق رؤوس ساكنيها. وما ذلك إلاَّ بسبب الظلم. كان المقدوم متألماً أشد الألم ومتحسراً لما آل إليه حال دارفور، وحزيناً لما يعانيه شعب الفور خاصّة من اضطهاد لم يتسببوا فيه، ولم يكسبوه أو يجنوه بأيديهم، إنّما بفعل المغامرين والطامحين المغرورين. كنت أطُمْئِن المقدوم إلى أنّه سيشهد ساعة النصر وستنفرج أساريره لما قد يؤول إليه أمر دارفور من ازدهار واستقرار. كان المقدوم واثقاً من زوال دولة الظلم، وكان صاحب كبرياء عظيم يمنعه من قبول أي شئي دون التسوية الوطنية الشاملة والكاملة، التي تردّ الحقوق لأهلها وتنتصف لهم من قاتليهم ومشرديهم. وإذا فات المقدوم حضور ساعة النصر فلن يفوت أبناؤه وأحفاده التربص بتلك الأمنية العظيمة، والسعي لتحقيقها.
لقد ورث المقدوم المكارم كابراً عن كابراً، لم يتخلّف عنها أحد من أسلافه والما عندو قديم ما عندو جديد. وإذ ظلّ هو راسخاً في مبدئه وثابتاً لا يهوله حصار أعدائه له، فقد كسب المعركة الفكرية والأخلاقية، ربما يبدو لشانئه أنّه كسب تلكم الميدانية، غير أنّ الأخيرة تتحكّم في صيرورتها عوامل عدّة قد لا تنفع معها الشكيمة أو العزيمة. كان أحمد معتداً بذاته في غير ما إثم، عارفاً لتاريخه في غير ما كِبر، ومترقباً للنصر في غير ما غرور، إنّما ثقة بالله الذي أبرمه عهده منذ الأزل وأشهد عليه رسله وملائكته ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ))(سورة الروم:الآية 47). ألا رحم الله المقدوم أحمد وأسكنه فسيح جناته وألهم آله وذويه الصبر وحسن السلوان.