"الانسان ذئب الانسان" مقولة استخدمها الفيلسوف توماس هوبز، منذ القرن السابع عشر في وصف طبيعة العلاقة بين بني البشر. وقد وصف روجيه غارودي، هذه المقولة، بأنها أصل الشرور في العالم. ولا غرابة في أن يصفها غارودي بذلك الوصف، فهو مفكرٌ اشتراكيٌّ تحول إلى الاسلام، ولذلك فهو يرى أن الخير أصلٌ في البشر، وأن الشر عارضٌ فيهم، ولا بد أن يزول. ومعلومٌ أن هذه هي رؤية الأديان جميعها إلى بني البشر.
تعني مقولة هوبز، أن الانسان، يفترس أخاه الانسان. ومن الواضح جدًا، أن هذه النظرة المتشائمة، بل والمحبطة، ظلت تمثِّل، إلى يومنا هذا، توصيفًا صحيحًا لأحوال البشر. ويشارك هوبز في هذه النظرة المتشائمة إلى الانسان، ولكن بشواهدٍ كثيرةٍ وجديدةٍ، الفيلسوف البريطاني المعاصر، جون غراي، الذي يرى أن الانسان لا يختلف عن الحيوان، في أنانيته، وضراوته. وأن الصورة التي ظلت تُرسم له على غير ذلك، هي أقرب ما تكون إلى الأماني والأوهام، أكثر منها إلى الحقائق الواقعية المستندة على التجارب المعاشة، في التاريخ، وفي الحاضر. والمحزن حقًا، أن الواقع يؤيد ذلك. فلو نظرنا حولنا اليوم، لرأينا، رغم بلايين الكتب، والدساتير، ومجلدات القانون والحقوق، ورغم عشرات الآلاف من الجامعات، ورغم كل مظاهر الحداثة، ورغم ربطات العنق الأنيقة، والعطور الباريسية طيبة الشذى، والأحذية الجلدية اللامعة، والوجوه المصقولة، أن الانسان لا يزال يفتك بأخيه الانسان، فتكًا ذريعا. فقد مات في سيبيريا ملايين البشر، على يد الشيوعية. وقضى في العرب العالمية الثانية قرابة الخمسين مليون إنسان. كما هلك ملايين الفيتناميين على يد الآلة العسكرية الامبريالية الأمريكية، وكذلك مليوني كمبودي علي يد الخمير الحمر، وأكثر من مليون شخص في جنوب السودان، وما يقارب المليون في رواندا. يضاف إلى كل ذلك، ملايين ماتوا، ولا يزالون يموتون، كل يوم، في نزاعات، وحروب، لا تنفك تشتعل في إفريقيا، وفي الشرق الأوسط، وغير ذلك من بقاع العالم. إذ لا يطل صباحٌ جديدٌ، إلا وتصدّرت النشرات أخبار الموت الذي يجري في كل مكان تقريبًا. فالضراوة هي السائدة وليس المودة والمرحمة. ولو تأملنا كل ذلك بعمق لوضح لنا أن الربح والثراء الشخصي هو ما يقف وراء كل ذلك. فالإنسان لا يزال، كائًنا متخلفًا. ومن العبارات الملفتة، التي سمعتها من الأستاذ محمود محمد طه، قوله: إن الحياة البشرية تقدمت كثيرًا، ولكنَّ النفس البشرية لا تزال متخلفة. ولعل تخلف النفس البشرية هذا، هو ما جعل هوبز، وما جعل جون غراي وأمثالهم، يعتقدون أن الافتراس طبيعةٌ أصيلةٌ في البشر. لقد وصفت الماركسية الفكر الديني والجزء الأكبر من الفلسفة الغربية، بالمثالية. غير أن من الممكن، اليوم، أن يجري وضع الماركسية في إطار الفكر المثالي، بقرينة رسم الأماني المزدهرة، ونسج الأحلام الوردية، التي لا تتحقق في الواقع. فالرأسمالية التي تمثل رؤية هوبز ركنًا ركينًا فيها، هي المسيطر اليوم، بلا منازع على مفاصل الكوكب. فقد زحفت حتى وصلت الأصقاع النائية المنعزلة وأدخلتها في منظومتها الأخطبوطية. أكثر من ذلك، نجد دول الكتلة الشيوعية السابقة، والصين، قد عادت أدراجها، لتسلك طريق التطور الرأسمالي. بل، ولتصبح جزءًا من منظومة الرأسمالية المعولمة، وجزءً لا يتجزأ من ترسانة أسلحتها الاقتصادية، في الهجوم على الدول الفقيرة، بغرض نهب ثرواتها، وتقزيم إنسانها، وجعله تابعًا اقتصاديًا، كما تفعل الصين اليوم، بشهيةٍ ونَهَمٍ لا مثيل لهما، في إفريقيا. لقد أصبحت الفكرة الاشتراكية، بمختلف مدارسها، حتى هذه اللحظة، مجرد ركامٍ تاريخيٍّ نظريٍّ، يمكن أن يوضع، وببساطة شديدة، في سلة المثالية، التي لا يميزها عن المثاليات الدينية، سوى أنها "مثالية ملحدة". ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في أن ينهار النظام الرأسمالي، وألا تجد البشرية مندوحةً من إقامة النظام الاشتراكي. لكن، أين هو ذلك الانسان القادر إلى إقامة النظام الاشتراكي، والقادر على الحفاظ عليه، واستدامته؟ الممسكون بمفاصل السلطة والثروة في الدول النامية، أصبحوا وكلاء وشركاء لمركز القبضة الرأسمالية الكوكبية، ولكن على تفاوت بينهم في القدرة على خداع شعوبهم حول هذه الحقيقة. فهم، في مجملهم، بيادقُ في تحالفاتها، وجزءٌ من آليات سيطرتها على الكوكب. وجزء من آليات نشر الغلاء، وتضخيم الأرباح بلا حدود، ونشر السلاح، والاضطرابات، والفوضى، والفقر. تعمل نخب هذه القوى الاقتصادية الصاعدة في اقتلاع الناس من جذورهم، وسلب أراضيهم وكنوزها، بعد استتباع نخب العالم النامي الممسكة بمفاصل السلطة. فالناس اليوم بين سندان النهم الصيني، وتمدداته المرتقبة، ومطرقة النهم الأمريكي. لذلك، فإن الحديث عن الثورة، وعن التغيير، يقتضي إطارًا مفاهيميًا جديدا، وتحالفات جيوسياسية غير مسبوقة. إذ لم تعد الثورة، فيما أحسب، فعلاً قطريًا، أو إقليميًا، بقدر ما أصبحت فعلا كوكبيًا عامًا. فغالبية سكان الكوكب وأحلامهم وإيمانهم بالإنسان وبغدٍ مشرق له، أضحت في جهة، والرأسمال المعولم، بكل تمثلاته، ووكلاؤه في الدول النامية، أضحوا في الجهة المقابلة. فهل نحن نعيش نهاية الحقبة الكئيبة، مستشرفين عصرًا يحقق فيه الانسان انسانيته، ولأول مرة في تاريخه، أم أننا نقف على حافة حقبةٍ مقبلةٍ من الزعازع والهمجية، وفقدان الأمل، ليس لها من قرار؟