استقلال أم استغلال؟
اسماعيل عبد الله
1 January, 2022
1 January, 2022
كانت اعياد الاستقلال تنال الحظ الأكبر من الاهتمام الشعبي والرسمي، في العهود السابقة للعهد الغيهب (الانقاذ)، فقبل ولوج اليوم الاول للعام الجديد الذي يوافق عيد استقلال بلادنا العزيزة عن حكم المستعمر، في هذا اليوم تنشغل الادارات المدرسية الدنيا والعليا بالتجهيز للمهرجانات والليالي الادبية والمسابقات الرياضية، وموجات ذبذبات مكبرات الصوت تعلو هامات النساء والرجال بغناء الفنان والمطرب الوطن محمد عثمان وردي، باغنيته الوطنية المواكبة وعلى الدوام لهذه المناسبة الوطنية الشامخة - اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا يا اخوتي غنوا لنا غنوا، ما زلت استحضر حركات وسكنات استاذنا ومعلمنا ومربينا الهميم الحازم والحاسم، بخصوص اجراءات الترتيب لهذه الاحتفالية الوطنية الكبرى، وهو يتجول جيئة وذهابا متمماً على كمال حضور فرق كرة القدم المشاركة من الفصول والأنهر جميعها، ورقابة لصيقة للقائمين على امور الاعداد للمسرح الليلي، لماذا لم يعد الاحتفاء بالعيد الوطني لبلادنا كما كان في سابق العهود والايام؟ كيف اصبح الحديث عن الاستقلال مصدراً للتهكم والسخرية؟ هل هي حالة الاحباط العام التي ظل يكابد آلامها الشعب؟ أم أن الحقيقة غير ذلك؟.
بعض الدول بشرق آسيا نالت استقلالها في نفس توقيت انزال علم الحكم البريطاني، وفي ذات موعد رفع علم بلادنا بسارية القصر الجمهوري، تدرجت هذه الدول في سلم التقدم والرفاه الاقتصادي بينما تدحرجت بلادنا انحداراً على مدرجات ذات السلم للأسفل، ومن سخف الاقدار أن يموت زعيم النضال الديمقراطي - رئيس أول حكومة وطنية - بالسجن الذي تحرسه الدكتاتورية العسكرية الثانية، ويبدو جليّاً أن العطب الذي حاق بهذه الأمة المستقلة هو الحكم العسكري الذي لم يحفظ كرامة الرجل الرمز - اسماعيل الازهري - فأهانه وأذلّه وختم على حياته مرمياً بين جدران سجون السودان، وحتى الاحزاب الطائفية والايدلوجية التي ما زالت تقاوم من اجل المكوث على جسد الوطن المثقل بالجراح في هذه الأيام الصعيبات، كانت واحدة من اسباب هذا البلاء المقيم – الانقلابات العسكرية - وجميعها قد ولغ في إناء هذا الجرم وذلك الإثم الكبير (الأمة والشيوعي والاسلامي والبعثي)، فرموز هذه الاحزاب وثّق لها التاريخ جهود دعوماتها للمغامرين من ضباط القوات المسلحة، ابتداءً من الاميرالاي عبد الله خليل بك مروراً بالفريق ابراهيم عبود والعقيد جعفر محمد علي والعميد عمر حسن احمد.
لا تُحدّث الأجيال الحاضرة عن استقلال (استغلال) البلاد، وإن حدث وفعلت فتبوأ مقعدك مع الديناصورات البائدة، لأن الاجابة السريعة من قبلهم ستكون: وماذا قدّم لنا ورثة الدولة المستقلة؟، حينها ستعلم أن المسيرة الطويلة للدولة السودانية الحديثة التي اعقبت اهزوجة (يا غريب يلّا لي بلدك)، ما هي الّا اضاعة للوقت واهدار للجهد الفردي والجماعي والحكومي لهذا الشعب الثائر والمستنير، فقد مضى زمن الاستغفال والمساومة والاستهبال والرشاوى الحزبية، وجاء زمان الحرية والسلام والعدالة، فاليوم لن تجد لكل هذه المبررات فرداً سودانياً واحداً متماهياً مع أهزوجة الوطن الفريد - الأغنية الوطنية التي دندن بها العطبراوي والشفيع ووردي ومحمد الأمين، لقد ارتقى شبابنا الثائر سلم المجد نضالاً لا كلاماً، بالأمس كانت الروح الوطنية مجسّدة في الشعر والنثر والمقال المكتوب والموسيقى والغناء، أمّا اليوم فالوطنية تعني شيئاً واحداً هو أن تفرد صدرك العاري للرصاص الحي، المقذوف من آلة القتل الحائمة وسط احياء ومدن البلاد الممتدة من ميدان عقرب حتى أم دافوق.
الحقيقة المرّة التي ظل يكابد مرارتها الفرد وتعاني شجونها وآلامها الجماعة، هي أن الاستقلال بمعانيه الحرفية لم يكن حقيقياً بالمدلول العام للمفردة، وأن ما حدث مجرّد استغلال لعاطفة العاطفيين المهللين والمكبرين باسم الوطن الكبير الشامخ على طول البلاد وعرضها، وعلى غير عادة البلدان والشعوب الأخرى التي استقلت فعلياً من ربقة المستعمر، تجد الحاكمين في بلادنا منذ العام الف وتسعمائة وستة وخمسين يرتهنون لأمر الآخر، ولا يعتدون برأيهم ولا برأي الرجل الوطني الغيور بالداخل، لذا لا تستغرب إن رأيت جندك يحاربون بقمم وسفوح جبال صنعاء، ولا تندهش إن رأيت رأس منظومتك السيادية يرفع التمام ويقدم التحية العسكرية لرئيس الدولة الجارة، هل هكذا يكون الاستقلال؟، متى نرى هيبة الحاكم المفوّض ديمقراطياً من شعبه؟، وكيف نعتمد على الوزير غير المنكسر أمام نظراءه المحليين والاقليميين والدوليين؟.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
1 يناير 2022
بعض الدول بشرق آسيا نالت استقلالها في نفس توقيت انزال علم الحكم البريطاني، وفي ذات موعد رفع علم بلادنا بسارية القصر الجمهوري، تدرجت هذه الدول في سلم التقدم والرفاه الاقتصادي بينما تدحرجت بلادنا انحداراً على مدرجات ذات السلم للأسفل، ومن سخف الاقدار أن يموت زعيم النضال الديمقراطي - رئيس أول حكومة وطنية - بالسجن الذي تحرسه الدكتاتورية العسكرية الثانية، ويبدو جليّاً أن العطب الذي حاق بهذه الأمة المستقلة هو الحكم العسكري الذي لم يحفظ كرامة الرجل الرمز - اسماعيل الازهري - فأهانه وأذلّه وختم على حياته مرمياً بين جدران سجون السودان، وحتى الاحزاب الطائفية والايدلوجية التي ما زالت تقاوم من اجل المكوث على جسد الوطن المثقل بالجراح في هذه الأيام الصعيبات، كانت واحدة من اسباب هذا البلاء المقيم – الانقلابات العسكرية - وجميعها قد ولغ في إناء هذا الجرم وذلك الإثم الكبير (الأمة والشيوعي والاسلامي والبعثي)، فرموز هذه الاحزاب وثّق لها التاريخ جهود دعوماتها للمغامرين من ضباط القوات المسلحة، ابتداءً من الاميرالاي عبد الله خليل بك مروراً بالفريق ابراهيم عبود والعقيد جعفر محمد علي والعميد عمر حسن احمد.
لا تُحدّث الأجيال الحاضرة عن استقلال (استغلال) البلاد، وإن حدث وفعلت فتبوأ مقعدك مع الديناصورات البائدة، لأن الاجابة السريعة من قبلهم ستكون: وماذا قدّم لنا ورثة الدولة المستقلة؟، حينها ستعلم أن المسيرة الطويلة للدولة السودانية الحديثة التي اعقبت اهزوجة (يا غريب يلّا لي بلدك)، ما هي الّا اضاعة للوقت واهدار للجهد الفردي والجماعي والحكومي لهذا الشعب الثائر والمستنير، فقد مضى زمن الاستغفال والمساومة والاستهبال والرشاوى الحزبية، وجاء زمان الحرية والسلام والعدالة، فاليوم لن تجد لكل هذه المبررات فرداً سودانياً واحداً متماهياً مع أهزوجة الوطن الفريد - الأغنية الوطنية التي دندن بها العطبراوي والشفيع ووردي ومحمد الأمين، لقد ارتقى شبابنا الثائر سلم المجد نضالاً لا كلاماً، بالأمس كانت الروح الوطنية مجسّدة في الشعر والنثر والمقال المكتوب والموسيقى والغناء، أمّا اليوم فالوطنية تعني شيئاً واحداً هو أن تفرد صدرك العاري للرصاص الحي، المقذوف من آلة القتل الحائمة وسط احياء ومدن البلاد الممتدة من ميدان عقرب حتى أم دافوق.
الحقيقة المرّة التي ظل يكابد مرارتها الفرد وتعاني شجونها وآلامها الجماعة، هي أن الاستقلال بمعانيه الحرفية لم يكن حقيقياً بالمدلول العام للمفردة، وأن ما حدث مجرّد استغلال لعاطفة العاطفيين المهللين والمكبرين باسم الوطن الكبير الشامخ على طول البلاد وعرضها، وعلى غير عادة البلدان والشعوب الأخرى التي استقلت فعلياً من ربقة المستعمر، تجد الحاكمين في بلادنا منذ العام الف وتسعمائة وستة وخمسين يرتهنون لأمر الآخر، ولا يعتدون برأيهم ولا برأي الرجل الوطني الغيور بالداخل، لذا لا تستغرب إن رأيت جندك يحاربون بقمم وسفوح جبال صنعاء، ولا تندهش إن رأيت رأس منظومتك السيادية يرفع التمام ويقدم التحية العسكرية لرئيس الدولة الجارة، هل هكذا يكون الاستقلال؟، متى نرى هيبة الحاكم المفوّض ديمقراطياً من شعبه؟، وكيف نعتمد على الوزير غير المنكسر أمام نظراءه المحليين والاقليميين والدوليين؟.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
1 يناير 2022