السودان، الى أين؟ (2): حتى لا تكون اتفاقية سلام جوبا مدخلا لإعادة إنتاج حكومة الإنقاذ والإجهاز على ثورة ديسمبر

 


 

 

هل من الممكن أن يقودنا التفكر فى مصدر تمويل الحركات والجماعات المسلحة الى كشف هويتها وارتباطها بالإنقاذ أو قوى خارجية؟
هل كانت إتفاقية سلام جوبا بداية الإنقلاب على الثورة والوثيقة الدستورية؟
***
فى المقال السابق توقفت عند إرتباط إنقلاب 25 اكتوبر بتحقيق تغيير فى الشأن الإثيوبى بما يحقق الأمن المائى لمصر وأن قفل شرق السودان ربما كان غطاءا لنقل إمداد ودعم عسكري عبر شرق السودان لمقاتلى التقراى. فى هذا المقال أتوقف عند القوى الداخلية التى صنعت الإنقلاب وأهدافها وأن إتفاقية جوبا كانت أول محطات الإنقلاب على ثورة ديسمبر.

هوية الحركات والجماعات المسلحة:
بما أن الحركات المسلحة قد عادت للمشهد السياسى من خلال إتفاق سلام جوبا وكان لبعض هذه الجماعات دور فاعل فى الإنقلاب على الحكومة المدنية رغم مشاركتهم فيها، فمن المنطقى أن نتساءل عن هويتهم وأجندتهم.
ان التدقيق فى مصادر تمويل الحركات والجماعات المسلحة فى السودان يكشف هويتها واجندتها. هناك ثلاثة مصادر رئيسية لتمويل الحركات والجماعات المسلحة فى السودان. اول هذه المصادر السيطرة على مناجم الذهب وتحويل ما هو ثروة قومية وملكا عاما ليصبح ملكا خاصا لزعماء المليشيات ليتحولوا من حفاة عراة إلى مليارديرات يغدقون العطاء على جنودهم ويشترون من العتاد العسكرى ما لم تمتلكه قواتنا المسلحة، وكل هذا التمويل مقابل الفتك بمن عارض حكومة الإنقاذ. وبالضرورة إن السيطرة على هذه الثروات القومية وتحويلها لملك خاص ما كان ليتم إلا بموافقة حكومة الإنقاذ.
النوع الثاني من التمويل هو الدفعيات المالية من خزينة الدولة لكل من وافق الإنقاذ وحالفها وصار مرتزقا عندها بغض النظر عن صدق النوايا والتوجه فى المرحلة الأولى من تأسيس الحركة المسلحة. ويبدو ان الإنقاذ قد استفادت من مرتزقة الحركات المسلحة التى كانت فى ظاهر الأمر تمثل معارضة مسلحة ولكن فى باطن الأمر وحقيقته كانت حليفا ومعينا للانقاذ لتوازن بهم كفة الجماعات المسلحة التى كانت تناكف الإنقاذ وربما تغازلها بين الحين والآخر بالجلوس على طاولة المفاوضات. وهنا تلعب الجماعات المسلحة المرتزقة دور خفض سقف مطالبات الجماعات المناكفة. ولا استبعد ابدا ان جنود هذه الحركات والجماعات المسلحة المرتزقة هم انفسهم كتائب الظل التى كانت وما زالت تفتك بالثوار.
النوع الثالث من مصادر تمويل الجماعات المسلحة هو الإعتماد على جهات خارجية لها اجندتها الإقليمية والتى لا ينفك السودان من أن يكون جزءا منها.
بالنظر لمصادر التمويل الضخم لشراء السلاح والذخيرة والسيارات ذات الدفع الرباعي ومرتبات ومؤن الجنود نرى ان الجماعات المسلحة إما مرتبطة بالإنقاذ أو جهات خارجية لها أجندة اقليمية. لذا فإن اتفاقية جوبا مكنت من عودة أخطر عناصر الإنقاذ للمشهد السياسى وجعلتهم جزءا من الحكومة الإنتقالية والحالمين بأن يرثوا الحكومة المنتخبة القادمة. لذا جاء إعتصام "الموز" الذى نظمه نفر من الموقعين على إتفاقية جوبا كخطوة مهمة للتمهيد لإنقلاب 25 أكتوبر.
من الضرورى أن تبين الحركات المسلحة للشعب السودانى من كانت تقاتل عندما كانت تشارك الإنقاذ فى الحكم وتستلم المال منه. ومن المهم أن تخبر الجماعات المسلحة من تدعى تمثيلهم وتقاتل بإسمهم ماذا حققت لهم والى أى مدى زادت النزاعات المسلحة التى شاركت فيها هذه الجماعات من معاناة من يتحدثون بإسمهم.
إتفاقية جوبا أعادت للحكم حلفاء الإنقاذ مع روح الجهوية والعنصرية والكراهية والعنف:
من يتمعن روح ونصوص إتفاقية سلام جوبا ويراجع أسماء بعض القيادات التى وقعت عليها يجد بصمات الإنقاذ بادية للعيان. فى تقديرى ان إتفاقية سلام جوبا كانت أول خطوة للإنقلاب على روح ثورة ديسمبر وإعادة إنتاج الإنقاذ. فيما يلى بعض التفصيل لهذا التحليل:
أولا: شرعنة عودة حلفاء الإنقاذ من الحركات والجماعات المسلحة للحكم: فى الفقرات السابقة تناولت هوية الحركات المسلحة وأجندتها وإرتباطها بحكومة الإنقاذ من حيث مصادر التمويل وأثرت تساؤلا عن إرتباط جنودها بكتائب الظل. ولقد رأينا كيف إنقض عدد ممن إنخرطوا فى الحكومة الإنتقالية بموجب إتفاق جوبا على ذات الحكومة من خلال "إعتصام الموز" وساهموا فى شرعنة الانقلاب على الثورة واجهاضها.
ثانيا: إعادة روح الجهوية وتقنينها كبديل لروح الوطنية: جاءت روح ونصوص وملحقات اتفاق جوبا بالجهوية والعنصرية القبيحة التى انتجها الانقاذ تحت مسمى المسارات واسقطت تماما الروح الوطنية القومية التى بعثها شباب الثورة فى جسد ما تبقى من السودان بعد ما قسمته حكومة الإنقاذ. كما سعت الإتفاقية الى تثبيت مكاسب جهوية واثنية خلافا على التأكيد على روح العدالة الإجتماعية والإقتصادية فى كل ربوع السودان ولكل أهله.
ثالثا: جاء اتفاق جوبا امتدادا لروح النزاع العنصرى والرغبة فى الإقتتال وتمزيق السودان تحت مسميات تحرير السودان وتحرير كوش وما الى ذلك. كل من يدعو لتحرير السودان أو جزء من السودان فهو يدعى أن عرقا أجنبيا قد سيطر على السودان ويجب القضاء عليه. فهذه دعوة لإستمرار النزاع والإقتتال وليست دعوة للسلام فى ظل وطن متعدد العرقيات، ويمثل هذا التوجه ومسميات الكيانات الموقعة على إتفاق جوبا تناقضا حتى مع الفقرة 18 من الإتفاق والتى تدعو الى نبذ العنصرية وتجريمها.
رابعا: مهّد اتفاق جوبا لتمكين بقايا الإنقاذ ممن وقعوا اتفاق جوبا ليكونوا جزءا من الحكومة الانتقالية والحكومة المنتخبة القادمة كذلك. وهذا خلافا لما نصت عليه المادة 20 من الوثيقة الدستورية بأن من يشارك فى الحكومة الانتقالية لا يحق له الترشح للحكومة القادمة اذ نص اتفاق جوبا على استثناء الموقعين على الاتفاق من المادة 20 من الوثيقة الدستورية دون غيرهم.
هذه أمثلة قليلة جدا للتأكيد على أن اتفاقية جوبا جاءت لتمثل اول إجهاض وانقلاب على ثورة ديسمبر روحا وجسدا واحلت اتفاق جوبا الذى يمثل الجهوية والعنصرية الانقاذية الكيزانية محل الوثيقة الدستورية ذات الروح القومية.
فى ظل غياب الشفافية والمحاسبة، هناك تخوف من أن الأموال التى خصصتها إتفاقية جوبا لتنمية المناطق المهمشة قد تستغل لتمويل الحركات المسلحة بدلا عن تنمية أهلنا من مواطنى السودان الذين أهلكتهم النزاعات المسلحة.

ماهى دلالات هذا التحليل؟
أولا: يجب على كل الحركات والجماعات المسلحة أن تقدم للشعب السودانى كشفا كاملا لمصادر تمويلها وعتادها حتى تبرى نفسها من شبهة الحصول على تمويل من الإنقاذ أو قوى خارجية. كما يجب معاملة هذه الحركات والجماعات معاملة الأحزاب السياسية التى لا يريد لها الشارع الثائر أى دور فى الحكومة الإنتقالية.
كما يجب أن تتحول هذه الحركات والجماعات المسلحة لتنظيمات حزبية تنبذ العنف والجهوية والعنصرية.
ليس هناك مكان لحركات وجماعات مسلحة بعد الثورة وليس هناك مكان لمسميات "تحرير السودان" أو تحرير أى جزء من السودان فى ظل الإجماع الوطنى بأن السودان وطن متعدد القوميات والأعراق.
ثانيا: لا بد من سن ميثاق جديد يسنده القانون يلزم من يعتزم الإنخراط فى العمل السياسى أن يتقدم بإبراء الذمة ونبذ خطاب الكراهية والجهوية والعنصرية والعنف والتعهد بعدم تملك واستخدام السلاح خارج المؤسسات الأمنية للدولة والمتمثلة فى القوات المسلحة والشرطة.
ثالثا: ثورة ديسمبر، مثل سابقاتها فى اكتوبر 1964 وابريل 1985، نجحت فى إزالة حكومات طاغية، ولكنها فشلت فى إنتاج حكومات راشدة فاعلة. إلا أن إنقاذ وإكمال ثورة ديسمبر يقتضى إقصاءا سياسيا خلال الفترة الإنتقالية (على الأقل) لكل من شارك سياسيا فى مؤسسات الإنقاذ، ومحاسبة قانونية لكل من شارك فى نهب وتملك الثروات القومية والمال العام واسترداد ما بيده من هذه الأموال. إنفاذ وإكمال ثورة ديسمبر ممكن جدا لأن هذه الثورة تتميز بدرجة عالية من الوعى السياسى، والتفاعل الجماهيرى، وقدرة على الإستمرارية خلافا لسابقاتها من الثورات التى شهدها السودان.
رابعا: الحرية والسلام والعدالة، وإنصاف من ظلمتهم وقهرتهم وافقرتهم حكومة الإنقاذ مبادئ ثابتة لا رجعة عنها ولا مساومة عليها وتقع مسئولية تحقيقها على المؤسسات المختصة فى الدولة.
لا يحق لأى حزب أو حركة مسلحة أن تتدعى تمثيل أو حماية إقليم أو مجموعة سكانية دون الحصول على تفويض جماهيرى من خلال انتخابات عامة.

28 نوفمبر 2021
msafieldin@gmail.com
///////////////////////

 

آراء