بدوي مصطفى: رائد كارثة التعريب

 


 

 

 

لم يكن تكفير "المعهد العلمي" للشاعر الرومانسي الكبير " التجاني يوسف بشير " وحدها الكارثة الاستعرابية الأولى والتي حدثت في الثلاثينات ، ولكنها وقفة يتعين التأمل فيما ساقنا المآل لكيف استطاع " المعهد العلمي " وهو صاحب مصطلح المعرفة باللغة العربية والدّين ، من أن يُبسط سيطرته على العقول . ويبلي بلاء حسناً في تطويع الرأي العام في مصلحة برنامج الإخوان المسلمين . فمنذ رحيل حكم " خليفة المهدي " ، جاءت بعده الحداثة بمقدم المستعمر . وبقي " المعهد العلمي " يحمل جذوة شرارة العودة إلى الماضي وفرض التاريخ القديم بأدوات جديدة. ربما اختلف منهاج "المعهد العلمي "مع رؤى قصة المهدي أو المتمهدي وهو اختلاف مقدار ، تماماً كما هو الأصل في فكر " مؤسسة الأزهر الدينية ". لقد وقف الإنكليز أمام السلطة العربية الدينية للمعهد العلمي وقوف من لا يستطيع فعل شيء منذ الثلاثينات . وقد سبقت ذلك توصية " سلاطين باشا " أنه من الضروري عند غزو السودان الانتباه للإرث الديني . وبقي الحذر من العقيدة وهيمنتها من جديد ، ولكن بغير قراءة " راتب " المهدية ، وهو العقيدة الجهادية !.

(2)

من الغريب أن الأستاذ " بدوي مصطفى " لم يكن من خريجي " المعهد العلمي " ، بل كان من خريجي قسم الترجمة بكلية "غردون التذكارية ". انتمى للحزب الاتحادي ، ولكنه تبني الاتجاه العربي الإسلامي في منهج حياته ، بل فرضه على مناهج التعليم ، فكان رائد الكارثة الأولى التي أصابت التعليم ، حين تمّ تعريب مواد الثانوية العامة " الرياضيات والعلوم والجغرافيا " عام 1965 ، عندما تقلد سلطة التربية والتعليم في السودان. ثم ترك العمل السياسي وتبع العمل التجاري ، داخل السودان وخارجه.

(3)

لم يكن نظام 25 مايو هو الأول في سلسلة تبني منهاج تعريب التعليم العام ، كما يعتقد معظم منْ يتحدثون ، بل كان هو الثاني . وكان برنامج القوميين العرب ، هو العودة السريعة ، لمناهج مصر وعودتها لتسيد التعليم السوداني . فقد كانت مصر هي القدوة والمنارة التعليمية لأهل السودان ، وقد جاءت الفرصة للاستخبارات المصرية أن تعود عبر ملف التعليم ، الذي خرج من يد مصر بعد اغتيال السير " لي استاك " في نوفمبر 1924 بالقاهرة . وتم بناء عليه طرد القوات المصرية من السودان ، وبالتالي تم استبدال قبلة التعليم إلى إنكلترا بدلاً عن مصر .

ربما يستطيع أهل البحث العلمي أن يستدركوا تحليل منهاج " بدوي مصطفى " القاصد ، وهو يتقلب بين عودة التعليم لمرجعية مصر ، بدلاً عن إنكلترا ، وبين انتمائه لفكر الحركة الإسلامية في السودان .

(4)

رغم ثناء الكاتب الأم درماني الكبير" شوقي بدري " عن تاريخ السيد " بدوي مصطفى " في مقال كتبه عام 2015، فإني لم أنس الانقلاب والفوضى في نظام التعليم الذي سببه السيد " بدوي مصطفي " . فقد كُنا حينذاك في السنة الأولى الثانوية . وكيف تدفقت علينا الكُتب والمناهج المصرية بلا رويّة ، بديلاً عن المنهاج الإنكليزي . فكان القرار قد تخطى " بخت الرضا " ، تلك المؤسسة التعليمية التي تقوم بفحص وتجريب المناهج ، قبل اعتمادها كمنهج للتعليم العام .
أربك القرار الجهاز التعليمي ، ودخل أساتذة المرحلة الثانوية في قضية شائكة وحيرة بين منهجين . فحواها التنفيذ الجبري الناجز حتى لو بالمقررات المصرية ، إذ لم تكن هناك كتب دراسية بالغة العربية . فصار التعليم في زمن من الأزمان بعد قرار " بدوي مصطفى " : طلاب السنة الأولى والثانية بالنظام الذي ابتدعه " بدوي مصطفى " ، في حين طلاب السنة الثالثة والرابعة وفق نظام التعليم الإنكليزي .

كانت أياماً صعبة ، عبس فيها الحظ العاثر بطلاب المرحلة الثانوية ، وبدأت بالرحلة التي انتهت من المرحلة الثانوية عام 1969 .فتعثرت مسيرة اللغة الإنكليزية. ثم جاءت فترة حكم القوميين العرب بعد انقلاب 25 مايو ، فحققوا فترة التدهور الثاني في نظام التعليم العام .

لن يتميز " بدوي مصطفى " بأنه ساوى مرتبات أساتذة العربي والدين برصفائهم أساتذة الرياضيات والفيزياء ، وهو عمل منطقي نفذه ضمن منهاج تمييز اللغة العربية في منهاج التعليم العام ، وتعديل غلبة اللغة العربية لتكن وجها متميزاً لهوية أرادها " بدوي مصطفى " أن تصبح هي الغالبة!.

(5)

ميزة اللغة الإنكليزية في بلد كالسودان ،هو أن يصبح هوية مستعمر ، وقد تصبح هوية مُغايرة . لا تنتمي لقبيلة أو عرق أو لغة . يكفي أن المُستعمر ليس استيطانياً لتكون لغته هوية مُتعالية . بل ، وبعد رحيل المُستعمر السلمي ، أصبحت اللغة الإنكليزية شبه مُحايدة . لماذا فرض أصحاب الثقافة العربية الإسلامية أن تكون اللغة العربية هي اللغة الغالبة؟ . أليست هي ضمن مسلسل الهوية العربية الإسلامية ، بكل تداعياتها المُتمسكة بالغلو والتطرف كما هو بيانه حاضر في الحياة اليوم ؟.

وصرنا نبحث عن الاعتدال ، وهجران الجهاد الدموي ، في وقت سعى نفر لتكون اللغة العربية والدين منهاجاً غالباً ،ليضعوا بذرة صراع الهوية اللاحق . إذ أننا في عصر سيادة القناعات الديمقراطية ، التي تبحث عن الاقتناع ، غير ما هو سائد الآن : من فرض العربية وتابعتها العقيدة والوصول لمآلاتها التي ترفض وجهة النظر الأخرى. واللغة العربية هي من اللغات التي تحاول اللحاق باللغة الإنكليزية ، إذ تتخلف عنها حوالى قرن من التطور . صارت الإنكليزية هي لغة الكون الثقافي الاقتصادي ، الذي لا يعرف إلا العواطف التي تنقاد للاقتصاد والتطور والمعرفة .

(6)

تطورت الهند ، وهي بالتعقيد القبلي والعرقي والثقافي ، أكثر من أهل بلادنا . وحكمتهم " إدارة المُستعمرات ، وهي بالغلظة الاستعمارية ، وليست بالرقّة والنعومة التي يتبع لها منهج " وزارة الخارجية " ، التي حكمت السودان بخريجي " أكسفورد " و " كمبردج " الشباب . كانت الفرصة أمامنا لنختار لغة إنكليزية حيادية ،في الوقت الذي ذهب المُستعمر من بلادنا ، بدأ من " معركة كرري " وانتهى بالحاكم العام " سيمنز" حيث الاهتمام بالثقافة وابتعاث السودانيين للدراسة في إنكلترا " والدعوة لوحدة جنوب السودان . وحده " مشروع الجزيرة " أو مشروع القرن العشرين الذي قام باستثمار اثنين ونصف مليون فدان في زراعة القطن طويل التيلة منذ 1913 إلى أن غادر المُستعمر بلادنا وتركه لنا . عمِل في المشروع 4.5 مليون سوداني مع مجموعات هاجرت من غرب إفريقيا. وأنشأ سكك حديد السودان بطول يبلغ 5500 كيلو متر من حلفا إلى بورتسودان ، والجزيرة إلى " الأبيّض".

لذلك كان قرار الأستاذ " بدوي مصطفى " في تعريب مناهج " الرياضيات والعلوم والجغرافيا " عام 1965 وهو قرار فردي غير مؤسس ، كارثة حقيقية ! . أعطى الغلبة لهيمنة الهوية العربية الإسلامية ، الذي تم وقد لا يذكر سيرته أحد ، و لكنه مهد لطريق الهدم التعليمي على مراحله التي نشهد قمة انهياراته الآن، في مقابل الاستثمار في التعليم الذي يملأ العالم طولاً وعرضاً.

عبد الله الشقليني
31أكتوبر 2017

alshiglini@gmail.com

 

آراء