التجاني يوْسُف بَشيْر: مَـائـةُ عــامٍ مِــن النِّســيان

 


 

 

أقرب إلى القلبِ :

jamalim@yahoo.com

(1 )
مائة عام على مولدك أيها الرائع وأنت لا تزال بيننا. .
وقفتُ أمام حديقة تقع في مداخل سوق الخرطوم 2 ، تحجب عنك كثافة الشجار  الواقفة والمتسلقة، الزاهية والآيلة إلى الذّبول، رؤية  ما يخفى بداخل هذه الحديقة، التي كانت يوما ما ، وقبل نحو اقل من عقدين من الزمان ، تحمل إسم شاعر إسمه "التجاني يوسف بشير"، وربّما لا تزال تحمل، ولكن كأنّ الكتابة في ذاكرة الوطن صارتْ  كتابة على رملٍ ، لا نحتاً في الصخر كما يُظن.
"التجاني يوسف بشير" . . ؟
أجل .. ليسَ مِن أثرٍ إلا الصّدى وقليل من الناس في الجوار يصِفون لك الطريق إلى سوق الخرطوم 2. دوّار "التجاني يوسف بشير".  إذاً فلا لافتة تدلّك، ولا مُنتدى يقوم في أنحاء الحديقة، وبها ما بها من متسع يمكن أن يؤمه الناس، وبها ما بها مِن ثراءٍ في الوردِ والزّهر والاخضرار الرّاسخ في الأنحاء. تلك الطبيعة وقد تماهَى معها "التجاني" في غنائياته للطبيعة والحدائق الغناء،  هي هنا قصيّة عنه ،  يتيمة بين طريق وطريق ، لا يقف إليها رائح أو غادي ، بل تدوي ماكينات السيارات المهرولة  بهدفٍ أو بلا هدف، وأبواقها تعوي بلا أدنى تقدير لقداسة أو مهابة أو موهبة لإسم الشاعر الذي  سجلوا اسمه على جانب الحديقة في الخرطوم 2. كأنها صارت  منفىً لشاعر أمّة تتناسى تاريخها. .
كأنّ "التجاني"كان يعرف. كأنّهُ رأى يوماً، أنّ مَن يلتمّسه لن يتلقّاه في طريــــقٍ أو مَحَلٍ أو حديقة . مَن يلتمسهُ سيلاقيهِ بين قوافيهِ مُقيماً ..أبدا.

أنـا إنْ مِـتّ فالتمسْنــي  في      شِعري تَجدْنـي مُدَثّـراً برقــاعِـه

ما رأيتُ  نفوراً عن المكانِ على إطلاقه، أصدق من بيتِ الشِّعر الذي جاء من "التجاني"، وكأنّي بهِ يُعبّر عَن استغناءٍ عن الحياة  بكاملها ، فهو إلى زوال، بل وإلى هجرةٍ إلى "لا مكان"، ولكنه  عند "التجاني" هوَ التوق إلى بقاءٍ وخلودٍ في قوافيه وقصائده. هناك يقيم  شاعر عظيم ، شامخاً في "إشراقه".

( 2 )
كتبَ عن "التجاني" الدكتور عبد المجيد عابدين، وكتب  محمد محمد علي، وعبد الله البشير، وأحمد عبدالله سامي غيرهم وكان آخر الكاتبين بدر الدين هاشم  وعبد الهادي الصديق والدكتورمحمد عبدالحي. الذي رحل  في عشريناته، غضّ الإهاب، يسابق أيامه والعلة توهي عظامه ، تدارس كبار الأدباء كتاباته الشعرية والنثرية ، فكانت العبقرية  تطلّ في ثناياها، ساطعاً ضوءها. الذي وصلنا من شعر "التجاني" هو الذي حواه ديوانه الوحيد والذي طبع بعد وفاته بسنوات : "إشراقة" . ولكن أيكون ذلك كل شعر التجاني؟
كان الأخطل- في زعم مجايليه في العصر الأموي- "يقرطم"، حتى صار شاعراً فحلا. . وليست القرطمة غير نظمٍ فطير لا يرقى أن يُسمع من قائله. لو نظرتَ شعر التجاني لرأيت ما يُعجب، إذ على صغر سنه، ما عرفتْ القرطمة طريقاً إلى نظمه.    
حينَ عرضَ المبارك إبراهيم، سادن غِناء الحقيبة القديم، "مخطوطة "إشراقة" على كبار شعراء مصر وأكثرهم كانوا مِن جماعة "أبوللو" مجدّدي الشعر الرومانسي في تلك الحقبة، أسرتهم رقة الشعر ورصانته. ثمّ ما لبثوا ان استبقوا "إشــراقة"- في انبهارهم- حرزاً لديهم لسنين عددا، وما خرجت للناس إلا بعد جهدٍ وعُسر شديدين. شاعت أوانذاك شبهات وشكوكٌ، حول من استبقوا مجموعة التجاني الشعرية، وكأنّهم انتهبوا شيئاً منها، أو على أوهن تفسير رغبوا أن لا يخرج ذلك الشعر إلى الناس، غيرة واستصغارا مِمن نظمه من أهل السودان، الذين ينظر الكثيرون من أهل مصر إليهم، نظراً ينكر عليهم تعلقهم بالعروبة- ليس لأصولهم، وذلك أمر مفروغ منه- بل لثقافتهم أيضا. أحاطت الريّب بكثيرين ولكن لا يجزم أحد، ولا من أصدقائنا  الشعراء من أقربائه : عبد القادر وعبد المنعم الكتيابي وصديق المجتبى، أنّ ثمّة من طالت يده إلى شعر "التجاني".

( 3 )
في السنوات الوسيطة من القرن العشرين، لم يكن الغناء باللغة العربية الفصحى، أمراً مثيراً أو يثير عجبا لدى الناس. سمعنا من غناءِ الحقيبة في الثلاثينات،  "عروس الروض" لشاعر لبنان في المهاجر الأمريكية، الياس فرحات. تغنّى بها " الحاج محمد أحمد سرور" وقتذاك ولا نجزم إن كان تولى تلحينها، أم أن أهل الحجاز قد سبقوه إلى ذلك. للحجاز في سنوات العشرينات والثلاثينات بدائع في الموسيقى، وورد أن أشهر مطربيهم "حسن جاوا" أعطى بأدائه الفذ لقصيدة الياس فرحات، شهرة طبقت آفاق العالم العربي . "سرور" كان  مقيما لفترة في الحجاز ثلاثينات القرن الماضي.
ولقد يلاحظ المتابعون أن كثير من غناءِ المطربين في السودان في تلك السنوات وما تلاها، كان بقصائد عربية، بل لعلها كانت الأكثر رواجاً إلى سنوات الستينات. من برزوا في تلك الفترة من المطربين سيد خليفة وعثمان حسين ، وكلاهما نهلَ من شعر التجاني الرّصين، غناءاً بديعاً، رَسَخ وقعهُ في الأذن السودانية إلى لحظة كتابتي هذه. أبدع المطربان في انشادهما "في محراب النيل" و"طرير الشباب".  
لربّما لو التزم مطربونا بذلك النسق من الغناء، وقد استذوقته الأذن السودانية، لارتدنا عبره آفاق الشرق والغرب بأفصح غناءٍ وأعذب موسيقى. أحزن أن لا أسمع مطربا يغرّد  بلسانٍ مستعربٍ فصيح، إذ الثقافة  اكتسابٌ مباح، لا جينات تورّث بالدم وتستحصن بالعرق. خشيتي من خشية الكثيرين، أن يعمد ناشئة المطربين، في غنائهم باللغة العامية لا يفرقون بينَ الغين والقاف ويخلطون الذال بالزاي، ويسحقون الثاء بالسين، دون أن ترمش لهم عينٌ، فيعمدون إلى تثبيت اعوجاجِ اللسان  بتشويهِ النّطقِ بما يستهجنه الذوق الللغوي السليم. متى يأتني "فرفور" أو عاصم البنا أو طه سليمان أو خالد محجوب أو أحمد الصادق،  بمثل ما تغنى به أبو داؤود من جميل شعر محمد محمد علي : "هل أنتَ معي"؟ أو عبد الكريم الكابلي لقصيدة الراحل صديق مدثر "ضنين الوعد"..؟ أو صديقنا الفنان حمد الريّح لرائعة صلاح أحمد إبراهيم "مريّا" . . ؟ كثيرة هي أمثلة الغناء الرصين في سنوات الستينات تلك.
وأقول لك يا قاريء العزيز، أنّ ديوان التجاني يوسف بشير"إشــراقة"، لا يخلو مما يمكن مَوْسقته بمزاجٍ سوداني،  فيرتقي بذائقتنا إلى مستوىً عالٍ بمثل ما تفاعلنا مع قصيدة "طرير الشباب" وقد تغنّى بها سيد خليفة، فأطرب أيّما إطراب. .


( 4 )
يرى كثيرون أن ضعف احتفائنا بمبدعينا، الأدباء والشعراء والمطربين والموسيقيين ، يعزى لميولٍ "بنـائيـة" إلى روحِ التصوّف  التي تعلي من إيمانٍ راسخٍ بخلود نترجّاه في  "يوم الدّين"، لا في أيام الدّنيا الموقوتة.  إذْ خردلات الدنيا الفانية، هيَ مَحضُ سرابٍ آفل، ولا ينبغي للظمئآن - ما بلغ به الظمأ- أن يحسبهُ ماء. كنتُ قد أشرت في مقالٍ سابقٍ عن بعض شعراء الحقيبة، ونوّهت، أنْ قد حانَ أن نحتفي بهم ذلك الإحتفاء الذي يُليق، كأنْ نتعهّد تلك المنازل التي أقام فيها أولئك المُبدعين، فنحيلها متاحفَ تُخلّد أعمالهم، وتحفظ ذكراهم،  وتجدّد في الوجدان، شأناً  يُثري عناصر ومكوّنات هويّةٍ، نَجـدّ كلّ الجـدِّ للإمساك بأعنّتها، فيكون حصادنا  بعدذاك،  سهماً في بناءِ صرحِ التماسكِ الوطني. .
قل لي، عزيزي القارىء: كم عدد مَن يعرف اليوم المَسكَن الذي أقام فيه "خليل فرح" في نواحي "أم درمان"، وجادت قريحته فيه بلحن "عزة في هواك". .؟ أو اين أقام إبراهيم العبّادي وهو ينظم مسرحية "المك نمر" وجلّ بدائع شعره المغنّى. .؟ أو أينَ يقع مسكن "كرومة"، وهو كَرْمةُ فنِّ الغناءِ البديعِ في زمانهِ، أو اينَ مقام "الحاج سرور"، وهل صار مزاراً فنياً من مزارات إبداع أهل السودان وفاءاً لإسهامه الباذخ، أو اين أقام "إبراهيم عبد الجليل" بُلبل السودان، وما برح المغني الكبير ذاكرتي وذاكرة صديقي في المهاجر البعيدة، الدكتور مصطفى مدثر، وقد كادَ أن ينساه أكثرنا مع المنسيين المغيبين عن وجدان الناس . .؟ أين "أولاد الموردة".  أينَ "زنقار". . ؟ هل يتذكر أهل الطرب والغناء هذه الأيام، أن يهيأوا مكاناً لمثل هؤلاء الخالدين، من قبل أن يكون لاتحادهم داراً على شط النيل، لغنائهم جامعاً، ولموسيقاهم موئلا. .؟

وأسأل مع السائلين، وقد كاد ذكر التجاني أن يذوي، أين كان مقامه . . ؟ أينَ "الخلوة" التي درس فيها "التجاني يوسف بشير". .؟ ليتهم وضعوا لوحة أو لافتة تحدّث أنه "تعلم هنا شاعرٌ إسمه التجاني يوسف بشير". أين المعهد العلمي الذي  اتهموه فيه في عقيدته. . ؟ ليتهم حدّثوا الناسَ بلافتة متواضعة أنّ شاعراً خالداً مرّ من هنا . .  أينِ سكنِ،  وأينِ أقام،  وأين مكاتب نفثات اليراع التي أسهم التجاني بقلمه  في تحريرها..؟ أين كرسيه ؟ أين حقيبته ؟ أين قلمه ..؟ كثيرون قد  لا يرون من جدوى لما أقول،  ولما أعدّد، ويغيب عن بصرِهم أن هذه  المُمسكات - على وهنها- هي التي تشدّنا جميعاً إلى وطنٍ نرى في مراياه  كيف يشكل الإبداع  مصادر تلهم التماسك والترابط والتماهي، لا  مُسبّبات للتنازع والتناحر وكسر أطرافه وأقاليمه.
الذي أحزنني  الآن ليس تفريطنا  في احتراز ما يحفّز ذاكرة الوجدان أن تتماسك فحسب، بل تفريطنا حتى في اصطناع ما يمكن أن  نحتال به على اهمالنا ونبقي عبره  مبدعينا في نظر أجيال ستأتي بعدنا، ماثلا أمامهم مجداً خالدا. "التجاني يوسف بشير" ، صار دوّاراً  تشرف عليه شرطة المــرور، ولا يعرف لا الدائرين حول الــدوّار بسياراتــهم  وبإشــاراتهم المرورية، وصافرات عرباتهم ودويّها، ولا نواطير الطريق بأزيائهم ونجومهم المذهبة، أنّ الإسم هو لشاعرٍ من أكثر شعراء البلاد لمعاً، وأشدّهم تناولا لمثاقفاتهم،  وأعمقهم نطقاً بوجدانه الأصيل ، ديناً ودنيا.

( 5 )
قبل أشهرٍ قليلة، تذكّر نفرٌ مِن المبدعين والغاوين ممّن يتبعون الشعراءَ مِن أمثالنا، في منتدى أقامه "نادي الدبلوماسي" في الخرطوم، أن لـ"لتجاني يوسف بشير" مئوية حلّتْ بحلول عام 2012 ، وأن المناسبة تقتضي أن نرتفع بمسئوليتنا فنجد للشاعر الفذّ مكاناً تحت شمس الألفية الثالثة الماثلة، فقد انطوى قرنٌ كامل على ميلاده. قال صديقنا الدكتور الأديب الناصعُ البيان: الصِّدّيق عُمر الصدّيق أنّهُ عاكفٌ على تحقيق ديوان "إشــراقة"، واستعجبَ كيف لم ينجز تحقيق هذا الديوان الفريد، طيلة هذه السنوات الطويلة، والديوان منذ الأربعينات  بين أيدينا؟ إني أحثهُ هنا أن يسرع قبل انقضاء العام الحالي ليخرج ديوان "إشراقة"، ليكون جائزة لنا في إشراق العام الجديد.   
على كثرة الأسماء التي أطلقتْ على أمكنةٍ وطرقاتٍ ومعالم عديدة في مدينة "أم درمان"، لا أرى مَعلماً واحداً فيها، يحمل إسم "التجاني يوسف بشير"، وهو الذي ولد فيها، وتعلّم في خلاويها، وتشرّب العلم والأدب في معهدها، وتوظّف في مكاتب شركاتها، وكتب في صحفها ومجلاتها، حتى كلّ واعتلّ وفارق الدنيا في مقتبل شبابه، وفي صدره المعلول توقٌ لمصر وما كُتبَ له أن يزورها، وشعرٌ يفور بدواخله فوران المرجل في غليانه، والتهاب اللافا الدفين في أحشاء صخوره . لو كان الأمر بيدي لأطلقت إسمه، لا على طريقٍ فيها، أو مكاناً عرفه "التجاني" يوماً، أو حديقة تجالس بعض المُبدعين فيها سرارا، بل لأطلقته  على كامل المدينة. .   فنقول عنها : هذه مدينة "التجاني يوسف بشير". . .



26 نوفمبر – 2012

 

آراء