زيارة ضريح الشيخ الطيّب غرب أمدرمان
أواخر خمسينات القرن العشرين ، كان للطفولة طعم آخر . أم درمان يسميها الجميع العاصمة الوطنية . فقد خاض جيش اللورد كتشنر موقعة كرري بأم دمان يوم 2 سبتمبر 1889 وتغير التاريخ. بدأ بعد المعركة المشهورة التي استمرت ست ساعات أن اكتشف الغازي أن الجيشين غير مُتكافئين في العدّة والعتاد والسلاح وفي عزيمة المتحاربين. حلّت الهزيمة بجيش خليفة المهدي . وتدريجياً بعد ذلك دان السودان أشباه المدن والمديريات والأقاليم للحكم الثنائي . استعادت " الخرطوم " مجدها وبدأ إعادة إعمارها. و تراجعت أم درمان بعد أن هجرتها سلطة الحكم الثنائي وصارت قرية تُجاور مدينة الخرطوم . تركها المستعمرعلى حالها مع قليل اهتمام . وفي عام 1948 صارت أم درمان من أكبر قرى العالم .
كان "محمد أحمد المهدي" ، في أول أمره يتبع الطريقة السنّية "السمّانية" . وكان مركزها عند " خلوة الشيخ الطيب " غرب أم درمان . تغير أمر المهدي بعد أن تحول وفق خُطة منظّر المهدية " الخليفة عبدالله " إلى" المهدي المنتظر".وهجر الطريقة السُنّية تلك ، بل وأمر بهدم قباب أضرحة المتصوفة جميعاً!.
(2)
صور الماضي قد تبدو غريبة عن يومنا هذا. كان برد الشتاء تلك الأيام أشد قسوة . ومواسم " الجراد" القادمة من الصحارى تُظلل السماء بغيوم كثيفة في بعض صباحات الصيف أو فصل الخريف .
في الأعياد عامة ، نصحو منذ صلاة الصبح . وبعد الحمام ، نرتدي الجلابيب ونعتمر "الطواقي الحمراء " على روؤسنا. وننتظر البصات التي تقل الركاب من شارع الأربعين إلى مقابر "الشيخ حمد النيل" .حوالي كيلومتر غرباً. وكانت تكلفة التوصيل للشخص قرشاً .نذهب عادة لزيارة المقابر ونجد النساء يجلسنَّ عند قبور أهاليهنَّ الذين رحلوا . يوزعون علينا الحلوى و" الكعك " ، كأن سكان القبور سيفرحون لضجيج الزائرين وتوزيع الحلوى . نملأ جيوب الجلابيب بالهدايا ، ثم نعود لبيوتنا راجلين .فبرنامج البص الصباحي ينتهي عند شروق الشمس. ومن ثمة يبدأ يوم العيد .
(3)
خلال طفولتنا تلك وفي ذات يوم ، قرر الأعمام والأجداد زيارة ضريح "الشيخ الطيب". استأجروا بصاً ، هو في الأصل شاحنة نقل ،و تم إضافة صندوق وقفص حديدي، ومقاعد لتُصبح بصاً . اختاروا يوم جمعة ليكون ميعاد الرحلة .
صحونا منذ الخامسة صباحاً . كان حمام الصباح عسيراً كما تعودناه . ارتدى الأطفال " جلابيب بيضاء " مصنوعة من قماش "الدمورية" ، و " طواقي " حمراء نعتمرها على رؤوسنا وأحزية " الباتا". كان هذا هو الزي الذي يناسب عُمرنا في زمانه. أما النساء فكنَّ يرتدينّ " ثوب الزراق " فوق أقمصتهنَّ، وهو المصبوغ باللون الأزرق الداكن وهو أيضاً الثوب الخارجي الذي ترتديه عادة كل النسوة . الرجال يرتدون الجلباب والعمامة ، وبعض المشايخ يعتمرون " الجبة " و "القفطان " : وهو ثوب فضفاض سابغ مشقوق المقدَّم ، يضمُّ طرفَيه حزام ، ويتخذ من الحرير أَو القطن ، وتُلبَسُ فوقَهُ الجُبّة و" الفرجية " : وهي ثوبٌ واسع طويل الأكمام إضافة إلى العمامة . من المشايخ الذين كانوا ضمن الرحلة :" الشيخ الفاتح محمد علي الشقليني " و"الشيخ أم حُمّد ود علي الشقليني " والشيخ " أم حُمّد ود خليل ".
(4)
تم شراء خروفين لوليمتي الإفطار والغداء قبل بداية الرحلة. وبدأ البص مغادرة أم درمان غرباً . كان الطريق ترابياً. أثناء الطريق بدأ كبار السن في قراءة أجزاء من المحفوظ من " مولد الشيخ البرزنجي". ترتيل سجعي ، يتقنه الحفظة من المشايخ الذين برفقتنا، ونحن نُردد المقاطع : { صلي يا رب ثم سلم على منْ ، هو للخلق رحمة وشفاء }.
تراتيل دينية تناسب جلال الرحلة وهيبة المناسبة ، وتضفي مناخاً دينياً . والبص يسير خلال طريق ترابي مُتعرج ، خاصة عندما غادرنا أم درمان القديمة . كانت أم درمان وقتها شمالاً تنتهي عند مقابر " أحمد شرفي ".
عبرنا في طريقنا " كرري البلد " على اليمين ، وبعدها " الجزيرة اسلانج " ، ثم " السروراب ". وبعد حوالي الساعة وصلنا لقرية " الشيخ الطيب " . وانتقل البص غرباً إلى حيث ضريح " الشيخ الطيب" ومبنى خلوته قرب الجبل .
هنالك وادٍ متسع به شجيرات وأشجار متفرقة في بطن الوادي متناثرة في الموقع. منها شجر" اللّبخ " و"الدوم " وشجر "السدر" وشجيرة "الحناء" . تحت ظلال الأشجار كان المقام . توقف البص وهبطنا جميعاً .افتُرشت " البروش ". قام النسوة بتجهيز معدات الطبخ . وتم ذبح الخروفين وتجهيزهما بواسطة " عبد القادر " الجزار.
(5)
قام كبار السن بالتوافد على القبة والدخول لمكان ضريح "الشيخ الطيب ". جلس الأطفال على البروش ،والنسوة نهضنَّ لتجهيزالمواقد وإعداد الطعام . كان الوادي أرضاً مُشققة وغير مستوية. وهو مكان رحب و رائع ، لولا مشقة الجلوس طويلاً على "البروش " ولكن لا مفر من المقيل .
أُشعلت المواقد لطهي اللحم ، وصنع المرق والأرز واللحم مع " الكسرّة" . كانت وجبة الإفطار طيبة وفق ما اعتدنا عليه ولكنها مميَّزة بوجود اللحم . بدأت وجبة الإفطار متأخرة بسبب الرحلة.
تجمع الأطياف من الحضور ، وغادرنا صعوداً إلى الجبل . سرت مقولة أن في الجبل أثرٌ لخطو ناقة الرسول الكريم اتقاء لعُصبة قريش التي كانت تبحث عنه . وكانوا يقولون لنا إن مؤخرة الجبل الذي اعتصم في كهفه ،كان امتداده هنا ، قرب ضريح "الشيخ الطيب "!. لم نكُن نُقدر المسافات أو نحقق صحة الرواية.ولم يكُن أمام طفولتنا غير التصديق.
صعدنا هناك على سفح الجبل . ورأينا آثار خطو ناقة الرسول ، كأنها هيَّ وفق تصورات طفولتنا وتأكيد كِبار السن. لم نسأل عن الصلة بين الجبل غرب أم درمان والغار الذي تقول السيرة النبوية أن النبي الأكرم قد لجأ إليه مع صديقه الصحابي أبوبكر بن أبي قحافة، في طريق هجرته من " مكة" إلى " المدينة". كانت معارفنا العلمية والجغرافية ضئيلة .و كان كبار السن هم المصدر الموثوق في نظرنا.
تم منعنا من الدخول حيث موضع الضريح ، لأن طرائق الدخول إليه طقسٌ جاد لا يتقنه الأطفال . قضينا الوقت نتجول في المناطق القريبة على سفح الجبل ، أو حول قبة "الشيخ الطيب "، أو نعود إلى المعسكر تحت الأشجار عند الوادي القريب، نجلس على البروش . كانت الحمامات هي قضية الساعة ، لأنها محدودة العدد ، ولا تسع السياحة شبه الدينية التي بدأناها اليوم .
(6)
ركب كبار السن والشباب البص لأقرب مسجد لصلاة الجمعة عند منتصف النهار، وعادوا عند الساعة الواحدة والنصف من بعد الظهيرة . انفردنا نحن الأطفال الصغار ببعضنا ، وقضينا اليوم في ألعاب الطفولة التي تناسب عُمرنا. صعدنا إلى الأشجار القريبة ، وقطعنا بعض الأفرُع لاستخدامها كعصي للمبارزة أوقضاء الوقت في البحث عن مجموعة من الظلط الأملس لنرسم به الأشكال و نقلد نحن به كتابة الحروف العربية. أحد الأطفال جاء بكرة " الشُراب " ، فقضينا جُلّ وقتنا في لعب الكرة ، رغم أن الأرض تحت ظلال الأشجار لم تكُن ممهدة مع وجود بعض الشجيرات الشوكية .عند العصر وبعد وجبة السريد ، تمدد الجميع للنوم على البروش.
استيقظنا عصراً. اصطف كبار السن بعد الوضوء لأداء صلاة العصر في صفين ، بعدها تم طي البروش ، وغسل الأواني ، ورصها توطئة للعودة .
في طريق العودة ، بدأ الرجال ينشدون المدائح النبوية باللغة العامية . تلك لها إيقاع جليل مع التصفيق باليدين ، والنغم المموسق الذي يشبه الأغاني القديمة التي نعرفها. رحلة العودة كانت مثيرة لحماس الجميع وبدت لنا المسافة أقصر من سابقتها ،بعد انشغالنا بالسمر . قرب الغروب وصل البص إلى بيوت الحي بأبي كدوك .
عبدالله الشقليني
6 يناير 2018
alshiglini@gmail.com