الشوفينية في رواية “حوش بنات ود العمدة” للكاتبة سناء جعفر: قراءة نقدية
عاطف عبدالله
7 August, 2021
7 August, 2021
هذه ليست دراسة نقدية حسب مناهج النقد الأدبي المتعارف عليها، ولكنها قراءة نقدية تفاعلية للكشف عن جماليات النص مع تناوله من منظور مادي جدلي لتسليط الضوء على خبايا الصراع الطبقي و ما فيه من تناقضات حسب الظواهر المادية للفضاءات المجتمعية التي تتناولها الرواية وفضح ما فيها من شوفينية.
الشوفينية (chauvinism) كمصطلح سياسي يعود للقرن الثامن عشر يرمز إلى التطرف والتعصب القومي والعداء للأجانب والعنجهية والدفاع الغير عقلاني عن أي نظام أو فكره مع تحقير أي رأي مختلف.
استطاعت الكاتبة (سناء جعفر) بحرفية عالية أن تصور لنا الشوفينية في أقبح صورها بعد أن نقلتنا في كفاءة واقتدار من خلال روايتها الكبيرة (بنات حوش ود العمدة) (قرابة الأربعمائة صفحة من الحجم المتوسط) لنعيش الأحداث بتفاصيلها وأبعادها كافة، فهي لا تكتفي بالصورة ولا بالحوار أو الوصف الدقيق للأحاسيس والمشاعر أو تناول أبعاد المكان، بل تضيف للمشهد كل العناصر المادية الموجودة في الطبيعة كالطقس والرائحة والألوان. فهي دون شك تمتلك أدواتها كروائية وتعرف كيف توظفها بطريقة جيدة في السياق الدرامي ونقل محكم للحدث:
(... كان الصباح غائماً بفعل ذرات التراب العالقة في الجو والتي تدعمها الرياح بحفنات اخرى تكتسحها من الارض وترتفع بها الى اعلى في دوامات صغيرة متتابعة .. احست رجاء بلسعة برد تخترق ملابسها فأحكمت جاكيت الصوف الاسود حول جسدها وهي تسرع الخطى نحو مدخل الكنيسة العريض .. كان الهدوء يسود المبنى في هذا الوقت المبكر .. احست بالانقباض وهي تسمع طرقعات كعب حذائها على الارضية الاسمنتية الجافة ...) وهكذا تدهشنا الكاتبة سناء جعفر وهي تحرك أدواتها كي تضعنا في قلب المشهد.
"بنات حوش ود العمدة" عبارة عن حبكة درامية متصاعدة لأسرة عمادها حامد ود العمدة، وتبدأ الأحداث من خلال استعراض للطقوس والعادات التي تسبق وتتخلل الزواج، وتوثق المؤلفة لتلك المراسم وأدواتها بمعرفة عميقه لها ولدلالاتها واستخداماتها مثل : ( الطلح والكليت والهبيل واللخوخة والرحط والجدلة والفدو والرشمة واللبة والقصيص والفرجلات والحجول والقرمصيص والفركة و توب السرتي ..)
الحدث الذي تسوق الكاتبة من خلاله روايتها للقارئ هو مناسبة حفل زواج إحدى حفيدات ود العمدة (رحمة)، وعن طريق التداعي واستدعاء الذاكرة تنقب المؤلفة في شأن أفراد الأسرة الممتدة وتغوص في الظروف الذاتية والموضوعية التي شكلتهم مع انتقال في الحكي من العام الأفقي إلى المجهري الصادم في حياة كل فرد من أفراد الرواية، في إطار الصراع ما بين القلب والعاطفة وما هو صواب وعقلاني وما بين التضاد المقابل من معايير القبلية التي لا توائم التفكير العقلاني، التفكير الذي يضع الفكرة في ميزان العقل ويقيمها من منطلق أخلاقي بحت بعيداً عن المصلحة الضيقة وأحكام القيمة التي تستمد حضورها وأهميتها من منظومة القيم الاجتماعية المحروسة من حقب طبقية لم تعد لها وجود مادي في أرض الواقع الراهن لكن لها وجود معنوي مثل علاقات الاسياد والجواري والخدم والعبيد والسراري .
في إطار المنظور الروائي وبعيداً عن المباشرة والتقريرية، لا بد لأي رواية أن تقدم رؤية فكرية وتتخذ الموقف السليم من الصراع الاجتماعي الدائر في الفضاء الذي تتناوله الرواية، بحيث يحس القارئ أن الكاتب يسعى لإيصال فكرة ما أو وجهة نظر معينة في نقده للسلوكيات المجتمعية العامة وإبراز مناقصها حتى تتم معالجتها، لذا فلابد للرواية من هدف وأن تطرح موقفاً مما يحدث في ذلك الوجود المجتمعي الذي تتناوله خاصة حينما يكون ذلك الوجود المجتمع السوداني المثقل بأمراض المجتمعات القبلية العروبية التي تتمثل في العنصرية والاستعلائية العرقية والنزعات الفاشية التي تُمجّد العرق إلى حدّ التقديس.
تغص المجتمعات السودانية بمختلف أنواعها وتعدداتها بكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات بعضها إيجابي نفخر به ونسعى لإبرازه للآخرين والمحافظة عليه، وبعضها سلبي نسعى لمعالجته والقضاء عليه وفي كلا الحالتين نجد أنه لا بد من تسليط الضوء على تلك الممارسات سواء من أجل نشرها والتمسك بها أو من أجل محاربتها والقضاء عليها، وتتناول الرواية مجتمع أسرة شمالية ميسورة تتقوقع خلف القبلية الشوفينية والاعتقاد والمغالاة في الاعتزاز بالأصول العربية والتعصب والعنجهية والحط من شأن الآخر المختلف.
استعرضت الروائية سناء جعفر الكثير من تلك التابوهات التي تشوه وجه المجتمعات السودانية، وعلى الرغم من الحرفية العالية للكاتبة، لغةً ونقلاً ووصفاً وتحليلاً إلا أنها للأسف لم تصطف حتى النهاية خلف الحق والصواب، خلف البطل والوقوف بصرامة ضد خصومه ذو السلوكيات والأفكار السالبة، لم تنتصر للمستقبل على الماضي، بل أنها تعاملت مع الهزيمة كواقع لا مفر منه، فلا يمكن للغرباوي (أبناء الغرب) التجرؤ بالارتباط ببنت العرب الشمالية، نموذج حالة (زاهر) و(نادية)، وكانت أكبر هزيمة ليس لزاهر أو نادية بل للكاتبة نفسها هو عملية إجهاض نادية ثمرة زواجها من زاهر قبل الشروع في الفصل بينهما وعودة الحياة لطبيعتها بأن تتزوج نادية من أحد أفراد المقبولين لدى القبيلة المنزه من الشوائب العرقية، كما فشلت الكاتبة أن تنتصر للحب حينما رفضت للقبطي المسيحي، حتى ولو اسلم، الزواج من حبيبته بنت العرب المسلمة كما في حالة (جمال) و(منال)، وكما لا يمكن للمنحدرين من أصول مسترقة أن ينتصروا سواء في حياتهم الخاصة أو العامة، فالاسترقاق وصمة عار تظل ملتصقة بهم مهما طال الزمن ومهما نالوا الحظ من التعليم والثقافة (حالة حبيبة كنموذج)، كما أن الأطفال ضحايا الاغتصاب مكتوب عليهم أن يظلوا على هذا الحال مهما تغيرت الظروف الموضوعية من حولهم، نموذج حالة (إبراهيم) زوج حبيبة، كما أن الكاتبة لم تسجل إي إدانة لرب الأسرة (حامد) ود العمدة المسئول الأول في تكريس تلك القيم المتخلفة والحارث الأمين عليها، ود العمدة هو الشخصية المركزية في الرواية، الرجل متعدد الزوجات، التقليدي والتاجر الثري الذي تستعرضه الكاتبة كشخصية رئيسية وكشخص نموذجي وسط شخوص مساعدين في الرواية، حتى وهو في أشد لحظات ضعفه تقدمه الكاتبة مثل فرسان القرون الوسطى نبالة وأصالة، شهامة ووسامة. كما نجد شخصية أخرى شابة متسقة مع تلك القيم هي شخصية (أميرة) الحفيدة التي تقف ضد شقيقتها (نادية) عندما احبت الغرباوي وتقف بجانب أمها في اقصائها واجهاضها وختنها من جديد حتى تقضي على مصدر العلة والعار فيها.
من وجهة نظري أن الأبطال الحقيقيين لهذه الرواية هم زاهر ونادية وجمال ومنال وحبيبة وإبراهيم، لكن بطولتهم لم تكتمل لأن الكاتبة قررت هزيمتهم، وكان بيدها أن تجعل منهم أبطال ايجابيين أبطال يكافحون من أجل ترسيخ قيم ومفاهيم تنقل المجتمع والقبيلة والأفكار من مرحلة التخلف والشوفينية إلى مرحلة التقدم والانفتاح على الآخر والقبول به، البطولات تصنع عند الكفاح من أجل ترسيخ قيمة جمالية، كان على الكاتبة أن تؤمن بانتصارهم حتى ولو أدى الأمر لموتهم والتضحية بحياتهم عندها كانوا سيموتون أبطالاً والفكرة والمبادئ تظل حية.
ومما يدل على تقبّل الكاتبة لتلك الأوضاع الشاذة واستسلامها لها وتمسكها بها كصمام أمان هو المقطع الذي تختتم به الرواية وهو وصية الجد حامد ود العمدة لمنال بعد أن اختارت الهجرة والتي كانت تستحضرها كلما ضاقت بها نفسها، وتعتبرها بمثابة الزاد الذي يبعث في نفسها الطمأنينة.. ):
(.. يا منال يا بتي الحياة دي غريبة، بتحب تعاند معانا، بتديك الشئ الما عاوزو، وبتشيل منك اكتر شئ انت بتتمنى تاخدو، احياناً بعد زمن بتحن علينا وبتدينا، واحياناً ما بتدينا خالص، عشان تقدري تعيشي، اتعلمي تشيلي البتديك ليهو وانتي شاكرة، واوعك تحاولي تقالعيها في البتشيلو منك، لانك لو قالعتيها حتعاند معاك زيادة، وحتدخلي في دوامة ما بتنتهي من الحزن والتعاسة، اسأليني انا يا منال، واسمعي نصيحتي، اقبلي العندك، واحمدي ربك عليهو .. )
بالتأكيد هذه الدراسة لا تغطي كل جوانب العمل الأدبي الذي قدمته الكاتبة خاصة الجوانب الفنية لكنه استهدف فقط التابوهات القبلية والموروثات المتخلفة المتمثلة في الاستعلاء العرقي التي تناولتها الرواية، وعلى الرغم من أن قطاع واسع من الشباب تجاوز تلك القيم واخذ يزدريها ويسخر منها في الواقع، إلا أن تلك القيم للأسف لا زالت تجد من يمجدها خاصة بعد أن تربت وربربت في الحاضنة السياسية للنظام البائد التي قنن لها وشرع القوانين التي تكرس للقبلية بعد أن مارس الإقصائية والتهميش في أبشع صوره.
أتمنى ألا يؤخذ رأيي في هذا التناول النقدي للتقليل من جماليات النص أو من شأن الكاتبة وجهدها، يكفي نحتفي بها جرأتها في تشريح ذلك المجتمع الإستعلائي وتسليط الضوء على أسوأ ما فيه من إفرازات، وطرح العلاقات السرية التي تتم بين دهاليزه وصراعاته وسلوكياته المشينة في مائدة البحث والنقاش.
عاطف عبدالله
Atifgassim@gmail.com
الشوفينية (chauvinism) كمصطلح سياسي يعود للقرن الثامن عشر يرمز إلى التطرف والتعصب القومي والعداء للأجانب والعنجهية والدفاع الغير عقلاني عن أي نظام أو فكره مع تحقير أي رأي مختلف.
استطاعت الكاتبة (سناء جعفر) بحرفية عالية أن تصور لنا الشوفينية في أقبح صورها بعد أن نقلتنا في كفاءة واقتدار من خلال روايتها الكبيرة (بنات حوش ود العمدة) (قرابة الأربعمائة صفحة من الحجم المتوسط) لنعيش الأحداث بتفاصيلها وأبعادها كافة، فهي لا تكتفي بالصورة ولا بالحوار أو الوصف الدقيق للأحاسيس والمشاعر أو تناول أبعاد المكان، بل تضيف للمشهد كل العناصر المادية الموجودة في الطبيعة كالطقس والرائحة والألوان. فهي دون شك تمتلك أدواتها كروائية وتعرف كيف توظفها بطريقة جيدة في السياق الدرامي ونقل محكم للحدث:
(... كان الصباح غائماً بفعل ذرات التراب العالقة في الجو والتي تدعمها الرياح بحفنات اخرى تكتسحها من الارض وترتفع بها الى اعلى في دوامات صغيرة متتابعة .. احست رجاء بلسعة برد تخترق ملابسها فأحكمت جاكيت الصوف الاسود حول جسدها وهي تسرع الخطى نحو مدخل الكنيسة العريض .. كان الهدوء يسود المبنى في هذا الوقت المبكر .. احست بالانقباض وهي تسمع طرقعات كعب حذائها على الارضية الاسمنتية الجافة ...) وهكذا تدهشنا الكاتبة سناء جعفر وهي تحرك أدواتها كي تضعنا في قلب المشهد.
"بنات حوش ود العمدة" عبارة عن حبكة درامية متصاعدة لأسرة عمادها حامد ود العمدة، وتبدأ الأحداث من خلال استعراض للطقوس والعادات التي تسبق وتتخلل الزواج، وتوثق المؤلفة لتلك المراسم وأدواتها بمعرفة عميقه لها ولدلالاتها واستخداماتها مثل : ( الطلح والكليت والهبيل واللخوخة والرحط والجدلة والفدو والرشمة واللبة والقصيص والفرجلات والحجول والقرمصيص والفركة و توب السرتي ..)
الحدث الذي تسوق الكاتبة من خلاله روايتها للقارئ هو مناسبة حفل زواج إحدى حفيدات ود العمدة (رحمة)، وعن طريق التداعي واستدعاء الذاكرة تنقب المؤلفة في شأن أفراد الأسرة الممتدة وتغوص في الظروف الذاتية والموضوعية التي شكلتهم مع انتقال في الحكي من العام الأفقي إلى المجهري الصادم في حياة كل فرد من أفراد الرواية، في إطار الصراع ما بين القلب والعاطفة وما هو صواب وعقلاني وما بين التضاد المقابل من معايير القبلية التي لا توائم التفكير العقلاني، التفكير الذي يضع الفكرة في ميزان العقل ويقيمها من منطلق أخلاقي بحت بعيداً عن المصلحة الضيقة وأحكام القيمة التي تستمد حضورها وأهميتها من منظومة القيم الاجتماعية المحروسة من حقب طبقية لم تعد لها وجود مادي في أرض الواقع الراهن لكن لها وجود معنوي مثل علاقات الاسياد والجواري والخدم والعبيد والسراري .
في إطار المنظور الروائي وبعيداً عن المباشرة والتقريرية، لا بد لأي رواية أن تقدم رؤية فكرية وتتخذ الموقف السليم من الصراع الاجتماعي الدائر في الفضاء الذي تتناوله الرواية، بحيث يحس القارئ أن الكاتب يسعى لإيصال فكرة ما أو وجهة نظر معينة في نقده للسلوكيات المجتمعية العامة وإبراز مناقصها حتى تتم معالجتها، لذا فلابد للرواية من هدف وأن تطرح موقفاً مما يحدث في ذلك الوجود المجتمعي الذي تتناوله خاصة حينما يكون ذلك الوجود المجتمع السوداني المثقل بأمراض المجتمعات القبلية العروبية التي تتمثل في العنصرية والاستعلائية العرقية والنزعات الفاشية التي تُمجّد العرق إلى حدّ التقديس.
تغص المجتمعات السودانية بمختلف أنواعها وتعدداتها بكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات بعضها إيجابي نفخر به ونسعى لإبرازه للآخرين والمحافظة عليه، وبعضها سلبي نسعى لمعالجته والقضاء عليه وفي كلا الحالتين نجد أنه لا بد من تسليط الضوء على تلك الممارسات سواء من أجل نشرها والتمسك بها أو من أجل محاربتها والقضاء عليها، وتتناول الرواية مجتمع أسرة شمالية ميسورة تتقوقع خلف القبلية الشوفينية والاعتقاد والمغالاة في الاعتزاز بالأصول العربية والتعصب والعنجهية والحط من شأن الآخر المختلف.
استعرضت الروائية سناء جعفر الكثير من تلك التابوهات التي تشوه وجه المجتمعات السودانية، وعلى الرغم من الحرفية العالية للكاتبة، لغةً ونقلاً ووصفاً وتحليلاً إلا أنها للأسف لم تصطف حتى النهاية خلف الحق والصواب، خلف البطل والوقوف بصرامة ضد خصومه ذو السلوكيات والأفكار السالبة، لم تنتصر للمستقبل على الماضي، بل أنها تعاملت مع الهزيمة كواقع لا مفر منه، فلا يمكن للغرباوي (أبناء الغرب) التجرؤ بالارتباط ببنت العرب الشمالية، نموذج حالة (زاهر) و(نادية)، وكانت أكبر هزيمة ليس لزاهر أو نادية بل للكاتبة نفسها هو عملية إجهاض نادية ثمرة زواجها من زاهر قبل الشروع في الفصل بينهما وعودة الحياة لطبيعتها بأن تتزوج نادية من أحد أفراد المقبولين لدى القبيلة المنزه من الشوائب العرقية، كما فشلت الكاتبة أن تنتصر للحب حينما رفضت للقبطي المسيحي، حتى ولو اسلم، الزواج من حبيبته بنت العرب المسلمة كما في حالة (جمال) و(منال)، وكما لا يمكن للمنحدرين من أصول مسترقة أن ينتصروا سواء في حياتهم الخاصة أو العامة، فالاسترقاق وصمة عار تظل ملتصقة بهم مهما طال الزمن ومهما نالوا الحظ من التعليم والثقافة (حالة حبيبة كنموذج)، كما أن الأطفال ضحايا الاغتصاب مكتوب عليهم أن يظلوا على هذا الحال مهما تغيرت الظروف الموضوعية من حولهم، نموذج حالة (إبراهيم) زوج حبيبة، كما أن الكاتبة لم تسجل إي إدانة لرب الأسرة (حامد) ود العمدة المسئول الأول في تكريس تلك القيم المتخلفة والحارث الأمين عليها، ود العمدة هو الشخصية المركزية في الرواية، الرجل متعدد الزوجات، التقليدي والتاجر الثري الذي تستعرضه الكاتبة كشخصية رئيسية وكشخص نموذجي وسط شخوص مساعدين في الرواية، حتى وهو في أشد لحظات ضعفه تقدمه الكاتبة مثل فرسان القرون الوسطى نبالة وأصالة، شهامة ووسامة. كما نجد شخصية أخرى شابة متسقة مع تلك القيم هي شخصية (أميرة) الحفيدة التي تقف ضد شقيقتها (نادية) عندما احبت الغرباوي وتقف بجانب أمها في اقصائها واجهاضها وختنها من جديد حتى تقضي على مصدر العلة والعار فيها.
من وجهة نظري أن الأبطال الحقيقيين لهذه الرواية هم زاهر ونادية وجمال ومنال وحبيبة وإبراهيم، لكن بطولتهم لم تكتمل لأن الكاتبة قررت هزيمتهم، وكان بيدها أن تجعل منهم أبطال ايجابيين أبطال يكافحون من أجل ترسيخ قيم ومفاهيم تنقل المجتمع والقبيلة والأفكار من مرحلة التخلف والشوفينية إلى مرحلة التقدم والانفتاح على الآخر والقبول به، البطولات تصنع عند الكفاح من أجل ترسيخ قيمة جمالية، كان على الكاتبة أن تؤمن بانتصارهم حتى ولو أدى الأمر لموتهم والتضحية بحياتهم عندها كانوا سيموتون أبطالاً والفكرة والمبادئ تظل حية.
ومما يدل على تقبّل الكاتبة لتلك الأوضاع الشاذة واستسلامها لها وتمسكها بها كصمام أمان هو المقطع الذي تختتم به الرواية وهو وصية الجد حامد ود العمدة لمنال بعد أن اختارت الهجرة والتي كانت تستحضرها كلما ضاقت بها نفسها، وتعتبرها بمثابة الزاد الذي يبعث في نفسها الطمأنينة.. ):
(.. يا منال يا بتي الحياة دي غريبة، بتحب تعاند معانا، بتديك الشئ الما عاوزو، وبتشيل منك اكتر شئ انت بتتمنى تاخدو، احياناً بعد زمن بتحن علينا وبتدينا، واحياناً ما بتدينا خالص، عشان تقدري تعيشي، اتعلمي تشيلي البتديك ليهو وانتي شاكرة، واوعك تحاولي تقالعيها في البتشيلو منك، لانك لو قالعتيها حتعاند معاك زيادة، وحتدخلي في دوامة ما بتنتهي من الحزن والتعاسة، اسأليني انا يا منال، واسمعي نصيحتي، اقبلي العندك، واحمدي ربك عليهو .. )
بالتأكيد هذه الدراسة لا تغطي كل جوانب العمل الأدبي الذي قدمته الكاتبة خاصة الجوانب الفنية لكنه استهدف فقط التابوهات القبلية والموروثات المتخلفة المتمثلة في الاستعلاء العرقي التي تناولتها الرواية، وعلى الرغم من أن قطاع واسع من الشباب تجاوز تلك القيم واخذ يزدريها ويسخر منها في الواقع، إلا أن تلك القيم للأسف لا زالت تجد من يمجدها خاصة بعد أن تربت وربربت في الحاضنة السياسية للنظام البائد التي قنن لها وشرع القوانين التي تكرس للقبلية بعد أن مارس الإقصائية والتهميش في أبشع صوره.
أتمنى ألا يؤخذ رأيي في هذا التناول النقدي للتقليل من جماليات النص أو من شأن الكاتبة وجهدها، يكفي نحتفي بها جرأتها في تشريح ذلك المجتمع الإستعلائي وتسليط الضوء على أسوأ ما فيه من إفرازات، وطرح العلاقات السرية التي تتم بين دهاليزه وصراعاته وسلوكياته المشينة في مائدة البحث والنقاش.
عاطف عبدالله
Atifgassim@gmail.com