"راحوا الرجال فضلوا الجتت *** وكل البقول الصِّح سكت"
مقدمة
قبل أسابيع مضت كتب الأديب عبد المنعم العوض رسالةً إلى صديقه المهندس السيد سليمان السيد، قائلاً: "اقرأ من خلال ما سطرت ما ترمي إليه، وكأنك تريد أن تقول: يا أهل نوري انتبهوا لثرواتكم القومية أن تضيع بين أيديكم. [العامل] حسونة، ليس مجرد شاعر وُلِد في نوري، أو انتمى إليها. حسونة ظاهرة من ظواهر الابداع في زمان لم تكن فيه أي وسيلة للحفظ، أو التدوين، أو التوثيق، أو الكتابة، أو التسجيل. إذاً كيف حصلنا على أشعار حسونة؟ وجدناها محفوظةً في صدور الرجال والنساء، ومدونةً في عقول الشباب والأطفال، هذه هي العبقرية الحقة.... لذا فحسونة ثروة لنوري وللمنطقة ولثقافتها، وقد هيأ الله وسخر الأمر للأستاذ عمر الحسين محمد خير؛ ليصبر ويتفانى في جمع هذا التراث الثر، بالرغم من قسوة الزمان والأقدار، حتى أكمل المشوار رجال آمنوا بهذه الرسالة، وظهر ديوان حسونة ورأى النور، كوليد بعد عقم." لعمري! سعدتُ بهذه البشارة، وبلغ السعد مبلغه عندما وصلتني بطاقة دعوة مكتوب عليها "ده المن قام نبت لابس قميصو *** يرقع ما يقد لزول حديثو ... رابطة أبناء نوري بالخرطوم ... تتشرف الرابطة ويسعدها دعوتكم لحضور حفل تدشين ديوان شاعر الشايقية حسونة... الزمان: الخميس 11/1/2018م الساعة 5 م ... المكان: دار أبناء نوري بالصحافة جنوب مستشفى إبراهيم مالك ... حضوركم يسعدننا ويزيدنا فخراً."
تمنيت لو كانت هذه التظاهرة الثقافية في حضور الأديب الألمعي الراحل عمر الحسين محمد خير (ت. 2004م)، الذي قضى النصف الأخير من تاريخ حياته العامر بالعطاء، مشغولاً في جمع أشعار العامل حسونة، الذي عاصر التركية السابقة (1820-1885م)، والمهدية (1885-1898م)، وطرفاً من العهد الإنجليزي-المصري (1898-1956م)، قبل أن تدركه المنية بقرية نوري عام 1927م، وفي رواية أخرى عام 1928م. وصف الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك حياة العامل حسونة في تلك الحقب التاريخية الثلاث بأنها كانت "صاخبة، وحافلة بالتجوال، إذ مدح وهجا الأعيان، وغنى في المحافل العامة من ود حامد إلى أرقو، فكان متنبيء عصره، ملأ الدنيا وشغل الناس .... نظم شعراً رائعاً في معظم ضروب الشعر، وكان مدحه وهجاؤه دامغاً، وترفَّع في الغزل، وأجاد في الوصف والفخر والزهد أيضاً، وبرع في العتاب والاعتذار، كما كان النابغة الذبياني."
ويقال إن العامل حسونة قد جمع أشعاره في مخطوط أطلق عليه سيد الأحكام؛ إلا أن ذلك المخطوط اختفى، أو ضاع برحيل صاحبه إلى الدار الآخرة. واجه الأستاذ عمر الحسين تحدٍ في جمع أشعار حسونة؛ لأنها لم تكن ذات منحى واحد من حيث الموضوع، بل كانت متنوعة في ضروبها، وشخوصها، ومناطقها؛ إلا أن هذه التحديات لم تقف عائقاً أمام عزيمة عمر الحسين، الذي كان مسكوناً بأشعار حسونة ومناسباتها. ولذلك قد تمكن من جمع معظم قصائده التي كانت متداولة بين الناس، وشرح مفرداتها، وبيَّن مناسباتها، وكتب مقدمة ضافية، لكنها ضاعت مع بعض أوراق المُصنِّف الأخرى وآماله وطموحاته العراض؛ لأن ود الحسين لم يكن متعجلاً على طبع ديوان حسونة ونشره؛ بقدر ما كان مشغولاً بتدقيق نصوصه، وتجويد شروحه، واتقان مخرجاته. ولذلك عتب المرحوم العمدة محمد أحمد كنيش على ذلك التأخير غير المبرر من وجهة نظره؛ لأنه كان متشوقاً لقراءة الديوان الذي يحمل بين دفتيه ثلة من القصائد الحسان في مدح جده العمدة ود كنيش الكبير. لكن قبل أن يرى الديوان النور، أطفأت الأقدار شموع البحث والتنقيب التي كانت مضيئة حول أدبينا اللوذعي عمر الحسين، تاركةً مخطوطة الديوان في شكل مسودات، تحتاج للتدقيق، والتنقيح، والإخراج الفني الذي يليق بمحتواها الفريد.
وأذكر بعد ثلاثة أعوام (2007م) من وفاة الشاعر عمر الحسين التقيتُ بالباحثة الفلكلورية الأستاذ فاطمة أحمد علي في الخرطوم، وسألتها عن مخطوطة ديوان العامل حسونة، وأفادتني بأن المخطوطة في حيازة المهندس سيف الدين حسن بابكر. سجلت زيارة للأستاذ سيف الدين في مكتبة الكائن جوار ميدان أبوجنـزير في الخرطوم، وأطلعني مشكوراً على صفحات المخطوطة المنضودة عن طريق جهاز الحاسب الآلي، وأفادني بأنه في انتظار إعلام شرعي من ورثة المرحوم عمر الحسين محمد خير، حتى يتثنى له نشر الديوان المنتظر، وعرضه للقارئين والمعجبين بتراث الشاعر حسونة. وعندما رأيت مخطوطة الديوان تمنيت لو أُعيدت الحياة مرة أخرى في جسد الشاعر المرهف عمر الحسين محمد خير؛ ليرى بعيني رأسه كيف ثـمَّن المعجبون بجهده الثر مخطوطة ديوان العامل حسونة؛ لتُنشر في ثوب قشيب يلامس أطراف أماني عمر الحسين التي كانت تواقةً لرؤية الديوان متداولاً بين أبناء الأسر والبيوتات التي زارها عمر راجلاً وراكباً أحياناً في سبيل جمع أشعار حسونة من صدور الحفاظ؛ ليعيد لذلك الشاعر المبدع سيرته الأولى بين الناس، وليعيد كنـزهم المفقود إلى مكانه الشاغر؛ لأن بداخله عقود من التصوير الجمالي البديع، و لآليء من الأدب الرفيع، وشموع من الشعر الوقاد؛ لشاعر عشق الجمال وتغنى به، وغازل السلطة وأتحف سلطانها، ووظف البيئة المحلية توظيفاً حافلاً في وصف رموزها الاجتماعية وقيمها الجمالية الساحرة.
حقاً سعدتُ اليوم، كما سعد الكثيرون، بتدشين ديوان العامل حسونة بدار أبناء نوري بالصحافة جنوب مستشفى إبراهيم مالك. نقلت إلينا الوسائط الاجتماعية طرفاً من ذلك الحفل البهيج الذي يليق بصاحب الديوان، الذي يصفه الراحل محجوب كرار بالشاعر المعياري. وكذلك طرفاً من معالم الديوان، الذي شكلت أهرامات نوري خلفية غلافه الأمامي، ثم صورة شخص بطربوش تركي، يقال إنها صورة متخيلة للشاعر حسونة، وصورة يراع يشهد بنص صريح على أن هذا الديوان "جمع، وشرح وتحقيق عمر الحسين"، ثم يظهر عنوان هذا السفر النفيس ببنط عريض: "ديوان حسونة شاعر الشايقية"، وفي قاعدة الغلاف الأمامي إشهاد نصه: "الإعداد والمراجعة: سيف الدين حسن بابكر". وتظهر على الغلاف الخلفي صورة الأستاذ عمر الحسين محمد خير، وفذلكة قصيرة عنه، ثم رسم نخلة، يرمز إلى البيئة التي عاش الشاعر الطموح حسونة بين ظهرانيها، وإلى الجانب الأيسر من النخلة نفس الصورة المتخيلة لصاحب الديوان التي وضعت على الغلاف الأمامي. ويوجد في قاعدة الغلاف الخلفي بيت شعر من الديوان يقرأ نصه "راحوا الرجال فضلوا الجتت *** وكل البقول الصح سكت." ولا جدال في أنَّ اختيار هذا البيت كان اختياراً موفقاً؛ لأنه يرمز لحالة النفاق السياسي التي يعيشها السودان اليوم، دون تحليل صائب وشجاع لطبيعة المشكلات التي يعاني منها السودان، ووضعها الحلول المناسبة لها.
ماذا يحمل الديوان بين دفتيه؟
يُستهل الديوان بثلاث مقدمات، لأعلام لهم اهتمام بأشعار العامل حسونة، وهم: البروفيسور علي أحمد بابكر، والمهندس سيف الدين حسن بابكر، والباحثة فاطمة أحمد علي. ثم تأتي بعد ذلك قصائد الشاعر حسونة بعناوين مختارة من نصوصها أو أسماء الأشخاص الذين قيلت فيهم، ونذكر منها على سبيل المثال، "الأغا محمد كنيش"، "يا واسع البال"، "عوج الدرب"، "الشيخ ود بشير"، "العمدة عبد الرحمن يوسف أغا"، "شمس الضحا". ويعكس تنوع قصائد الديوان بأن الشاعر حسونة حقاً متنبي زمانه، وشاعر عصره الذي لا يشق له غبار، لذلك كان الأعيان يتقربون إليه بالهدايا والمكرمات؛ لأن الشاعر في عرفهم كان يمثل لسان حال قومه، وصحافتهم السيارة، وتلفازهم المتنقل؛ يأنسون بمدحه في جُود الرجال الذين كانوا يقذفون للقريب جواهراً ويرسلون للبعيد سحائب، أمثال العمدة ود كنيش في نوري، والعمدة ود بشير في القرير، والعمدة أحمد شوك في جزيرة قنتي، والعمدة ود يوسف في ود حامد، والصاغ حسن وراق في نوري، والشيخ أحمد أب شأن (أب شام) في قنتي العونية. وأسمحوا لي يا ساداتي في الفقرات الآتية أن أقف عند بعض القصائد الجياد التي حملها هذا الديوان بين دفتيه.
حسونة والأعيان
سبق أن ذكرت أن الشاعر حسونة قد نظم قصائد جياد في مدح أعيان المنطقة، ونذكر منهم الأغا محمد أحمد كنيش (الكبير). والكنيشاب أصلهم من الكشاف البوشناق الذين حكموا المنطقة في عهد التركية السابقة، واختلطوا بالشايقية نسباً وثقافةً؛ ولذلك ينسب حسونة مجد العمدة ود كنيش إلى الكشاف البوشناق، الذين كانوا أهل سلطان وجاه في منطقة الدِّر بصعيد مصر، كما ورد في قصيدته السينية الشهيرة المذكورة أدناه:
قولي ليك ونظري ليك يا تلبي المعيس
أب زرد فحل الجواميس
ود ملوك الدِّر ماك رخيس
رتبتك من سيد الأنيس
ماب يطلوها الجساسيس
وماب يطلقولا البواليص
يأخي للراي يأخي للكيس
ورد علَّي كيةً للحديس
***
شولق العازات ود كنيش
ومقنع الكاشفات ود كنيش
وحوبة العوجات ود كنيش
ومِردة الطاشات ود كنيش
وأتبرا أب دالات ود كنيش
***
خب نعامك تور الريش
يعجبوك يالأغا بالقميص
الرجال ساكت غزار ديش
والرجال بتاب وإنت عيش
القمر إن وضح النجم ليش
والصقر إن رك الرخم فيش
****
وخارج نوري كان للشاعر حسونة علاقة وطيدة مع العمدة ود بشير أغا الأزيرق، زعيم الشايقية السوراب، الذي مدحه بفصيح القول، ومازه عن بقية العُمد، بوصفه "عمدة ما عمدة بواجير *** حقو ترتيب التوابير*** وكرسي قدام كرسي المدير*** خيلو بين الجبلين تغير". ويقرأ نص القصيدة كاملاً هكذا:
قولي فوق الأغا ود بشير
يا مريسيل يا زريزير
بي غزير الريش مني طير
جيب لي قاف الشيخ ود بشير
وصفو فوق الخيل يا حمير
وغادي من القمح آ شعير
الضحي جا وركب العصير
فوق بليماً بنسف الدّير
شفتو متل البرق البشيل
شن بِلِم ناس ديل مع ديل
وشن بِلِم الترعة والنيل
وشن بلم القمره والليل
يابا داخرنك لي التقيل
عمدة مو عمدة بواجير
حقو رتيب التوابير
وكرسي قدام كرسي المدير
خيلو بين الجبلين تغير
ومن جبال كجبي علي قدير
بالوعر كم شقوا التناقير
وطبلو دقّ وخلفلوا النقير
سيدي سيد عامراب القرير
وسيد عفو السقّاي والحفير
سيد جريف نوري أب تناقير
وسيد دويم شات والبسابير
ود عضام راجلاً شكلوغير
حاشا من اللوم يأب بشير
ومن القرير انتقل العامل حسونة إلى جزيرة قنتي، حيث وصف العمدة أحمد شوك محمد حسين، عمدة قنتي، ورئيس محكمة فرع البديرية، الذي عُرف بين الناس بالتُقى والصلاح، والكرم وعفة اللسان، التي تجلت في قول العامل: "ده من قام نبْت... لابس قميصو *** يرقّع ماب يقِد... لي زول حديثو. " وتكتمل الصورة بقراءة للنص أدناه.
أحمد شوك قدَّل... تِلْب التقيلي
ماب تتكرفس... يا عِرق النّجيلي
رمّيت الرجال... في قيد الحيلي
ومن عين الخلوق... فوقك ود بيلي
سيد أم ديِّ ...سيد ساقتو الكبيري
مبرْدِّح جامعو في وسْط الجزيري
******
أحمد شوك قدل ...شدّولو الميمونه
وكشحّوله الدِرع... لاعن عيونه
خدمة إيدو المحصنه مو مسكونه
وبركة شيخ خُدُّر...تبقالو شونه
*****
من قام نبْت... لابس قميصو
يرقّع ماب يقِد... لي زول حديثو
تُمساح أتْبَره ...الحاجر دِمسيسو
وبحر الدِّندِر ...المالِحقوا ميسو
وكمان فشل ...القياييس البقيسو
*****
أحمد شوك قدل... فوق المعاني
وكيف أصبحت... يا دُودْ الكواني
مونة قلبي... نور عينيه تاني
*****
أحمد شوك قدل... فوقك نبيّا
للجود والكرم ... إيدّك سخيَّه
حوض عشمي... البَزيل فيهو العليّا
*****
زولاً عالي شانو...وشدّولو البينتق في عِنانو
سيد قدحو... المجرجر لي ضيفانو
ونطــــــــــــــــــــوفا قَنَــــتِّي...... بالشِقّين فشانو
إلى جانب العمد مدح الشاعر حسونة بعض الأعيان البازين في المنطقة، ونذكر منهم الصاغ حسن وراق الذي كان يعمل في الجيش الإنجليزي-المصري، وينحدر نسباً من الوراريق أحفاد الشيخ وراق بن عبد الرحمن ود حاج الدويحي، الذين عُرفوا بالتقى والصلاح وإحياء نار القرآن في المنطقة، حيث يوجد مقرهم بدويم ود حاج قرب مروي، وشبا، والكاسنجر، والزورة. أما صداقته مع الصاغ حسن وراق فكانت ذات طعم ومذاق خاص، لأن مجالس أنسها كان تنعم بالبهجة والطرب، وترويض النفوس بالراح. وفي ذلك يقول العامل:
الأفندي التُركو صافين
أصلو ذرية صالحين
الوراريق الديّنين
صدرو باهي وقاري يس
عدلناب أخوالو بَينين
ده المنفل بي الجيهتين
ويقدِل اللابس النياشين
عِـدو مشوارك لا تلين
وقِدو سيرك وصلو الطين
وفي حرابتك خت اليقين
النصُر من رب العالمين
ماب يزول مكتوب الجبين
إن بقت دبابيرو إقرين
ماب نبدلا بالدرابزين
عندي مو سيد رفاي وخمسين
وعندي مو الدخري ويا الخزين
كفانا قولت يا لمين
ويا ولد هات دور الصِين
والجنّي عند رب العالمين
***
المرأة في أشعار حسونة
لم يكن العامل حسونة صاحب نظرة ذكورية بحكم واقع البيئة التي نشأ فيها، بل كان له تقدير خاص للمرأة ودورها في المجتمع، ولذلك نظم في بعض النساء الشهيرات في المنطقة، عزلاً رفيع المقام، ومدحاً يلامس أطراف هامات أدوارهن الاجتماعية. ونستشهد في هذا المقام بقصيدتين؛ تبرزان للقارئ مكانة المرأة في ديوان حسونة، وفي ذلك المجتمع الريفي البسيط. ونبدأ بمدحه للمرأة النموذجية في ذلك الوقت جمال الباشا، التي كانت صاحبة أصل عريق، فضلاً عن ثروتها الطائلة التي تمثلت في أرضيها الزراعية، وسواقيها التي كانت تدور أناء الليل وأطراف النهار، وبساتينها المصفوفة "روق روق"، كما أنها زانت ذلك الثراء بأياديها البيضاء في العطاء والانفاق. ولذلك وصفها حسونة، قائلاً:
يا لِسان................ ما تقْلِب تروق
في الحريفي.......... التعْرِف الذوق
سِت حَلْقةً............... وتوراً يسوق
وست جِنّينةً تهجا........... وتشوق
مِنْطرِد ليمونا............. رُوقْ روق
ودَفّة............ ساريها الموج يتوق
على الدُقون جات طامْحي بي فوق
وبيته يلْفي....... الجُضْمو مطْفوق
ما تخلوا الجّخ.............. يا علوق
وقِرّوا للباشا.......... الرخا السوق
تمشوا نافخين .......والبيوت قوق
جمال ..............يا دُشية الشُروق
ويا جمال ............حيّرتي الخُلوق
أما المرأة النموذجية الثانية التي كان لها حضور متميزاً في أشعار العامل حسونة هي "نفيسة بت الفكي أحمد"، التي وصف أصولها وصفاً بليغاً، بقوله: "معروف جدها *** أبو علي يا لقايط *** وهسع خاله *** فوق أندادو فايت***يفك وينفك***ويجاوب الغفرو ظايط *** ويشيل فوق الدَبر *** لو كان ظلايط "؛ كما تغزل فيها غزلاً عفيفاً، عندما قال: " إن قُتْ صبْ *** عويده عليهو أسمح *** وإن قت ماس *** جسيمه عليهو أبلح *** وإن قت نور *** ياكي بت أب نوراً يقدح *** عريسك إن يرضولوا بي ستمية يفرح *** ونحاسو يدُّق ضحى *** وخيالتو تمرح". تأمل في هذا الوصف وفي هذا الإبداع! إن القارئ المتمعن في نصوص هذه القصيدة يجد إبداعاً في النظم، وسحراً في الوصف، طُرِّز بمغازل عفة، خيوطها جماليات البيئة المحلية التي نشأت فيها بت الفكي أحمد.
بَجُر النمّه............ كيتاً لي الشمايت
ليْ بت البعتقوا ............ الدمو بايت
الحُر والحرير........... غالي الربايط
وعند أمك ........نهارت الناس حتايت
معروف جدها....... أبو علي يا لقايط
وهسع خاله......... فوق أندادو فايت
يفك وينفك ..... ويجاوب الغفرو ظايط
ويشيل فوق الدَبر...... لو كان ظلايط
*****
فوق بت الفكي......... العامل بيشرح
ويجر فوق بحرك... الكل مالو يطمح
إن قُتْ صبْ..... عويده عليهو أسمح
وإن قت ماس... جسيمه عليهو أبلح
وإن قت نور .. ياكي بت أب نوراً يقدح
عريسك إن يرضولوا بي ستمية يفرح
ونحاسو يدُّق ضحي.... وخيالتو تمرح
*****
بجر النمه.................. ليكي انا يا بُرِّيبه
ودِهيب الكيس نفيسه...... الفي غريبه
الراس مالو ألفين.............. ماب يجيبه
إلا الينقش الياغوت.................. صليبه
عشان والداها.............بت ناظر الغويبه
*****
نفيسه الفي القرير .....شال سِلْكو قوّد
وعجين المحلب............. الملكوك مزبّد
تعباني الخلوق........... تتباكي وتنصدد
إن بقت بالفَرْدي... ياك بت الفكي أحمد
وإن بقت بالطِرْقي ياك بت الفكي أحمد
*****
بجر النمه... .................ليك يا كُروكابا
وقصيبة التقنت............ المزروعه دابا
كم عِندك عِمم ............ماسكين كتابا
وكم عندك رجال ..........عاصرين ركابا
تايهين في العبوس.......... ليلة طرابا
وكفاي اسمك ........أريتو المال خرابا
فشان ما دام .........من زمن الصحابا
*****
بجر النمه..................ليك انا يا جدّايا
ونضيف القُمقُم ...........المنظوم وَقايه
وحرير مصِّر ..........المطرّز في العبايه
سعيد الدنيا ................يقْدِّم للحصايه
ويزور أبواته من جم ..............رايه رايه
ده بت أهل المساجد............ والقرايه
وكفاي اسمك ......ولا المنظوم وغنايا
خاتمة
قبل عشر سنوات مضت كتبتُ مقالاً بعنوان " فِكُّوا أسر ديوان الشاعر حسونة يا هؤلاء!"، وكان الغرض منه تشجيع القائمين على أمر الديوان بنشره، وجعل مادته متاحةً للباحثين والقارئين المعجبين بأشعار العامل حسونة. ولا استغراب في أنَّ جميع هؤلاء سعيدون الآن بتدشين الديوان، وكل واحد منهم حريص على اقتناء نسخته الخاصة؛ ليقرأها مثنى وثلاث ورباع بإمتاع ومؤانسة، وبحثاً في ثنايا الديوان عن القصائد التي أنشدها حسونة في أحد معارفه، أو الأرض التي ينتمون إليها. وبعضهم يدقق في النصوص، يحتج بأنَّه قد سمعها على رواية أخرى، أو ذُكرت في مدح، أو هجاء شخص آخر. تذكرني مثل هذه الملحوظات أو التعليقات المتوقعة بالطبعة الأولى لقاموس اللهجة العاميَّة في السودان للبروفيسور عون الشريف قاسم، الذي كان يتوقع بحدسه الأكاديمي تعليقات مادحة أو قادحة في مفردات القاموس؛ إلا أنه تابعها وجمعها بحرصٍ شديدٍ، ثم نقَّح المتواتر منها وأضافه إلى الطبعة الثانية، التي جبَّت الطبعة الأولى، وشذبتها وأضافت إليها من حيث العمق والسعة. آمل أن ينتبه القائمون على ديوان حسونة لمثل هذه التعليقات والملحوظات المتوقعة، ويجمعوها بروية وتؤدة، إن وجدت؛ لأنها ستشكل إضافة مهمة للطبعة الثانية للديوان؛ لأن الديوان كسائر أدبيات التراث الشعبي، قد جُمع من صدور الحفاظ الذين كانوا يرونه متواتراً أو آحاداً. والملحوظة الثانية المهمة قد أشار إليها من قبل الصديق البروفيسور يس محمد يس في حواراته المسجلة عن الشاعر حسونة مع الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك، ومفادها أنَّ معظم قصائد حسونة تحتاج إلى قراءات صوتية؛ لأن بعض مفرداتها يصعب نطقها نطقاً صحيحاً، أو فهم معانيها من واقع البيئة التي نشأت فيها، وكذلك مناسباتها التي تضفي على النص بُعداً آخر. ولذلك آمل أن يواصل الأخ محمد أبوشوك في توثيق القراءات الصوتية، وكل من له باع في هذا المضمار، ويجعلوها متاحةً للمحبين لسماع قصائد حسونة بمفرداتها ومناسباتها الاجتماعية.
وفي الختام يطيب ليَّ أنْ أزف التهنئة الصادقة إلى كل الذين أسهموا في جمع مادة هذا الديوان، وطبعها، ونشرها للقارئين المهتمين بتراث منطقة مروي الكبرى، التي يعتبرها الأستاذ محجوب كرار بيئةً ثقافيةً واحدةً، متفردةً بتنوعها الثقافي، والديني، والعرقي؛ ولذلك لها الفضل في صوغ شخصية الشاعر حسونة، وكل شعراء منحنى النيل المبدعين.
ahmedabushouk62@hotmail.com