{القلب لا يعرف الحياد، وهو الذي يصنع كل شيء.} موليير {ما أنبل القلب المتعب الذي لا يمنعه تعبه ، من أن ينشد أغنية جميلة مع القلوب الفرحة.} ابن الفارض {القلوب الكبيرة لا تعرف المستحيل.} جبران {الحقيقة تُخجل الشيطان} شكسبير
(1)
ما أعذب الشعر ، حين يعشق الشاعر، فيتهادى الخيال ويسبح في الفضاء العميق. يمسك هو بحبات العشق المرمري، وينثره من فوق كل الأعشاش النديَّة . يلُف عشقه بسياج خفي ، حتى لا تطاله الأذان وتسمع ، أو العيون لتُفتَضح . إناء العشق من زجاج هيّن كسره من الرهافة ، إن أغلظت عليه ببنانك يتهشم . فالمحبة حادث لا يتكرر كل يوم ، ولا بد من مصفاة تفرز الأحباء عن سائر الناس . فبوابة العِشق ليس مشرعة في كل وقت وفي كل حين . ومن لا يحب فقد قُتلت نفسه ، وجفّت بحيرة عاطفته . ونشعر بالأسى أن بعض الذين ينتمون إلى البشر لم يتذوقوا طعم العشق ، إلى أن رحلوا !.
(2)
ما يجمع الشاعر "الحسين " والشاعر " حسن " هو الحُسن الذي غشي الشعر في القصيدتين الغنائيتين ، إذ غنى المطرب الفنان" عبد الكريم الكابلي" للحسين الحسن بالفُصحى :
حبيبة عُمري تفشى الخبر وذاع وعمّ القُرى والحضر وكنت أقمت عليه الحصون وخبأته من فضول البشر وغنى المطرب الفنان " أبو عركي البخيت " للشاعر " حسن السِر "بالعاميّة الفصيحة :
أخاف أسأل عليك الناس وسِّر الريدة بينا يذيع بخاف أكتر كمان يا غالي من إيديَّ إنت تضيع مواسم ريدة مافي ربيع
(3)
لازم خوف تفشي خبر العِشق لدى الشاعرين . انهما يلفان الخبر بحريرٍ ناعم يُغشي البصر عما في داخله . الخبر اليقين أو الكذوب ، هو بداية الضياع منذ الإرث القديم . " الحسين " قال ألا ذنب له ، و"حسن السر " يراقب حذراً كل خطواته ،والخوف يتتبع خطاه . الشفافية والبوح بالمحبة الإنسانية يجلب عليك المتاعب ، وعلى سيدة أحلامك يدمر مستقبلها في ماضي السنوات . كان للزمن القديم عندنا قيم تستحم في ماء التقاليد الكثيفة ، تنـزل المياه الزئبقية على كل الأجساد . فلان عشق فلانة ، فيندلق الخبر . تتناقل الألسن التفاصيل ، وتُنسج القصص . وخيال القصاصين يغطي كل فراغات الحبكة ، وتنعم عليها بأدوات التشويق . كرة الثلج تتدحرج ، تنمو وتكبر . ترتد على العُرف السائد ، وتحرك عدائيته المخزونة . ومن هنا يهرب العُشاق من أضواء العلن الجهيرة . إن صبّت عليها الكاشفات ، تُطيح بعشقك الأخضر الغضّ وتنسفه.
(4)
إن لبعض مجتمعاتنا قشرة حضارة، رقيقة ناعمة، و عند المحك تتلاشى وتنمحي . تلبسها البداوة على سنن الجماعات البشرية الأولى. ففي البداوة الأولى يجنح العشق والهوى إلى التخفي ، لأن يد البطش غليظة . فملمس العشق الرخاوة والرقة ، ومنهج البداوة الكسر والهصر . التخفي وراء الأستار والتحايل على العرف دون الإسراف ، يمد العلاقة بالتشويق . فالعلاقة الإنسانية الطبيعية ، يرى البعض أنها تنمو وتزدهر في العلن ، كلما صعد المجتمع سلم الرقي ، في يرى آخرين غير ذلك . و اللقاء الذي تبث فيه الشجون هو غاية المُنى ، إن كان من بنات الخيال أو من صنع الحقيقة . ربما كانت المشاعر صادقة ، أما اللقاءات من صنائع الخيال الشاعر الوثاب .
(5)
كتب الشاعر" الحسين الحسن ":
صنعت له من فؤادي المهاد ووسدته كبدي المنفطر ومن نور عيني نسجت الدثار و وشجته بنفيس الدرر * وكتب الشاعر "حسن السر ":
أخاف لو برضي غبتَ عليك تقول ناسيك وجافيتك بهِمّ لو صدفة لاقيتك درب حِلتنا جابك يوم تشيل يا روحي ترمي اللوم عليّ وتزيد همومي هموم
(6)
تغنى المطرب الفنان " عبد الكريم الكابلي " في الستينات ، وتغنى المطرب الفنان" أبو عركي البخيت " أوائل السبعينات . كم يا ترى ينظر عشاق الأمس إلى الجيل الجديد من عشاق اليوم بعد أن تبدّل الحال ، وتقلبت ضروب الحياة ؟. تقلصت الدنيا من رحابتها الفسيحة وعوالمها المجهولة الى قرية صغيرة ، بل غرفة وحاسوب تتلاعب أنت فيه ببنانك ، فترى الدنيا من البلور المتوهج مبهرة . المصباح السحري القديم ينزل من الأساطير ، و يطل عليك اليوم من عوالم الأحلام . يجلس أمامك يستأنس بوجودك معه . بينك وبين من تُحب بضع دقائق ، يصتنت إليك الحاسوب وأنت تحسبه يحفظ السر، لكنه يفشي ما تُخبئه ، يذيع الخبر عبر الشبكة العنكبوتية، ينقله إلى بعض القرى وكل الحضر. الكون من أقصاه إلى أدناه يعرف من يعشق قلبك . ربما تغير العشق منهجاً وممارسة، كحال كل الأمم من حولنا. ولكن المشاعر يلفها غموض غريب.