الاختبار الأخلاقي في غزة: بين ضمير الغرب وخمول الهوية العربية الاسلامية
د. عمرو محمد عباس محجوب
تمت الاستعانة بشات جي بي تي في مناقشة هذه القضية الأخلاقية العويصة والاستعانة بالمراجع وتم تعديل بعض الصياغات.
أعادت الإبادة الجماعية في غزة (2023–2025) اختبار القيم الأخلاقية والسياسية على مستوى العالم، وكشفت انقسامًا جوهريًا بين الغرب الذي يتحرك بدافع المبدأ والضمير – وإن جزئيًا وعلى مستوى شعبي وامكانيات الضغط على الحكومات – والعالم العربي والإسلامي الذي تحرك بدافع الهوية والانفعال أكثر من التحليل المؤسسي والفعل العملي. لقد أصبحت غزة مرآةً تكشف حقيقة منظومات القيم العالمية، وتُظهر التناقض بين الشعارات والممارسات.
رغم الدعم الغربي الرسمي لإسرائيل، أظهرت مجتمعات أوروبا وأمريكا مظاهر مقاومة داخلية غير مسبوقة، أثبتت أن القيم الليبرالية وحقوق الإنسان لم تمت تمامًا. شهدت جامعات مثل هارفارد وكولومبيا وكامبريدج وغيرها اعتصامات طلابية ضخمة ضد الإبادة، قادها طلاب من خلفيات دينية وعرقية مختلفة، متحدّين ضغوطًا أكاديمية وسياسية. كان دافعهم الأساس أخلاقيًا وإنسانيًا لا دينيًا ولا أيديولوجيًا ودفعوا أثمانا باهظة. وقدّمت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية تقارير قانونية ضد الانتهاكات الإسرائيلية، كما رفعت دول غربية (كجنوب أفريقيا وأيرلندا وبلجيكا) دعاوى أمام محكمة العدل الدولية دفاعًا عن مبادئ القانون الدولي. استقال عدد من الدبلوماسيين والموظفين الأمريكيين من وزارة الخارجية احتجاجًا على انحياز واشنطن، مؤكدين أن دعم الإبادة يتنافى مع “القيم الأمريكية المعلنة”[^1].كتاب ومفكرون غربيون مثل نعوم تشومسكي، سكوت ريتر، جيفري ساكس، نورمان فنكلشتاين، جوديث بتلر، وأيلان بابيه وميكو بيلد وغيرهم كثيرون، قدّموا خطابًا نقديًا جريئًا ضد الصهيونية، مؤكدين أن معايير الأخلاق يجب أن تتجاوز الهوية القومية أو الدينية[^2]. بهذه المظاهر، أثبت الغرب أن الضمير الإنساني يمكن أن ينجو من هيمنة السياسة، وأن منظومته القانونية والأكاديمية ما زالت قادرة على إنتاج رد فعل أخلاقي مستقل.
في المقابل، أظهرت الأزمة الفلسطينية أن العالمين العربي والإسلامي ما زالا يواجهان عجزًا بنيويًا في تحويل العاطفة إلى فعل مؤسسي أو قانوني. فردود الفعل الرسمية اقتصرت على بيانات شجب ومطالبات بوقف إطلاق النار، دون تحرك فعلي في المنظمات الدولية أو إجراءات اقتصادية أو قانونية. وقد غلب على السياسات الرسمية حساب المصلحة السياسية والخوف من العقوبات الغربية. حتى التحرك الشعبي والديني فقد اندلعت مظاهرات في عدة عواصم عربية وإسلامية، لكنها ظلت محكومة بمنطق “الأخوة الدينية” لا “العدالة الإنسانية الشاملة”. لم تُنتج هذه الحركات خطابًا قانونيًا عالميًا بل اكتفت بالاستثارة العاطفية فلم تظهر في العالم العربي جامعات أو نقابات أو محاكم مستقلة تنخرط بجدية في مواجهة الإبادة، ما عكس ضعف البنية المدنية والحقوقية مقارنةً بالمجتمعات الغربية. بذلك، تحرك العرب والمسلمون بمنطق الهوية والانفعال والدعاء وهو مطلوب ولكن ليس من منطق المبدأ والمصلحة الأخلاقية العالمية.
هذه المفارقة الأخلاقية الكبرى كشفت الإبادة في غزة عن مفارقة لافتة أن الغرب، رغم تاريخه الاستعماري ودعمه السياسي لإسرائيل، لا يزال يمتلك داخل بنيته الفكرية أدوات نقد ذاتي وضميرًا قانونيًا يتحرك باسم العدالة. بينما العالم العربي والإسلامي، رغم عدالة قضيته وعمق انتمائه، فشل في بناء مؤسسات قادرة على الدفاع عن الأخلاق بآليات عصرية وعالمية.
لقد تحوّل الغرب – جزئيًا – إلى حامل للقيم التي نادى بها الإسلام والإنسانية، بينما اكتفى العرب والمسلمون بترديد الشعارات دون تأسيس فعلٍ أخلاقي مستدام.
إن الدرس الأعمق في مأساة غزة هو أن الضمير لا يُقاس بالدين أو العرق بل بالفعل المؤسسي والالتزام بالقيم الكونية. فالغرب الذي يُدان بسياساته، يُشاد بجزء من مجتمعاته المدنية التي وقفت ضد الإبادة باسم الإنسانية.
أما العرب والمسلمون، فحان الوقت لانتقالهم من الانفعال إلى بناء منظومة أخلاقية-قانونية مستقلة تعبر عن ضمير الأمة في مواجهة الظلم العالمي.
الهوامش والمراجع
[^1]: Josh Paul, Resignation Letter from the US State Department over Gaza Policy, October 2023.
[^2]: Norman Finkelstein, Gaza: An Inquest into Its Martyrdom, University of California Press, 2018.
[^3]: Human Rights Watch, Israel/Palestine: Events of 2023, World Report 2024.
[^4]: Judith Butler, Parting Ways: Jewishness and the Critique of Zionism, Columbia University Press, 2012.
[^5]: تقارير وكالة الأنباء الفلسطينية ومركز الميزان لحقوق الإنسان، “توثيق جرائم الحرب في غزة”، 2024.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم