لا جديد في دهاء الكيزان، ولا في قدرتهم على تزييف الوعي وتخدير الضمير الجمعي، كلما اقتربت ساعة الحساب. فمنذ ميلاد الحركة الإسلامية في السودان، لم تكن الحقيقة يوماً حليفتهم، بل خصماً يجب دفنه بالدعاية والصخب وتوزيع الأدوار.
وكلما ضاق الخناق، فتحوا خزائن الخداع، وأطلقوا جيوشهم الإلكترونية على الناس: صناعة الوهم، وإغراق الفضاء بالتريندات التافهة، والجدالات المسمومة التي تُغني عن التفكير.
منذ اندلاع هذه الحرب العبثية، اشتعلت غرفهم الإعلامية في الداخل ومن كل عواصم الدنيا، تُغذّي المنصات بمحتوى متقن التضليل. نساء ورجال بلا أسماء حقيقية، يُطلّون يومياً على السودانيين عبر “اللايفات” ومختلف المنصات، يتحدثون عن كل شيء إلا الحرب، عن كل شيء إلا الخراب، عن كل شيء إلا الجريمة.
يتقنون السخرية والابتذال، ويستثمرون في الفضائح الصغيرة: مطرب تافه يدخل في شجار عدمي، مع سيدة بلهاء لا همّ لها غير التلذّذ بمشاكل الأسر والعائلات والحطّ من قدر المؤسسة الزوجية. عُهر وخزيٌ على الهواء، وتفاصيل تُغرق الناس في مستنقع الانصرافية، بينما تُرتكب في الخلفية الفضائح الكبرى.
قبل أيام فقط، انكشفت واحدة من أفظع جرائمهم: اغتصاب طفل مستنفر داخل مقر حزب المؤتمر الوطني المحلول في الحصاحيصا، على يد عناصر من قوات درع السودان، وهي ميليشيا تتلقى أوامرها من بقايا النظام القديم وتغتذي بخطابه.
تحوّل المقر، الذي كان يوماً منبراً للكيزلن، إلى وكرٍ للسكر والعربدة، وهناك، في ظلمة المكان، تمزّقت براءة طفل لم يتجاوز الخامسة عشرة. بعض الروايات تقول إن الضحايا 6 لا واحدة.
ولم تكد الفضيحة تطفو على السطح حتى استيقظت ماكينة الكيزان، تُدوّر الحدث وتغسله بالضجيج: خرج ممثل قميئ يدعى “فضيل” يتحدث عن ضرورة شطب سيرة ثورة ديسمبر من منهج اللغة العربية، وخرج المجرم “كيكل” الذي زيّفوه بطلاً، وتحدث عن مكالمة تلقاها من “خالد سلك”، هنأه فيها باجتياح الجزيرة، يوم كانت بندقيته بندقية الجنجويد.
إنها الطريقة ذاتها التي أتقنها الكيزان منذ عقود: إذا انفجرت الفضيحة، فغطّها بالثرثرة؛ إذا انكشف الاغتصاب، فاختلق ترينداً عن الأخلاق؛ وإذا فاحت رائحة الدم، فارفع شعار الوطن والدين.
حادثة الحصاحيصا، التي انصرف البعض عنها لمتابعة توهّمات “فضيل” وتهويمات “كيكل”، لم تكن مجرد اغتصاب طفل، بل اغتصاب لذاكرة بلد بأكمله.
فحين يُستنفَر الأطفال في جيوش الكبار، وحين يتحوّل الدين إلى ستار للجريمة، وحين يُدار الرأي العام بالتفاهة، يصبح الوطن نفسه هو الضحية.
لقد أراد الكيزان تغطية الجريمة، ففضحوا أنفسهم أكثر. أرادوا إشغال الناس، فذكّروا الجميع بأنهم أساتذة التضليل، وأعداء الحقيقة منذ أول يوم دخلوا فيه ساحة السياسة بعمامة الوعظ وسيف المكر.
هذه ليست حادثة تمرّ بعفوية. إنها مرآة الأخلاق المنهارة التي ورّثها نظام كامل، رضعت من نفاقه أجيال من المستنفرين والمضللين.
وحين يُغتصب طفل في دارٍ كانت يوماً مقراً لحزبٍ يرفع شعار “هي لله”، فإن السؤال لم يعد: من الجاني؟ بل كيف نوقظ ضميراً أُغرق عمداً في التريندات حتى فقد القدرة على الغضب.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم