"نُشرت هذه الورقة في عام 2013، في دورية "سياسات عربية" المحكمة، التي يصدرها المركز العربي للأبحاث. وقد جرى نشر هذه الورقة قبل ثلاثة أعوام من قطع السودان لعلاقاته مع إيران في يناير 2016."
ملخّص:
تناقش هذه الورقة علاقات السودان بإيران، على خلفيّة الهجمات الجويّة الإسرائيليّة العديدة على السودان، وتتساءل إذا ما كان النظام الحاكم في السودان يرجّح في معالجة همومه السياسيّة والأمنيّة الكفّة الإيرانيّة على الكفّة العربيّة، أم أنّه لا يرى تناقضًا أو مشكلةً في اللّعب على الحبلين. تنظر الورقة أيضًا، في أحلام الرّيادة والزعامة الإسلاميّة ونزعة التثوير العابرة للأقطار لدى حسن الترابي، وتأثير تلك النزعة في تلامذته في نظرتهم وارتباطهم بإيران. كما تأخذ الورقة الدّعم الإيرانيّ للإسلاميّين في غزّة عبر السودان كنموذجٍ للتعاون، تنظر من خلاله إلى تقاطعات التكتيكي على المدى القصير، مع الإستراتيجي على المدى الطويل. وتناقش الورقة أيضًا وصول الإسلاميّين إلى السلطة نتيجةً للثورات العربيّة، واحتمال انبعاث نزعة التثوير العابرة للأقطار المتضمّنة في أصل أدبيات الإخوان المسلمين، وانعكاس ذلك الانبعاث على علاقة الدول العربيّة ببعضها بعضًا، وعلاقتها مجتمعةً أو منفردةً بإيران.
مدخل: اندلعت الثورة الإيرانيّة عند أصيل حقبة الحرب الباردة، فحرّك اندلاعها أحلام الكتلة الثالثة الراقدة في أفئدة الإسلاميّين العرب. يقول عزمي بشارة عن حركة الجهاد: "لقد تأثّرت حركة الجهاد، منذ البداية، بمبادئ الثورة الإسلاميّة على غرار حركاتٍ سنّيةٍ كثيرة ألهبت هذه الثورة خيالها، بما في ذلك الإخوان المسلمون" [1]. ويمكن القول أيضًا إنّ الإسلاميّين العرب مالوا إلى الثورة الإيرانيّة بجامع التّوق لدى الفريقين في خلق كتلةٍ إسلاميّةٍ فاعلةٍ مغايرةٍ للنموذج الغربيّ، ومنفلتةٍ من قبضة الهيمنة الغربيّة [2]. يرى حيدر إبراهيم أنَّ ميل الإسلاميّين السودانيّين للثورة الإيرانيّة، في بدايات حكمهم للسودان، قد جسَّده تقاربهم معها ومحاولة الاستفادة من خبراتها، بوصفها النموذج الأمثل واقعيًّا، إذ إنّها مثّلت بالنسبة إليهم الدولة الإسلاميّة الوحيدة [3].
أجد من الضروري جدًّا الإشارة في هذا المدخل، إلى ما يعدّه بعض الباحثين قصورًا في الانتباه وسط القيادات الإسلاميّة العربيّة التي تميل نحو إيران، إلى المكوِّن القوميّ والجيوستراتيجي والمذهبيّ في الدولة الإيرانيّة، والانحصار في النظرة إليها من منظور "الأخوّة الإسلاميّة" الجامعة، دون أخذ المكوِّنات الأخرى بعين الاعتبار. فالتاريخ الإيرانيّ، والعقيدة الإيرانيّة، والرؤية الإيرانيّة الجيوستراتيجية، تشير مجتمعةً إلى أنَّ إيران تتحرّك صوب محيطها الإقليميّ، من بؤرةِ طردٍ مركزيّةٍ مركّبة. وربّما يعضد هذا المنحى ما أورده طلال عتريسي حين أكَّد على أنَّ الهُويّة الإيرانيّة الجديدة تدمج في وقتٍ واحدٍ، وبطريقةٍ شديدة التعقيد، الأمّة والإسلام والعالم [4]. ويؤكّد أوليفييه روا أنّ إخفاق إيران في اختراق العالم السنّي قد جعلها تتصرّف كقوّة إقليميّة، وفق محاور شديدة الشبه بتلك التي كان يعتمدها الشاه [5] الشاهد أنّ القوميّ والدينيّ والمذهبيّ والعرقيّ والمصلحيّ، تختلط اختلاطًا مُربِكًا في الطبيعة الإيرانيّة المركّبة. فإيران، كما ينبّه عزمي بشارة، تستثمر داخليًّا في هُويّة إيرانية شاملة، لكنها لا تغضّ الطرف تمامًا عن الاستثمار في ماضيها الإمبراطوريّ الفارسيّ [6]. والماضي الإمبراطوريّ اتّسم في معظم منعطفاته بنزعة المدّ والتوسّع. ويرى محجوب الزويري أنّ تاريخ القرن العشرين أثبت أنَّ عاملَيْ الدين والهُويّة يبقيان حاضرين وبقوّة في الحالة الإيرانيّة، فوجود مَلَكيّة علمانيّة، كما كانت الحال في فترة حكم الشاه، لم يطمس تمامًا الهُويّة الدينيّة الشيعيّة ببعدها القوميّ الفارسي [7].
وفي السّياق نفسه، يشير وجيه كوثراني إلى أنَّ العلاقة بين العرب وإيران لها صورٌ متعدّدةٌ لدى الطرفين؛ فصورةٌ منها تعكسها مرآة الإسلام، وصورةٌ ثانية تعكسها مرآة القوميّة، وثالثةٌ تعكسها مرآة المذاهب، ورابعةٌ تعكسها مرآة الجغرافيا السياسيّة والاقتصاديّة والبشريّة. ويضيف كوثراني أنّه ليس من بين هذه المرايا، مرآةٌ صافيةٌ بحدِّ ذاتها. فاللون الغالب واللون الرئيس في الفهم المتبادل بين العرب والإيرانيّين، لونٌ متحوِّلٌ يأخذ أطيافًا عدّة، يصفه كوثراني بأنّه:
قد يكون إسلاميًّا مشتملًا ومحتويًا المضمون القوميّ، وقد يكون قوميًّا مرتكزًا على الإسلام، أو قد يكون قوميًّا عنصريًّا نافيًا الإسلام، أو قد يكون نفعيًّا خالصًا جاعلًا من مصالح الدولة وجغرافيّتها الاقتصاديّة نطاقًا لـ"أمنها القوميّ" مع استخدامٍ وظيفيٍّ للإسلام والقوميّة معًا. وقد تكون الصورة أحيانًا مزيجًا معقّدًا من هذه العناصر جميعها [8].
تنظر بعض الحركات الإسلاميّة في العالم العربيّ إلى إيران كحليفٍ إسلاميٍّ مهمٍّ يشكّل بالضرورة، قوّةً داعمةً وسندًا يُعَوَّل عليه في المعركة ضدّ الهيمنة الغربيّة. ولا يحتاج المرء في هذا المنحى إلى أكثر من الإشارة إلى حزب الله في لبنان، وحركة حماس في غزّة، وحكومة الإسلاميّين في السودان.
التكتيك والإستراتيجيا: تنطلق هذه الورقة من افتراض وجود جسمٍ عربيٍّ جامعٍ ذي مصالحَ جيوستراتيجية مشتركة. وبطبيعة الحال، فإنّ وجود تنظيمٍ تأسَّس طوعًا يجمع الدولة العربيّة كلّها بلا استثناء، يسمّى "جامعة الدول العربيّة"، يعني - بقدرٍ معقول - أنَّ هذا الجسم متجانسٌ في ما يتعلّق ببنيته وطبيعته التاريخيّة، إلى الحدّ الذي يجعل منه جسمًا ذا أمنٍ مشترك، حتّى وإن كان في حالة الكمون لا في حالة التجسُّد البادية للعيان. ولكن، على الرغم ممّا يتّسم به هذا الجسم من وحدةٍ عضويّة، فإنه يتّسم أيضًا بتنافر الرؤية السياسيّة. هذا التنافر - وهو تنافرٌ تتغيّر خريطته كلّ آونةٍ وأخرى - يخلق خلطًا بين الثوابت القوميّة والمصالح الآنيّة القطريّة. في هذا الخلط الذي تدخل فيه أطرافٌ أخرى من خارج المنظومة، يتعارض التكتيكي مع الإستراتيجي ويتقاطع معه تقاطعًا حادًّا. ولعلّ تقارب بعض الدول العربيّة مع إيران يمثّل بعضًا من التجسيد الحيّ لهذه الإشكاليّة. يرى أوليفييه روا أنّ إيران تحتاج إلى الخروج من "محتبسها الشيعيّ" (غيتوGhetto ) إلى مراكزَ سنّية، وعلى الرغم من أنّه يسعها دائمًا استخدام حسن الترابي في عمليات محدّدة، لكن من غير المحتمل أن يقيم الإخوان المسلمون المعادون للتشيّع تحالفًا إستراتيجيًّا دائمًا مع إيران [9]. ولذلك، فإنّ تقارب السودان وتقارب فصائل الإسلاميّين في غزّة مع إيران، على النحو الذي هو عليه، يعكس بصورةٍ كبيرة حالة التكتيكي الذي يتقاطع بطريقة حادّة مع الإستراتيجي. ويختلف هذا عن نموذج حزب الله في لبنان، والذي لا يتقاطع فيه التكتيكي القصير الأجل مع الإستراتيجي ذي الأجل الطويل، بقدرٍ ملحوظ. أمّا في حالة ارتباط السودان وفصائل غزّة بإيران، فإنّ التناقض المذهبي الحادّ وتعارض المصالح على المدى الأبعد، يحبسان هذا التعاون في خانة التكتيك وحدها.
ما من شكّ في أنَّ كلًّا من إيران والتنظيمات السياسيّة الإسلاميّة السنّية في الأقطار العربيّة تعي إشكالية هذا التعاون المرحلي. ولكن، ويبدو أنَّ كلَّ طرفٍ من هذين الطرفين يظنّ أنَّه سيكون الرابح الأكبر من حالة التحالف التكتيكية المرحليّة هذه، وأنَّه سيُراكِم هذا التحالف في نهاية المطاف، ما يصبّ في رصيده الخاصّ، ويضمن له وضعًا أفضل على المدى الإستراتيجي البعيد. ولذلك، ربّما تكون الاستفادة تكتيكيًّا من إيران، هي ما يجعل هذه الحركات الإسلاميّة العربيّة تغضّ الطرف عن المطامع الإيرانيّة والطبيعة التاريخيّة للدولة الإيرانيّة، وعن كون إيران نزّاعة بطبعها إلى التأثير الجذريّ في الفضاء العربيّ الإسلاميّ. ولو نظرنا إلى الأمر نظرةً واقعيّةً، فإنَّ منظّماتٍ إسلاميّةً مثل حماس والجهاد الإسلاميّ، محاصرة إسرائيليًّا وأميركيًّا، ثمّ فلسطينيًّا وعربيًّا، مضطرّة إلى قبول العون المالي والعسكريّ الإيرانيّ. ولقد اضطرّت حماس مؤخّرًا إلى أن تختلف مع الإيرانيّين بشأن الثورة في سورية، ممّا أحدث شيئًا من عدم التناغم لطّفت منه الدبلوماسيّة كثيرًا. غير أنه أربك التكتيكي دون شكّ. ويشرح عزمي بشارة مأزق حماس في التعامل مع إيران بقوله: "إنَّ حركة حماس في وضعها الحالي كانت تفضّل من حيث طبيعتها الأيديولوجيّة، وبدرجةٍ أكبر، بسبب قواعدها الاجتماعيّة في العالم العربيّ، لو تلقّت هذا الدّعم الذي تتلقّاه حاليًّا من إيران من دولةٍ عربيةٍ مثل المملكة العربيّة السعوديّة" [10].
هذه الحاجة المُلجئة إلى الدّعم والعون ربّما تكون هي السبب وراء غضّ القادة السياسيّين الإسلاميّين السنيّين الطرف عن النواة الصلبة للثورة الإيرانيّة المنغرسة في تربة الغنوص الدينيِّ المتمركز حول عقيدة الإمام الغائب وولاية الفقيه [11]. وعمومًا، فإنّ المرجعيّة الفقهيّة والتاريخيّة الشيعيّة متعارضة مع المرجعيّة السنّية. لكن، الحاجة الماسّة إلى العون المالي والعسكريّ والسياسي، ربّما تجبر متّخذَ القرار السياسيّ، في الأحوال الضاغطة، على التحوّل من مبدئيّة الموقف إلى براغماتيّته، وهذا ينطبق على حكومة السودان، مثلما ينطبق على حماس. أمّا فيما يتعلّق بالجانب الآخر القادر على تقديم العون من داخل المنظومة العربيّة، فإنَّ حكّام المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة وسلطنة عمان والكويت، ربّما تكون خشيتهم من حركة الإخوان المسلمين، في الوقت الحالي، تماثل خشيتهم من إيران أو تزيد عليها. ولقد تعاظمت تلك الخشية بصورة كبيرةٍ منذ إعلان التنظيم الدوليّ للإخوان المسلمين موقفه الذي كان داعمًا للعراق بعد غزوه الكويت.
لجأ الإخوان المسلمون إلى المملكة العربيّة السعوديّة، بُعَيْد منتصف القرن الماضي، فارّين من بلدانهم بسبب المدّ اليساريّ العروبيّ الذي نكّلت أنظمته الحاكمة بهم، فاحتضنتهم السعوديّة التي كانت تخشى وقتها من المدّ الشيوعيّ ووكلائه في الإقليم المتمثلين في اليسار العربيّ الماركسيّ والقوميّ. في تلك الحقبة، مثّل فكر الإخوان المسلمين ترياقًا ضدّ خطر المدّ الشيوعيّ الذي كان يخيف السعوديّين وحلفاءهم الأميركيّين؛ أصحاب المصلحة الكبرى في وقف الزحف الشيوعيّ في المنطقة العربيّة. غير أنَّ السعوديّة عادت مؤخّرًا فغيّرت موقفها منهم. فالمشهد في جملته تغيَّر تغيُّرًا كبيرًا جدًّا. ولقد جرى تأكيد موقف السعوديّة المناوئ للإخوان على لسان وزير داخليّتها الراحل، نايف بن عبد العزيز [12]. وطفحت النبرة المعادية للإخوان، وبشدّة في تصريحات وزير خارجيّة الإمارات، عبد الله بن زايد، إضافةً إلى مدير شرطة دبي، ضاحي خلفان [13]. ويبدو أنَّ هناك تصعيدًا حادًّا في اللهجة بين الإماراتيّين وشخصيّات بارزة في حركة الإخوان المسلمين المصريّة، ومن ذلك التصعيد إعلان الإمارات القبض على خليّة أسمتها السلطات الإماراتيّة خليّة إخوانية مصريّة تعمل داخل الإمارات [14]. وعمومًا، ازدادت المخاوف من حركة الإخوان المسلمين في بعض الدول الخليجيّة، بعد الثورات العربيّة التي انطلقت من تونس في عام 2011، وأخذت في الاندياح في الفضاء العربيّ العريض، بل ظهرت في بلدانٍ خليجيّة كالبحرين والكويت، وبقدرٍ أقلّ في سلطنة عمان.
علاقات السودان وإيران: على ضوء المؤشّرات التي سبق ذكرها في مدخل هذه الورقة، تجيء النظرة إلى علاقة السودان وإيران. فهي علاقة بين حركة سياسيّة راديكاليّة إسلاميّة سنّية تمثّلها الحركة الإسلاميّة في السودان، وحركة سياسيّة راديكاليّة شيعيّة تمثّلها الثورة الإسلاميّة في إيران التي أطاحت بالحكم الشاهنشاهي في عام 1979. وعلى الرغم من هذه السّمة الإسلاميّة الراديكاليّة المشتركة بين السودان وإيران، فإنَّ العلاقة بينهما ليست راسخةً تمامًا، لأنه لا يوجد إجماع عليها سودانيًّا، حتّى وسط الإسلاميّين السودانيّين الحاكمين أنفسهم، كما ستبيِّن هذه الورقة لاحقًا.
العلاقة بين السودان وإيران علاقةٌ حديثةٌ نسبيًّا، فقد تنامت علاقات السودان بإيران في فترة حكم الشاه الذي أهدى السودان قطعًا بحريّة عسكريّة كجزءٍ من إستراتيجيته في البحر الأحمر. غير أنَّ تلك العلاقات قُطعت مؤقتًا بعد حرب أكتوبر 1973، كبقيّة الدول العربيّة، ورُتِّبت عودتها فيما بعد عبر الأجهزة الأمنيّة، بإعلان بيانٍ متزامنٍ في الخرطوم وطهران. وظلَّت العلاقات الدبلوماسيّة قائمةً بلا انقطاع إلى ما بعد قيام الثورة الإسلاميّة عام 1979، أي إلى ما بعد اندلاع الحرب العراقيّة - الإيرانيّة التي انحاز فيها السودان إلى جانب العراق، وأرسل جنودًا نظاميّين وسمح لأعدادٍ كبيرةٍ من المتطوّعين السودانيّين بالقتال إلى جانب القوّات العراقيّة. ويمكن القول، عمومًا، إنّ علاقات السودان الخارجيّة في الفترة الممتدّة بين خروج المستعمر البريطانيّ في عام 1956، وصعود جعفر نميري إلى الحكم في عام 1969 قد اتّسمت بعدم الانحياز [15]. ولقد مال نميري إلى توجّهات السادات الذي استضاف شاه إيران على الأراضي المصريّة، بعد خلعه. كما أنَّ نميري دعم موقف نظام السادات لدى توقيعه اتفاقيّة كامب ديفيد مع الإسرائيليّين، ثمّ أعقب نميري ذلك بتعاونه مع الإسرائيليّين في ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل. وهكذا باعد نميري بين نفسه وبين بداياته اليساريّة الأولى، حتّى أصبح في سنوات حكمه الأخيرة حليفًا مقرّبًا جدًّا من أميركا.
أكثر من روّج لإيران داخل السودان هو الحركة الإسلاميّة السودانيّة بقيادة حسن الترابي الذي وصل بجماعته إلى الحكم في السودان، عقب انقلابٍ عسكريّ في عام 1989. فمنذ نهاية السبعينيّات من القرن الماضي أخذت الحركة الإسلاميّة السودانيّة ترى في ثورة الخميني مصدر إلهامٍ لها. وهذا أمرٌ أكَّده المحبوب عبد السلام، إذ ذكر أنَّ قيام دولةٍ إسلاميّة هي الأولى في العالم على الإطلاق، أطلق في السودان مبادراتِ التظاهر المناصرة لإيران مؤكّدًا أنَّ تلك التظاهرات كانت الأولى في العالم العربيّ وأفريقيا. ويضيف المحبوب عبد السلام أنَّ تلك التظاهرات تلتها مبادراتٌ بالزيارات إلى طهران قامت بها الحركة الإسلاميّة السودانيّة، وكانت هي الأولى، إذ التقت بمُلهم الثورة ومرشدها، ثمّ جرى تبنّي فكر الثورة ورمزها والدعوة له والتبشير به [16].
ووفقًا للدبلوماسي السودانيّ الأسبق الرشيد أبو شامة، فإنَّ التطوّر الكبير في العلاقات بين إيران والسودان حدث قبل وصول الإسلاميّين إلى الحكم في السودان. فقد توطَّدت الصلات كثيرًا في فترة حكم الصادق المهدي (1986 – 1989) الذي طرح فكرة "وحدة أهل القبلة"، ومال إلى ليبيا أكثر من مصر، كما تجاوز السعوديّة إلى إيران. ولقد زار الصادق المهدي طهران بضع مرّات، كما أنه أوقف المشاركة العسكريّة في الحرب إلى جانب العراق، ولم يبدِ تعاطفًا مع الأسرى السودانيّين من العسكر والمتطوّعين الذين حاربوا إلى جانب العراقيّين. وكان الصادق المهدي على خلافٍ كبيرٍ مع وزير خارجيّته الاتحادي حسين سليمان أبو صالح الذي كان يميل إلى العراق. ولم يُطلَق سراح الأسرى السودانيّين في إيران إلا في نهايات عام 1990. وعمومًا، فقد أغضبت مواقف الصادق المهدي وزياراته لطهران الدول الخليجيّة.
عندما جاءت حكومة الإنقاذ إلى الحكم في السودان في عام 1989، وبحكم حاجتها إلى الاعتراف والعون، حاولت كسب ودّ الدول العربيّة خاصةً الخليجيّة منها، لتدعيم موقفها [17]. ولتحقيق ذلك الهدف، قامت حكومة الإنقاذ بافتعال مشكلةٍ مع إيران، قامت على أثرها بقطع العلاقات، بعد أن استدعت السفير السودانيّ في طهران. ويؤكِّد أبو شامة أنَّ تلك الخطوة كانت خطوةً مفتعلة، ويطابق ذلك تمامًا ما أدلى به القيادي في الحركة الإسلاميّة السودانيّة المحبوب عبد السلام الذي أكّد افتعال حكومة السودان المشكلة بهدف قطع العلاقات مع إيران [18]. وبشكلٍ عامّ، فإنَّ مختلف كُتّاب الحركة الإسلاميّة السودانيّة يؤكِّدون فتون حركتهم بالثورة الإيرانيّة، وتمثلَّهم نموذجها. ومن ذلك ما أورده عبد الرحيم عمر محي الدين، إذ ذكر أنَّ الحركة الإسلاميّة في جامعة الخرطوم كانت متأثِّرةً جدًّا بشعارات الثورة الإيرانيّة ومتعلِّقةً جدًّا بشخصيّة الإمام الخميني، بحيث لا تخلو حجرة من حجرات الطلاب الإسلاميّين في السكن الجامعي لطلاب جامعة الخرطوم من صوره. بل كان الطلاب الإسلاميّون، (بعضهم ساسة وتنفيذيّون وقياديّون في الحكم السودانيّ القائم الآن)، يطلقون على حجرة السكن الطلابي التي يسكنها بعض قياديّي تنظيمهم المعروفين بالتديّن الشديد، اسم "قُمْ مدينة الآيات"، تيمّنًا بمدينة قم الإيرانيّة المقدّسة [19].
لم يستمرّ قطع العلاقات مع إيران طويلًا، فقد بعثت حكومة الإنقاذ في السودان بعد فترةٍ وجيزةٍ، عبد الرحمن محمد سعيد سفيرًا لها في إيران، وأعقبه على السفارة في طهران قطبي المهدي الذي كان رئيسًا لجهاز الأمن السودانيّ. ويبدو أنَّ الإنقاذ، إلى جانب إعجابها بنموذج إيران الثوري، رأت في النظام الإيرانيّ أيضًا نموذجًا أمنيًّا يمكن الاستعانة بخبراته الأمنيّة في حماية نظامها الوليد المستهدف من جهاتٍ كثيرةٍ. وقد زار السودان الرئيس الإيرانيّ حينها، هاشمي رفسنجاني، على رأس وفدٍ ضخمٍ، ووقَّع مع السودان عددًا من الاتفاقيّات شملت الاقتصاد والأمن والدفاع. ودعمت إيران الحكومة السودانيّة بالمال والسّلاح وبالتدريب في قطاعات مختلفة، بما في ذلك الأمن والقضاء [20]. .................................................... 1. عزمي بشارة، العرب وإيران- ملاحظات عامّة، في: "العرب وإيران: مراجعة في التاريخ والسياسة" (مجموعة كتاب)، (الدوحة/بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 24. 2. أوليفييه روا، تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصير مروه، ط2، (بيروت: دار الساقي، 1996)، ص 118. 3. حيدر إبراهيم، سقوط المشروع الحضاريّ، (الخرطوم: مركز الدراسات السودانيّة، 2004)، ص 35. 4. طلال عتريسي، الجمهوريّة الصعبة: إيران في تحولاتها الداخليّة وسياساتها الإقليميّة، (بيروت: دار الساقي، 2006)، ص24. 5. أوليفييه روا، المصدر نفسه، ص 176. 6. عزمي بشارة، المصدر نفسه، ص 10. 7. محجوب الزويري، إيران والعرب في ظلال الدين والسياسة عبر التاريخ، في: العرب وإيران: مراجعة في التاريخ والسياسة، مجموعة باحثين، (الدوحة/بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 70. 8. وجيه كوثراني، الإدراك المتبادل بين العرب والإيرانيّين، في: العلاقات العربيّة الإيرانيّة - الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربيّة بالتعاون مع جامعة قطر، (مجموعة مؤلفين)، ط 2، (مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2001)، ص 166. 9. أوليفييه روا، المصدر نفسه، ص ص 188-119. 10. عزمي بشارة، المصدر نفسه، ص 25. 11. مهند مبيضين، الفكر السياسيّ الإسلاميّ والإصلاح: التجربتان العثمانية والإيرانيّة، (بيروت، الدار العربيّة للعلوم، 2008)، ص 119. 12. راجع صحيفة الرياض، عدد 12578 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، فقد ورد فيها من مقابلة مع وزير الداخلية السعودي السابق نايف بن عبد العزيز قوله: "عندما حصل غزو العراق للكويت جاءنا علماء كثيرون على رأسهم عبد الرحمن خليفة، ومعهم الغنوشي، ومعهم الترابي، والزنداني، ومعهم أربكان وآخرون. أوّل ما وصلوا اجتمعوا بالملك وبوليّ العهد وقلنا لهم هل تقبلون بغزو دولة لدولة؟ هل الكويت تهدّد العراق؟ قالوا والله نحن أتينا فقط لنسمع ونأخذ الآراء. بعد ذلك وصلوا العراق ونُفاجأ بهم يصدرون بيانًا يؤيّد الغزو العراقي للكويت". وورد في المقابلة نفسها قول الأمير نايف: "أقولها من دون تردّد إنّ مشكلاتنا وإفرازاتنا كلّها - وسمّها كما شئت - جاءت من الإخوان المسلمين". 13. مصطفى خليفة، "فكر الإخوان المسلمين لا يؤمن بالدولة الوطنيّة"، صحيفة البيان الإماراتية، 9/10/2012. 14. حبيب الصايغ، "القبض على خليّة من تنظيم الإخوان المصري في الإمارات"، صحيفة الخليج الإماراتية، 1/1/2013. 15. عبد الوهاب الأفندي، السودان إلى أين، في: العرب وجوارهم .. إلى أين؟، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2002)، ص 86. 16. المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلاميّة السودانيّة: دائرة الضوء خطوط الظلام، تأملات في العشريّة الأولى لعهد الإنقاذ، (القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2009)، ص 320. 17. فاطمة مبارك، بعد وصول السفن الحربيّة الإيرانيّة إلى بورتسودان: السودان وإسرائيل .. سياسة الحرب المكشوفة، صحيفة المجهر السياسي، 31 أكتوبر 2012. 18. المحبوب عبد السلام، المصدر نفسه، ص 319 -320. 19. عبد الرحيم عمر محي الدين، صراع الهوى والهُويّة، فتنة الإسلاميّين في السلطة من مذكرة العشرة إلى مذكرة التفاهم مع قرنق، مطبعة (دمشق: دار عكرمة، 2006)، ص 38. 20. J. Millard Burr & Robert Collins, Revolutionary Sudan: Hassan al_Turabi and Islamic State, ) The Netherlands: Koninkklyke Brill NV, Leiden, 2003), pp 81-82.