منصور السيكوباتي

 


 

 

 

هو يعيش بيننا . كأن طفولته قد عبثت بها الظروف والأقدار والبُقع الغامضة التي لا يعرف مزالقها إلا عالم نفس بشرية أو مستبصر. لم يكن في مقدور مجتمعه أن يُجني عليه ، إلا أن لوالده يدٌ في تربيته القاسية ، لتندسّ تلك الخصلة في أعشاش عقله الغامض وتسكن فيه السيكوباتية إلى الأبد. 

كل منْ يقرأ حاضره ، يظلُ على يقين من أن طفولته قد تلظت بنيران حياة قاسية وطفولة تعسة ، أسهمت في تنشئة تلك البقعة السوداء داخل نفسه، فلم يعُد يحسّ بشيء مما يدور حوله . هو نتاج مجتمعنا بإمتياز .وفّر له كل تعليم ممكن، حتى يكون قادراً على تضميد جراح ماضيه وتستمر الحياة ، لكن ذلك لم يحدث . ما وجده من التعليم المُيسر كان يجعله مُبرأً من عيوب الدونية ليغتسل من الماضي وأدرانه، كأن داؤه ليست له مُبررات ، وأن السيكوباتية كأنها جاءت من علٍ، صاعقة هبطت على شجر ، لتجد هذا الجسد المربوع فتستوطنه.
(1)
درس في كورسات تأهيل المعلمين ببخت الرضا في " الدويم "، فقد كان معلماً في المرحلة الوسطى ، ثم درس الجامعة في سبعينات القرن العشرين منتدباً من وزارة التربية والتعليم ، ثم ترقى معلماً في المدراس الثانوية ، ثم الجامعة . وابتُعث للدراسات العليا ونال درجة الماجستير في المملكة المتحدة بعد إعسارٍ ومشقة شديدين . تجربته في بريطانيا أثناء تحصيله الدراسات العليا، تُكشف السيكوباتية في أصدق تجلياتها وقد تضخمت في نفسه . وتصور أنه ينتقد الشيوعيين في المنبر الإخواني في المهجر، و أعلن على الملأ أنه يستقيل من الحزب الشيوعي ، في حين أنه لم ينتمِ إليه في يومٍ من الأيام!. عاد للحركة الإسلامية وتنظيمها في المملكة المتحدة . وعقد حلفه مع أبناء الشيطان عله يظفر بمنصب عالٍ ، يحقق به الكثير من طموحاته الشخصية ، ولكنه لم يجد أو لم يصبر على سلحفائية خُطط المتأسلمين.
(2)
لم يهبه المولى قطرة من حُسن أو بهاء أو حتى قبح متوسط يضيع في زحمة الأيام لا يلحظه أحد. ألمَّ به القُبح في أوضح معانيه . وكلما طال به العمر ، ازداد قبحاً . أصبح شيخاً غارقاً في السيكوباتية، يملء فمه بالسباب المُقزع . عيناه تتوهجان احمراراً ، كأنه قضى أمسه في السهر والسُكر. لا يحب إلا نفسه ولا يعشق إلا إياها. مفرِط الأنانية . يمتاز إضافة على ما به من عيوب بآفة الحسد ، والشيء بالشيء يُذكر فقد أشعر " خليل فرح " :
الحسود يتضوَّر
نارهُ ماكلة لسانهُ
كله زور ومزوّر

كانت الغيرة تأكل قلبه ، كلما ذُكرَ عالم أو زكيَّ أحد غيره من الناس ، إلا وتجد أفكاره تسبقه لينافسه ويخرق العادة فلا يصبر ويدعّي أنه يتفوق عليه.ويجد نفسه دون مُبرر يُزكي نفسه على الملأ ،فهو الأفضل و الأعلم ،بل هو العالِم الذي لا يشق له غبار والمترجم والنابغة الذي يغرف من كل العلوم .و لا يحتاج أن يقرأ عن أي موضوع ، لأنه يعرف كل شيء.
كان " منصور " يأتي إلى المحاضرة التي يفرض فيها نفسه غصباً ، بلا تحضير وكأنه ملك زمانه. ومن أميز صفاته صناعة الإشاعات ، وطبخ القوالات. فقد تخصص في زرع النقائص عن الآخرين للتقليل من شأنهم . يقوم بنقل الأحاديث ، وإعادة تعبئتها وتدويرها لتناسب فكرته المريضة لتشويه الآخرين . يتناول سيَّر الناس وأسرهم بالتفاصيل المملّة عن طريق القيل والقال ، وينسج منوله في صناعة الأشخاص وتدمير سمعتهم وفق خياله . له قدرة تآمرية حاذقة في صناعة خيوط الكذب وتصديقها .فيخرج عن الناس عيوب ليست فيهم .وإن لم يجدها ، ففي عقله يصنعها ويدبّر طريقها وينشرها بين الناس. وقد أسهم هذا المسلك في تشويه اجتماعيات كثير من السودانيين في محيط حياته التي عاشها في المملكة المتحدة ، في الفترة التي قضاها هناك . يتناقل الخبايا ، ويعيد تدويرها في ذهنه وتضخيمها ، لتُصبح كرات لهب ، يقذف بها من يشاء أن ينتاشه ، ويفرح لنتائج كيده .

(3)

كان يرغب أن يكون صاحب شأن ومنصب مرموق ، ولكن اللؤم داخل نفسه وأنانيته المُفرطة ،وإحساسه الغريب بالدونية ، تصيبه بالخذلان في كل مرة. حاول في حياته الإنتماء للحزب الشيوعي ولم يتسن له ذلك ، وانتمى للجسد الديمقراطي الفضفاض .
بعد حوادث 19 يوليو 1971 ، كان لديه إحساس بأنه مُطارد ومطلوب للمحاكمة ، فقد زين له تفكيره المُخاتل بأنه رقم قيادي مُعارض ليس له نظير ، تُلاحقه الدولة وأجهزتها الأمنية . سافر خارج السودان لشرق أوروبا، فقد كان السفر مُيسراً تلك الأيام .ساح ما شاءت له السياحة ، ورأى في نفسه قائداً مُعارضاً يُحسب له ألف حساب . وفي الحقيقة كان يصور له ذهنه عِظم المسئولية السياسية التي يظنها في نفسه .
بعد زمان عاد إلى الوطن بهدوء ورجع لوظيفته في التدريس ولم يكن كما كان يتصور . واكتشف أنه شخص عادي ، لا أهمية له. وهذا ما يجعله يحقد على الآخرين . انتُدب لدراسة الجامعة من وزارة التربية والتعليم في منتصف سبعينات القرن العشرين.
(4)
لم ترو ظمأه الحركة الإسلامية ، ولم تغريه طموحاتها الدءوبة ، فلم تزل هي تُداهن انقلاب مايو، محاولة الزحف إلى مفاصل الدولة والسلطة. فضّل أن ينتمي لحزب الأغلبية ، فحزب الأمة هو الأقرب لطموحاته ،واعتقد أنهم سوف يفسحون له المجال بما يراه في نفسه من علم وخبرة . رغب أن يرشحوه نائباً في البرلمان عن منطقته. ونصحوه بأن يتقدم في دائرة أهله ،الذين يدّعي أنهم من الشمالية ، لأن دائرة سنار مقفولة للحزب ، ولا يريد الحزب التفريط فيها. ففشلت مساعيه .
التحق بالحزب الاتحادي الديمقراطي ، وهو حزب فضفاض ، غلبت عليه تركيبته الطائفية منذ رحيل "الشريف حسين الهندي". وكان الحزب من الضعف بحيث يقبل أي كان ضمن أعضائه فكان طريقه ممهداً .حاول قد استطاعته أن يصبح قيادياً ، ولكن تسرعه أفشل كل مساعيه .
*
بعد انتفاضة 1985 ساءت أحواله المادية ، وضاقت به الحياة . ووصل به الأمر أن حاول الانتحار ، بصعوده أحد الجسور الحديدية في الخرطوم. وجاءت الشرطة وأنزلته وشاهده جمع غفير من الناس. وهو حادث غريب ، ظل مثار تندُر كل من عرفه . ذاعت شهرته من أثر حادث محاولة الانتحار، كما تناولت خبره الصحف والمجلات أيام الديمقراطية الثالثة.
*
بعد الانقاذ ، اتصل ببعض زملائه في جامعة الجزيرة ، وكانت تزكيتهم له سبباً في أن يكون عضواً في هيئة التدريس. ومن هناك بدأ يوثق صلاته برموز المتأسلمين . واستطاع أن يدبِّر تقريراً لدى الأمن عن زملائه الذين أحسنوا إليه ،بأنهم " شيوعيين نشطين " ، ليخلو له المناخ في الكلية بإحالة زملاءه للصالح العام ، ويبقى هو . ويقضي بذلك على إمكانية وجود منْ فعل له خيراً في حياته، فهو يرى نفسه العبقري الأوحد، والمطلوب للعمل في أي مكان!. ولكن انطفأت شرارة مكره وعرفته الجامعة وطردته ، فهاجر خارج البلاد طلباً للعمل.
*
مرة زار زعيم حزب الأمة الإمارات العربية المتحدة عام 2000 . وكان " منصور" مهاجراً في ذلك البلد . عرض زعيم الأنصار في خطابه الذي ألقاه في محاضرة عامة، أن العودة للوطن هي الوسيلة الناجعة للمعارضة ، بعد أن تراخت قبضة الدولة وأتاحت قدراً من الحريات العامة . وأعلن أنه سوف يعود معه مقاتلوا الحزب الذين كانوا في حدود شرق السودان . و في رد زعيم حزب الأمة على سؤال عن مصير الطائفية ، أجاب أنها ستزول مع الزمن وعودة الوعي للجماهير.
رفع " منصور" يده يطلب الحديث . وبدأ قوله :
- الإمام بن الإمام بن الإمام ...
وعندها ساد الهرج في القاعة من نزيف التملُق وصفات التبجيل . ابتأس زعيم حزب الأمة على الثناء والمداهنة، وهبط شأن " منصور" وسط جميع معارفه ، ولم ينتبه أحد لما يقوله .

(5)

إن السيكوباتية مرض عقلي يتميز صاحبه بالسطحية و انعدام الشعور بالخجل ، و السلوك المعادى للمجتمع و الناس ، و فقر عام فى الانفعالات الإنسانية ، و البعد عن العلاقات الشخصية. يحتمل ان يكون الشخص السيكوباتى ضحية حرمان انفعالي و معاملة قاسية في سنوات طفولته المبكرة، فينشأ على عادات المكر و الغدر و الاحتيال من أجل أن ينال رغباته و مطالبه.

إنه شخصية إجرامية التركيب نظرياً وعملياً .على عكس المصابون بالنيوروز مثلاً ، النيوروزي في إمكانه أن يرتكب جُنحة و يندم عليها، لكن السيكوباتى لا يندم على أعماله السيئة ،بل تمنحه قدراً من المتعة واللذّة ، فلا يهتم إذا تم القبض عليه و يستمر فى التفكير و تدبير أعمال سوف تؤدي لاحقاً لإلقاء القبض عليه مرات عديدة. السيكوباتى يرتكب أعمال سيئة مثل السرقة أو الاختلاس أو يعتدى على الناس ويمكن أن يغتصب الأطفال و البنات و يدبر خططه بذكاء .و من الممكن أن يكون شخصاً متعلماً ، فيستخدم ما تعلمه لتحقيق أهدافه الاجرامية. هو يعانى من الأنانية المفرطة و يكره الآخرين الذين لا يهبونه فرصة كي يعتدي عليهم أوعلى أشيائهم، كما يحقد عليهم و يكرهم إن أمسكوا به متلبثاً . لديه كراهية مُتأصلة للناس و المجتمع و العمل المثمر و العدل .تلك الصفات كلها تنطبق على " منصور" ، فهو صورة وأنموذج للشخص السيكوباتي .

أمثاله غالباً ينتهي بهم الأمر بدخول السجن، لكن في بعض الأحيان لا يصل الأمر للسجن حيث أنه عادة يستخدم ذكاءه كي يتهرب من الجرائم والمسؤوليات. هو شخص لا يتعلم من تجربته ولا يندم على عمل نفّذه ، وليست لديه ذرة من تأنيب الضمير . السيكوباتيون الشيوخ عادة يتلفظون بالألفاظ النابية . يحيون ويموتون وفي نفوسهم كل عاهات النفس البشرية ، ولا علاج يعيدهم إلى الحياة السويّة ولو شئنا .

عبدالله الشقليني
28 يناير 2018


alshiglini@gmail.com

 

آراء