أضواء على تعديلات قانون جهاز المخابرات العامة، الصلاحيات الممنوحة والحكمة المطلوبة في الممارسة

 


 

 

وجود جهاز مخابرات فاعل وكفء أمر ضروري للدولة في كافة النواحي، فهو يد يمنى لمساعدة الدولة في تحقيق واجباتها. وقد ظلت التشريعات التي تحكم جهاز المخابرات العامة بمسمياته المختلفة محل انتقاد ومطالبة بالإصلاح على امتداد تاريخ العلاقة بين المعارضة والسلطة الحاكمة، كما كانت دوماً محل نظر ونقاش بالنظر لطبيعة الصلاحيات والسلطات التي يمكن أن يمارسها، والحصانات التي يتمتع بها أفراده. وقد كانت إحدى النتائج التي ترتبت على انتصار ثورة ديسمبر 2019 استقرار مفهوم عام وهو أن يكون جهاز المخابرات العامة سلطة لتوفير المعلومات والبيانات لأجهزة الدولة بما فيها رأس الدولة والسلطة التنفيذية وأجهزة الضبط القضائي والإداري حتى يتم تفادي المخاطر الأمنية التي تحيق بالبلاد ويمكن الأجهزة المعنية في الدولة من اتخاذ القرار على نحو صحيح، دون أن تكون له سلطات قبض أو أن يتمتع بحصانة غير ضرورية تجعله يحيد عن الإطار المرسوم لدوره.

مهد لتأكيد هذا المفهوم الانتهاكات التي مارسها جهاز المخابرات في الفترة التي سبقت عام 2019، خاصة دوره في قمع الثورة واستخدام العنف غير المبرر والتعذيب المفرط في مواجهة الخصوم السياسيين. وقد أكد القضاء هذه الانتهاكات الصارخة وسوء استخدام السلطات في بعض القضايا التي تم نظرها، واشهرها قضية المعلم أحمد الخير التي أصدرت فيها المحكمة قراراً بإدانة 29 من منسوبي جهاز المخابرات لاشتراكهم في تعذيب وقتل المرحوم أحمد الخير، والحكم عليهم بالاعدام، وتم تأييد الحكم في كافة مراحله حتى محكمة المراجعة التي ايدت الحكم الصادر من المحكمة العليا. ولم يتم تنفيذ الحكم لاعتبارات منها عدم وجود المحكمة الدستورية التي تملك الحق في ضمان أن المحاكمة التي صدرت بحقهم كانت محاكمة عادلة.
تم تأكيد صلاحيات جهاز المخابرات في أن يكون جامعاً ومحللاً للبيانات والمعلومات لمساعدة متخذ القرار لدرجة التنصيص عليها في الوثيقة الدستورية في المادة (37) حيث ذكرت: (جهاز المخابرات العامة جهاز نظامي يختص بالأمن الوطني وتقتصر مهامه على جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجهات المختصة ويحدد القانون واجباته ومهامه، ويخضع للسلطتين السيادية والتنفيذية وفق القانون)، وبناء على هذا النص اقتصرت مهام جهاز المخابرات على الحصول على البيانات اللازمة وتحليلها والخروج بتوصيات تساهم في تأكيد الأمن الوطني ويمكن أن تبني عليها الأجهزة المعنية في الدولة سياساتها وقراراتها بما في ذلك قراراتها التصحيحية وقرارات الاعتقال والضبط، ومن ثم قلمت القوى الحادة لجهاز المخابرات واصبح جهازاً دون أنياب يمكن أن يرتكب من خلالها انتهاكات واضحة للحريات العامة أو لحريات وحياة الأفراد.

صدر التعديل الجديد لقانون جهاز المخابرات العامة وأحدث تغييراً كبيراً في القواعد التي تحكم عمل الجهاز ، وتتضمن أهم هذه التعديلات ما يلي:
أولاً: عدل القانون في السلطات الممنوحة للجهاز ومد من إطار الصلاحيات التي يمكن أن يمارسها ومن ذلك:
1- منح الجهاز سلطات واسعة تتعلق باستدعاء الأشخاص واستجوابهم وأخذ أقوالهم.
2- الاعتقال لفترات زمنية حددها القانون قد تمتد في مجملها إلى ستة أشهر.
3- حجز الأموال وفقاً للقوانين المنظمة
ثانياً: أضفى حصانية قانونية ضخمة على عمل أفراده ومن ذلك أنه منع اتخاذ أي إجراءات جنائية أو مدنية ضد أي عضو من أعضائه، إلا بموافقة مدير الجهاز، وعلى المدير أن يمنح هذه الموافقة إذا تبين أن موضوع المساءلة غير متصل بنطاق عمله، ويعني هذا أن أعمال الجهاز المرتبطة بنطاق عمله خارجة عن نطاق المساءلة القضائية. وأن الذي يحدد مدى اتصال عمل عضو الجهاز بنطاق عمله هو مدير جهاز المخابرات نفسه دون رقابة عليه من أي جهة أخرى. وبالطبع فإن هذه حصانة مغلظة تجعل خضوع عضو الجهاز للمساءلة القانونية أمراً منوطاً بموافقة تقديرية يصدرها مدير الجهاز .

تتطلب ممارسة الصلاحيات المقيدة أن تتم وفق الحكمة من جهاز المخابرات بما يوازن بين حاجة الدولة للعمل المخابراتي وتحقيق متطلبات الدولة للأمن من جانب، والحفاظ على الكرامة الإنسانية وحفظ الحق الإنساني من جانب آخر. كما يتطلب عمل أجهزة المخابرات مستوى من الرقابة التي تجعل منه عملاً منضبطاً، يتوافق مع معايير حقوق الانسان وتضمن أن يتم لمصلحة الدولة، وأن لا ينحرف لمستويات الإساءة لممارسة السلطة أو التعسف في استخدامها. وفي النظم المستقرة فإن الرقابة تنشأ من عدد من الاجهزة منها وجود قضاء مستقل ومستقر بما في ذلك المحكمة الدستورية التي تعتبر الضامن للحقوق والحريات الشخصية للأفراد.

كما تتم الرقابة ايضا من خلال وجود البرلمان أو المجلس التشريعي الذي يملك الحق في وضع السياسات العامة للأجهزة الأمنية ومراقبة أدائها، وعادة ما تضم اللجان المنبثقة عن البرلمان لجنة معنية بالأمن تستقصي وتوجه أعمال الأجهزة الأمنية. إضافة إلى أن وجود أجهزة النيابة المستقلة عن الجهاز الحكومي التي تقوم بمهامها في الحفاظ على الحقوق العامة وفي تقرير سلطات تقييد الحربات الشخصية أمر ضروري لكبح الاستخدام غير الضروري لأجهزة المخابرات لسلطات الاعتقال الأمني.

لسوء الحظ فإن التعديلات التي تمت على قانون المخابرات العامة صدرت في ظروف تكاد تكون قد انعدمت فيها كل صور الرقابة على جهاز المخابرات، ومن ثم لا توجد كوابح تقي المخاطر العالية من الانحدار نحو التعسف في استخدام الصلاحيات والسلطات. فلا يوجد مجلس تشريعي مستقل يراقب السياسات الأمنية ولا توجد محكمة دستورية تملك حق النظر في مدى دستورية التعديلات التي صدرت أو توافقها مع المعايير الدستورية المعتمدة، أو تملك الحق في حماية الحقوق الدستورية للأفراد في حال انتهاكها. إضافة إلى أن السلطة القضائية وجهاز النيابة يفتقران إلى ضمانات الاستقلالية. فلا يوجد مجلس قضاء عالي أو مجلس نيابة يملك الحق في ممارسة سلطاته على الهيئة القضائية أو النيابة بما يجعل قراراته بعيدة عن التأثير الحكومي، الأمر الذي قد يجعل جهاز النيابة أو السلطة القضائية غير بعيدتين عن تأثير جهاز المخابرات.

وفقاً للتعديلات التي تمت على قانون جهاز المخابرات فقد استعاد الجهاز كافة الصلاحيات التي أخذت منه بموجب الوثيقة الدستورية والتشريعات التي انبت عليها، وتبقى الحاجة قائمة إلى ضرورة أن يؤدي الجهاز دوره على أن يراعي في ذلك متطلبات حقوق الانسان وأن يتقيد بالقيود التي تحفظ للافراد كرامتهم. وفي ظل السيولة القانونية الحالية والهشاشة التي تكتنف كل أجهزة الدولة يظل هذا الواجب أمراً أخلاقيا يتعين مراقبته من قبل الجهاز وأفراده قبل أن يكون واجباً مؤسسياً.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com

 

آراء