وكان القرشي شهيدنا الأول ،، وأيوب شهيدنا الأخير! يصاب في أحداث أكتوبر 64 ليستشهد عام 90!. .. توثيق: إيمان عثمان ـ حسن الجزولي

 


 

حسن الجزولي
12 December, 2017

 

 

الميدان تنفرد بقصة آخر شهداء ثورة أكتوبر المجيدة والذي لم يرد اسمه في قائمة الشرف!. 

توثيق: إيمان عثمان ـ حسن الجزولي
إن كان الشهيد القرشي يعتبر أول شهداء ثورة أكتوبر المجيدة، فإن المواطن بابكر عوض أيوب يعتبر آخر شهدائها!، وهي المعلومة التي تحصلت عليها صحيفة الميدان بواسطة زوجة الشهيد التي أفادت لنا بالواقعة صدفة أثناء دردشة معها بحكم الجيرة، فكانت خبطة صحفية قل أن تجود الصدف بمثلها للصحف!.
في حي ود البخيت بمدينة الثورة بأم درمان، إلتقت الميدان بشقيق الشهيد الأكبر وهو حسن عوض أيوب المهندس المعماري بالمعاش وزوجته سامية عباس المعلمة السابقة بمدارس الأساس وابنهما الأصغر حسام والذين سجلنا معهم واقعة الاستشهاد منذ لحظة وقوعها وحتى رحيل ابن العائلة متأثراً بجراحه ليسجل بذلك رقم الاستشهاد الثلاثين في قائمة الشرف التي ضمت جميع أسماء شهداء ثورة 21 أكتوبر 1964.
يقول شقيقه حسن موضحاً للميدان أنه في صبيحة أحد أيام الثورة وبعد أسبوع تقريباً من إندلاعها في الشوارع والطرقات، شهد شارع العدني بأم درمان، مظاهرة ضخمة قوامها النساء والرجال والأطفال، وكان شقيقه المتوسط بابكر عوض أيوب من سكان حي البستة بأم درمان مشاركاً في تلك المظاهرة وهو يقود دراجته الرالي بينما يتابع آخر مستجدات الأنباء عن ثورة البلاد المندلعة منذ نحو أسبوع عن طريق راديو كان يحمله معه. وقتها كان بابكر يبلغ من العمر حوالي 32 عاماً.
كانت المظاهرة في الأساس قادمة من مناطق الثورات وأحياء ود نوباوي والمسالمة وحي العمدة شمالاً وهي تتوغل رويداً نحو الجنوب بشارع كرري الشهير مستهدفة منتصف سوق أم درمان عند المحطة الوسطى، كانت تكبر رويداً رويداً وحالما ينضم لها المتظاهرون كلما توغلت نحو سوق أم درمان، وبمجرد وصول المظاهرة الضخمة لمطعم مصطفى صبير قرب متجر العدني الشهير، وبينما كان المتظاهرون الذين كانوا لا يحملون في أفواههم سوى هتافاتهم الداوية بسقوط الحكم العسكري الأول وفي أياديهم فروع أشجار النيم يهزون بها كما الشبال، ولا يتوقعون أعتداءاً من أي نوع عليهم، فإذا بالرصاص الحي ينهمر عليهم من كل مكان، فتتشتت جموعهم بينما يسقط البعض جريحاً هنا وهناك.
عند مراجعتنا لقائمة الشرف الشهيرة التي ضمت أسماء الـ 39 شهيداً، توقفنا عند أسماء بعينها لشهداء أشارت القائمة لمكان استشهادهم بمدينة أم درمان تحديداً، فقرأنا اسم كل من الشهيد عوض إبراهيم عبد الرحمن ومكان استشهاده بسوق أم درمان، والشهيدة بخيتة المبارك الحفيان ومكان استشهادها مستشفى أم درمان، وهي شهيدة أكتوبر الوحيدة وسط النساء، والتي يبدو من وقائع الأحداث أنها انضمت للمظاهرة من حي ود نوباوي الذي تسكن به، وعند اصابتها تم نقلها لمستشفى أم درمان وهناك فاضت روحها متأثرة بجراحها النازفة، كما ضمت قائمة الشرف الشهيد يوسف علي الحاج الدويم ومكان استشهاده سوق أم درمان، عليه فإن الاشارة لسوق أم درمان مقصود بها المظاهرة التي ووجهت بالرصاص الحي بشارع كرري بأم درمان، حيث يشير شهود عيان في إفادات لصحيفة الميدان، أن المظاهرة الوحيدة التي جوبهت بالرصاص هي مظاهرة شارع كرري وذلك على الرغم من أن المظاهرات المتعددة التي شهدتها مدينة أم درمان في أماكن متفرقة بالمدينة لم تجابه مطلقاً بالتفريق عن طريق الرصاص. غير أن إفادة من محجوب داؤود الكادر بالحزب الشيوعي السوداني، تفيدنا بأن منطقة ودنوباوي التي أصيبت فيها الشهيدة بخيتة الحفيان قد شهدت إطلاق نار على مظاهرة هناك، موضحاً أنه وزميله صلاح عبد الكريم كانا يقودان مظاهرة تحمل جثمان الشهيد عوض إبراهيم عبد الرحمن بعد أن فاضت روحه في مستشفى أم درمان بالفعل، نتيجة لإطلاق الرصاص عليه في مظاهرة شارع كرري، وكان نعشه يتوجه إلى منزله بالحارة الرابعة لتتم ترتيبات التشييع من هناك إلى مقابر أحمد شرفي، وحدث أن مر نعشه أمام طلمبة البنزين التي تقع في ناصية شارع الدومة بودنوباوي، ويبدو أن المتظاهرين تحرشوا برجل البوليس الذي كان يحرس الطلمبة، فاعتقد أن المتظاهرين ينوون الهجوم عليه فأطلق أعيرة نارية تجاه كل من محجوب وصلاح باعتبارهما قائدان للتظاهرة التي تحمل النعش، إلا أن الرصاص طاش هدفه مستهدفاً حياة الشهيدة بخيتة الحفيان قرب منزلها جوار مركز عبد الكريم ميرغني حالياً، ففاضت روحها بمستشفى أم درمان الذي نُقلت إليه لتلقي الاسعافات.
وعودة لمظاهرة شارع كرري قرب متجر العدني الشهير، فإن الباشمهندس حسن يمضي موضحاً للميدان، بأنه عند تشتت المظاهرة وسقوط الجرحى ودمائهم تسيل على أسفلت الشارع الرئيسي، كان بابكر من بينهم جريحاً، {وفيما بعد علمنا أن من سقط بقربه جريحاً هو الآخر كان يدعى يس والذي إخترقت رصاصة قدمه فتم تسفيره للندن لاجراء عملية جراحية أفقدته جزءاً من كعب القدم}.
يواصل شقيق الشهيد في إفاداته للميدان موضحاً بأنه عندما {سقط بابكر متضرجاً بدمائه، خف بعض المواطنين وحملوه بسرعة وأُدخل مطعم صبير كأقرب مكان لإسعافه، فهرع أحد عمال المطعم وجرً على الفور عمامته من الشماعة التي كانت معلقة عليها وربط له منطقة البطن التي كانت الدماء تنزف منها بغزارة، كما تم الاتصال بنا كأسرة}.
في مستشفى أم در مان أجريت له العملية الأولى التي أجراها طبيب إنجليزي يدعى باستن ولم تنجح ثم ألحقت بالثانية، ولم تنجح أيضاً، حكومة أكتوبر التي كانت تتابع حالات المصابين عن طريق مجلس وزرائها، قررت تسفيره على حساب الدولة للقاهرة لمتابعة علاجه وبالفعل رافقه شقيقه، قبل السفر كانت مصارينه تخرج من الاحشاء لخارج البطن فيعيدها الأطباء لموضعها وتتم خياطة البطن، وقد تمت هذه المسألة عدة مرات مما عرض منطقة الاصابة بالبطن لتقرحات ونزيف دائم.
في القاهرة التقاه د. سمير أبو زيد الأخصائي المصري، وهو الدكتور المسؤول وقتها عن العمليات التي تتم للسودانيين بالقاهرة، أُدخل بابكرعلى الفور مستشفى العباسية ومن خلال صور الأشعة إتضح وجود رايش سبب تهتكاً في جانب من المصارين.
تم إجراء عملية ناجحة له بالمستشفى اليوناني، كانت العملية الجراحية عبارة عن توصيل أنبوب بلاستيكي صناعي تم به توصيل المصران ببعضه البعض بعد إستئصال الجزء الممزق من المصران، بعد شهر عاد بابكر للسودان حسب إفادة شقيقه، فاستعاد صحته رويداً ثم تزوج من أم أبناءه تهاني شيخ إدريس التي تعرف عليها أثناء تردده على عيادة طبيبه الذي كان يراجع معه وضعه الصحي، واتضح له أنها كانت جارة لهم بحي البوستة بأم درمان، هكذا ارتبط بها وعاش معها طوال حياته وحتى وفاته بمدينة الثورة بأم درمان بالحارة السابعة، وبهذا الخصوص وعلى الرغم من أن حكومة أكتوبر كانت قد قررت منح قطع سكنية للمصابين وذوي الشهداء، إلا أن تلاحق أحداث أكتوبر جعل مثل هذا الاهتمام يتراجع من أولويات الحكومات التي تعاقبت بعد ثورة أكتوبر!. أنجب الشهيد ثلاثة أبناء وبنت واحدة، هم كل من عوض مهندس علوم الكمبيوتر ويعمل بإحدى الجامعات، والصادق المهندس الميكانيكي، وآيات المشرفة على إحدى رياض الأطفال، ثم محمد والذي يشتغل بالأعمال الحرة.
ومنذ نجاح العملية بالقاهرة لم يحس الشهيد بأي ألام أو أي مشاكل صحية في منطقة البطن مكان الاصابة بالرصاص، ولكن وبما أن الأطباء بمصر أوضحوا له أنه ربما سيواجه بعد مدة من إجراء العملية بمشاكل صحية، فإن زوجته تهاني شيخ إدريس، أفادت أنه وبالفعل أصيب بقرحة حادة، فبدأ يحس بألام مستمرة في مكان الاصابة حتى بعد شفاءه من القرحة، استمرت معه الآلام التي لم تبارحه، وكان يحس بكيس دهني صلب في موضع الاصابة، فيتقرح بعد مدة ويخرج منه صديداً، مما يسبب له ذلك حمى ومغصاً يستمر معه لعدة أيام يعود بعدها متعافياً، وهكذا تستمر هذه الحالة التي تكاثرت عليه قبل رحيله بفترة قصيرة حيث بدأت الحمى تعاودة لفترة طويلة يدخل خلالها في إغماءة وهضربة، يستمر هذا الأمر والأطباء يشخصون الحالة باعتبارها ملاريا، حتى رحل في السادس من أكتوبر عام 1990 بمستشفى السلاح الطبي بأم درمان متأثراً بجراح إثر رصاصة إخترقت إمعائه في العام 1964 عن عمر يناهز 54 عاماً!.
هذه هي حكاية آخر شهداء الشعب والوطن في أحداث ثورة 21 أكتوبر 1964 وبذا فستسجل مضابط التوثيق وهي تضيف اسم بابكر أيوب رقم {40} لقائمة الشرف الشهيرة والتي كانت تضم 39 شهيداً فقط!.
له الرحمة والمغفرة مع الصديقين والشهداء. والمجد والخلود لشهداء البلاد العزيزين عليها.


helgizuli@gmail.com

 

آراء