آليات الكشف عن (التطرف) حثيثاً (2)

 


 

 

إن كانت الأديان تحرض على العنف فكيف استطاعت أن تجتذب إليها هذا العدد من البشر بل وتؤسس لهم ملاذاً روحياً ضد العنف؟!

إن تخزين معنى خالد للجهاد أنه بمعنى القتل يجعل المعرفة به دائرية وعاجزة عن إنتاج نفسها..!

الجهاد بمعنى المدافعة الذي هو أصل التوصيف  القرآني لهذه المسألة، والمال مقدم على النفس!!

المودودي طرح وأصل لمفهوم (الحاكمية لله) بدافع المواجهة لانحراف فرقة القاديانية..!

العنف طارئ ولا مرجعي..

 

ghassanworld@gmail.com

في سبيل الوقوف عند الحقيقة يتوجب على الحصيف غير المبالي بالمكاسب الرخيصة والمؤقتة، أن يقول بوجوب بل وإلزام نفسه والآخرين بعدم الإصرار على تبييض الحقائق باعتبارها نهائية، وفي مسألة العنف علينا التوقف عن الهرولة مكشوفة الطابع منتهبة الخطى ممجوجة، نقول علينا ألا نتسارع في البناء النظري فهماً ومعرفة، فالعنف ليس شيئاً طارئاً في الفعل الاجتماعي، هو طارئ ولا مرجعي في نسبته إلى بنى ثابتة توفر حدوث مدان ومجاني للمستعجلة من المفكرين، ونعلم أن حسن النوايا من يقود الكثيرين ويجعل خطاهم نحو الحل متشبثة بالتداول العجل لطبيعة الأزمة المتواضع على وصفها وهي (التطرف الديني)، ولكن السؤال الواجب طرحه كيف يستقيم وصف العنف وهو فعل طارئ بأنه نتاج الديني؟! وبصورة أخرى إن كانت الأديان تحرض على العنف فكيف استطاعت أن تجتذب إليها هذا العدد الكبير من الكائنات؟ بل وكيف نفسر عدم خلو الفعل الاجتماعي منذ بدأ العالم من صور للتدين والاعتراف بالمطلق؟! نقول إن هذا الربط مؤذي وغير معرفي بل هو مؤدلج بصورة فجة، وكذلك الصحيح القول بعدم خلو العادات الاجتماعية من ممارسة العنف ولو بأشكال متباينة ومختلفة الدرجة، ولذا فإننا لا نحبذ فكرة – برمجة – القواعد التي تنتج التطرف والذي جريمته (العنف) فالتطرف كحالة غير عدوانية ممكنة، لكنها ليست تأسيسية البتة، ولا تملك النسبة إلا نفسها، فكيف نُنسب العنف إلا له؟!

كما أنه يجري الحديث عن مفاهيم بعينها هي الرصيد المعرفي الذي تؤسس عليه إشكالية وجود العنف؛ وتختلف هذه المفاهيم مرتبة ومصانة من الفوضى بحسب صاحب كل مرجعية، لكننا هنا نريد أن نناقش جملتها، وهذه المفاهيم بحسب ما نعتقد هي: ( الجهاد – الحاكمية) ولا نجد أنفسنا مع القائلين بأن قضية الخلافة أو تطبيق الشريعة هي مفاهيم يترتب عنها العنف، هي تجليات لمسألة مفهوم الجهاد وتطبيقاته، وكذلك الحال في أمر الحاكمية، لذا نحن نستبعدهما، والآن لنبدأ بالدخول إليها واحدة تلو الآخرى، لكن قبل ذلك نقول بأن هذه المفاهيم لا تاريخية لها، أو حقول نشأت فيها، واستلزم الأمر النظر إلى تطبيقات تخص كل واحدة منها ولذا وجب الحذر في التناول الحر لها.. أولها الجهاد: وجب الوقوف هنا على ما تضمنه القرآن الكريم في معنى الجهاد، نفعل ذلك لأجل تفكيك هذا المصطلح لصالح فهم أوسع وأكثر جدة، بالطبع لا يسع هذا المقال مساحة وفكرة أن نتناول بالرصد والتحقيق والتعليق مفهوم الجهاد في مظانه وتجلياته العديدة، لكننا نفهم أن دور الكتابة في الصحف أن نلامس بالإشارة المُعمقة تقاليد رصينة في المعرفة، وبخصوص مسألة الجهاد ومعناه أصوله وتمظهراته فإن الأمر متروك لأهل العلم الشرعي والفقهي والمقاصدي، ودورنا يتلخص في التوصيف لما نراه من مشكلات في تناول المعرفة.. والمعرفة الدينية في القلب منها لتماسها المباشر مع مضمون وجودنا الاجتماعي.

إن تخزين معنى الجهاد بصفة الخلود أي أنه بمعنى القتل يجعل المعرفة به دائرية وعاجزة عن إنتاج نفسها، وليس كما يدعي الكثير ممن يؤمنون بمعنى واحد.. خالد.. جامد له، إننا نفهم الجهاد بمعنى المدافعة الذي هو أصل التوصيف  القرآني لهذه المسألة، بل إن النص القرآني يأتي بصفة الجهاد بعد ذكر بذل المال مقدم على النفس والسبب أن المعنى المقصود من الجهاد هو الحيلولة دون وقوع المقتلة والصراع، وهذه هي فلسفة الآي الكريم للمسألة يقول تعالى في سورة النساء: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95).. والآية (72) من سورة الأنفال إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.. والآية (20) من سورة التوبة (الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.. والآية (41) من السورة ذاتها (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أو في معنى الحجة والاقناع من سورة الفرقان فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)، أو في معنى المقاومة وليس القتل، من سورة التحريم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9).  ولذا فإن فكرة تعريف الجهاد من الناحية المفهمومية باتت تحتاج إلى جهد جديد. للنظر في الحاكمية..

الحاكمية:

في الآية الكريمة (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44}) المائدة، فالعلاقة بين من يحكم بغير ما أنزل الله وبين الكفر هي علاقة قائمة على التضاد العكسي والذي يكون بين كلمتين تدلان على معنيين متلازمين، أي أن الحكم يرتبط مباشرة بالإيمان أو الكفر، وهو لا يتعلق بالميدان العام للحياة البشرية، بل في قضايا بعنيها، إذا أنك لو شرعت للناس ممارسة الزنا بالقانون؛ بالقانون أي قلت للناس إن الزنا ليس حراماً، تكون قد شاققت الله عز وجل وحللت حراماً بيناً، ولو قلت إن الصلاة غير واجبة على الناس، وأقررتها حكماً عليهم، دخلت في دائرة الكفر بما أنزل الله، يعني ببساطة لا يمكن لمن يوظف هذه الآية أن يتهم أحد بالكفر لأنه لم يحكم بما أنزل الله، لأن المتهم بالكفر نفسه لا يملك الحكم وليس له من حق تشريع وسن قانون للناس، فهو يبدي رأيه دون أي سند قضائي أو قانوني. إذن الآية تحاكم من يملك السلطة ويأمر الناس بها، وليس من يطرح رأياً ويبدي معرفة، ومسألة الحاكمية والتي هي مشتقة من الحكم، والحكم من أَسماء الله تعالى: الحَكَمُ والحَكِيمُ وهما بمعنى الحاكِم، وهو القاضي، فَهو فعِيلٌ بمعنى فاعَلٍ، أو هو الذي يُحْكِمُ الأَشياءَ ويتقنها، (راجع لسان العرب)والحكم بمعنى القضاء، يعني أن الله عز وجل هو السلطة الأعلى للحكم على فساد الشيء من صلاحه،ولفظ ( الحاكميّة ) ليس أصيلاً في اللغة العربية، و يعود استخدامه أول مرة في خطابنا السياسي و الديني للهندي أبو الأعلى المودودي (1903-1979م) مؤسس الجماعة الإسلامية في لاهور، والرجل في مجلته (ترجمان القرآن) كان يدعو جموع الهنود إلى الانضمام إليها قائلا: "لابد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل (السجن)و(التعذيب) و(المصادرة)، وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، الرجل كان يعيش أزمة وجود، فالاستعمار الإنجليزي فَّرق بين سكان الهند بمللهم واعتقاداتهم المتعددة، فكان يواجه معضلة (سجن وتشريد وتعذيب ومصادرة) وبالفعل صودرت أملاك الجماعة ورحلت إلى مدينة دار السلام، إنه فقه حرب، فقه أزمة وليس فقه دولة، ولذا طرح المودودي مفهوم (الحاكمية لله) في مواجهة انحراف فرقة القاديانية (فرقة اجمع أهل القبلة على انحرافهم، وزعيمهم أحمد القادياني كان يصور نفسه داعية تحديث، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يعيب عليهم انخراطهم الكلي في تقليد الغرب ونسيانهم تراثهم الديني الإسلامي) هذه الفئة المنحرفة قامت بمساعدة الإنجليز بالعمل على الحد من نشاط الجماعة الإسلامية، والسبب أيضاً أن المودودي هاجمهم ودافع عن الإسلام بضراوة  حتى اعتقل وحكم عليه بالإعدام في عام 1953 فوقف ثابتًا وقال كلمته المشهورة " إن كانت تلك إرادة الله فإنيأتقبلها بكل فرحة، وإن لم يكتب لي الموت في الوقت الحاضر فلا يهمني ما يحاولون فعله فإنهم لن يستطيعوا إلحاق أقل ضرر بي وبعد أيام فقط من اعتقاله حكم عليه بالإعدام، ولكن الضغط الكبير من العالم الإسلامي جعل السلطات تخفف الحكم إلى السجن المؤبد والذي ألغي بدوره أيضاً تحت زخم الرفض الإسلامي الكبير، لذا أردت القول إن الاكتساب من جهد أبو الأعلى المودودي وهو على عظمته لا يصح نسخه هنا، فلا وجود لتحدي (القاديانية) الذي واجه المودودي ولا الظرف الاجتماعي هو ذاته كما كان تحت حكم الاستعمار حينها، وهذه لعلها من المشكلات القديمة المتجددة، مشكلة (التبيئة) أي أن نجعل المنهج مولود شرعي للقضية، ولا ندخل على أي قضية بمنهج جاهز، أي أن نجعل من الموضوعية في قراءة التراث معاصراً لنفسه، الشيء الذي يقتضي فصله عنا، والمقابل فإن (المعقولية) جعله معاصراً لنا،أي إعادة وصله بنا، بقضايانا، بمشاكلنا، بمسائلنا الراهنة، فإذا صح عزم جماعة الدستور الإسلامي على تهديد سلطان الدولة، فهذا يعني أنهم يملكون ذات متضخمة، وأنانية شديدة في إدعاء الحق المطلق بتعريف الناس بالحق وبالباطل!، فإن عليه أولاً أن يسائل نفسه، هل هو ممثل وحيد للحقيقة في الأرض؟ فإن كان كذلك فهو أيضاً قد وقع في الشرك، لأنه نازع الله الحق المطلق، ولم يعترف بنسبية معارفه، لأنه وإن كان يعتمد على العلماء الثقاة، فهؤلاء العلماء أنفسهم خضعوا للجرح والتعديل، ولذا فقل لي ماذا يعني لك مجهود الألباني في جمع وتنقيح صحيح مسلم! وماذا يعني أن يأتي عالم ليحقق جهد عالم آخر، أليست هي النسبية الملازمة للفعل البشري، والحق المطلق في معرفة الخير من الشر بيد الله سبحانه وتعالى فقط.

وقد ورد مصطلح "الحكم" أكثر من مائتي مرة في القرآن الكريم، كما ورد في العديد من الأحاديث وكتب الفقه. وفي تحليل جميع هذه النصوص، وبالعودة الى كتب التفسير المعتمدة أصولاً، يتضح أن مصطلح "الحكم" لم يستخدم إطلاقاً بمعنى تولي وممارسة السلطة السياسية، إذ لم يرد المعنى في الجاهلية ولا في صدر الإسلام، ولا في المعاجم اللغوية العربية القديمة، والأهم من ذلك أنه لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية ولا في سائر المصادر الإسلامية الأولى بمعنى المفهوم السلطوي السياسي الذي شاع في اللغة العربية حديثاً. (راجع: حاكمية الله : المعطيات ,المفهوم و الخطاب، د. عبد الغني عماد)، والحاكمية كمفهوم ظهر أول مرة في معركة صفين على يد بعض جند الإمام علي (الخوارجلاحقا)، فقد خرج هؤلاء رافضين تحكيم الحكمين (عمرو بن العاص ممثلاً لمعاوية، وأبو موسى الأشعري ممثلاً للإمام علي)، وقالوا بكفر من يقبل بهما وذلك في قولهم المشهورة: لا حكم إلا لله. إذن مفهومالحاكمية ولد في مناخ الفتنة الكبرى وعلى يد الخوارج، في رفض تحكيم الحكمين وبالتالي رفض النتيجة التي توصلا إليها في مسألة الخصومة بين الإمام علي ومعاوية. وقد كان الإمام علي مدركاً لطبيعة الحالةوالالتباس الذي صاحب هذا الشعار، عندما قال رداً على صيحتهم المشهورة: " كلمة حق يراد بها باطل! نعم لا حكم إلا لله. لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله …. و إنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر …

إن المفاهيم لا تتقوم بذاتها، أي لا تتعين بوجودها الخاص، هي جملة تكرار وحدودها اللغوية تستمد طاقتها من طبيعة العلاقة مع المعرفة في تعضيد معرفي زماناً ومكاناً، ولذا فإن التوظيف الأشتر والمستمر بل والمستفز لحقيقة اللغة يعبر عن المرجعية التي يعتقد فيها دعاة العنف، وهي مرجعية ملتبسة ومتكومة خلف طبيعة الأزمة؛ الأزمة الحضارية. والحل يبدأ من هنا..

 

آراء