الصراع حول الأرض في السودان (1)

 


 

 

1
نتناول في هذه الدراسة الصراع الاجتماعي والطبقي حول ملكية الأرض في السودان وتبدلاتها وقوانين تنظيمها مع تغير نظم الحكم منذ السودان القديم، ممالك النوبة المسيحية، مملكة الفونج، سلطنة دارفور ، الحكم التركي –المصري، المهدية ، الحكم الثنائي الانجليزي – المصري ، وبعد استقلال السودان.
الواقع أنه بدأ الاهتمام الجاد بالجذور التاريخية لملكية الأرض ونظمها وأوجه استغلالها ، ومال عائدها في تركيبة المجتمع السوداني ونظمه الاجتماعية والسياسية ،والنزاع حولها بشكل كبير منذ أن نشر المرحوم البروفيسور محمد ابراهيم ابوسليم مؤلفاته : الفونج والأرض ( وثائق تمليك) 1967 ، الأرض في المهدية 1970 ،الفور والأرض 1975 ، ومحمد إبراهيم ابوسليم ود. ج. ل. اسبولدنق : وثائق من سلطنة سنار في القرن الثامن 1992.واصبحت تلك الوثائق من المصادر الأولية في دراسة تلك الفترات في تاريخ السودان، وكتب عنها الكثيرون في ابحاثهم والمجلات الدورية للدراسات التاريخية والسودانية.
كما صدر كتاب د. ابو سليم عن الساقية ، دار جامعة الخرطوم 1970 ، رغم أن الكتاب لا علاقة له بوثائق الأرض ، لكنه تناول الملكية وتوزيع المحصول ، وقدم ايضا د. ابو سليم ورقة بعنوان " وظيفة الأرض وتبدلها في السودان" للمؤتمر الثالث عن حضارة أواسط بلاد السودان بين التقليد والتكيف الذي عُقد بمعهد الدراسات الأفريقية الآسيوية.
كما تناول الأستاذ محمد إبراهيم نقد وثائق الأرض التي نشرها د. ابوسليم بالدراسة والتعليق في كتابه : علاقات الأرض في السودان ( هوامش علي وثائق الأرض)، دار الثقافة الجديدة 1993م.
و صدر كتاب أ.س. بولتون : اضواء علي الملكية الزراعية في السودان، ترجمة هنري رياض ، مكتبة خليفة عطية – السجانة ، بدون تاريخ) الذي تناول الطرق المختلفة لحيازة الأرض الزراعية في السودان ( دون التطرق لأراضي المدن)، في ضوء قانون 1925 الذي اعتبر كل الأراضي غير المسجلة ملكا للحكومة ، تناول الفصل الأول من الكتاب الأراضي الزراعية في المديريات الشمالية ، والثاني الأراضي الزراعية في المديريات الجنوبية.
أما كتاب د. محمد سليمان محمد : السودان صراع الموارد والهوّية ، دار كمبردج 2000 ، فقد تناول جانبا من مآسي نهب الأراضي والحروب الأهلية بعد هجمة الزراعة الآلية منذ العام 1968 بقيام مؤسسة جبال النوبا بتمويل من البنك الدولي ومنح اخصب الأراضي للجلابة (كبار الموظفين، التجار ، ضباط الجيش المتقاعدين.الخ) ،في ارتباط بصراع الهوّية، كما تابع صراع الموارد والهوّية في الجنوب ( قبل الانفصال)، وجبال النوبا وشرق السودان ودارفور.
كما تناول تاج السر عثمان الحاج ملكية الأرض في مؤلفاته: تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي، دار عزة 2003 ، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي - مركز محمد عمر بشير 2004، تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي ، مكتبة الشريف الأكاديمية 2005- التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي في السودان- مركز محمد عمر بشير 2006، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني 2010 ، تناول ملكية الأرض في اطار دراسته للتشكيلة الاجتماعية في تلك الكتب، وماتشمل من علاقات وقوي الإنتاج والتركيب الطبقي ، وخصوصية نظام الاقطاع ،وتطور وسمات الدولة والبنية الفوقية للمجتمع ( مجمل أراء الناس السياسية والحقوقية والدينية. الخ).
ايضا صدر كتاب الحداثة بعنوان " المواطنة المؤقتة في السودان : ملكية الأرض كآلية استغلال ، للمؤلف عثمان نواي هبيلا.
وصدر كتاب زوال أرض السودان الخطر القادم ، للكاتب الصحفي محمد التعيم ابوزيد ، جزيرة الورد القاهر
وكذلك صدر كتاب المناطق المهمشة في السودان : كفاح من اجل الأرض والهوّية ، لمؤلفه عادل شالوكا 2016.
وغير ذلك من المؤلفات التي تناولت ملكية الأرض وتبدلها ووظيفتها ونهبها والصراعات والحروب التي دارت حولها.
ومعلوم أن الأرض هي ركيزة العمل الأساسي في الإنتاج الزراعي والرعوي والغابي وما بداخلها من كنوز (ذهب ، معادن، بترول ، مياه جوفية. الخ) ، لذلك كان الصراع الاجتماعي والطبقي حولها يرتبط بنصيب الطبقات الغنية من تلك الثروات ، فهي مفتاح السلطة وتقاسم الثروات والموارد، كما حدث في الماضي والصراع الجاري حاليا حولها وما أدي من صراعات وحروب .
هذا اضافة الي توجه رأس المال الاقليمي والعالمي ووكلائه في الداخل بهدف الاستثمارالأراضي وثروات السودان بالاستثمار في الزراعة وفي باطن الأرض ( بترول ، معادن ) وتشريد سكان تلك المناطق ، وصراع السكان الأصليين من أجل استعادة أراضيهم ، والصراع بين الرعاة والمزارعين نتيجة لدخول الزراعة الالية ، التي قلصت المراعي، وتفريط الحكومة منذ عهد الانقاذ بتأجير الأراضي للمستثمرين الأجانب لمدة 99 عاما بشروط محجفة لشعب السودان واستنزاف مياهه الجوفية ، وعدم مراعاة لحقوق الأجيال القادمة..
زاد من الصراع علي الأراضي تغلغل نمط الإنتاج الرأسمالي في الريف ، وتشريد أعداد كبيرة من السكان الأصليين للمدن للعمل في المهن الهامشية، أو عملهم أجراء في أراضيهم التي تم نزعها منهم !! ، وسيطرة الوافدين الجدد علي الأراضي الزراعية كما حدث في جنوب كردفان (التجار، الموظفون، ضباط الجيش ) في مشاريع الزراعة الآلية في مثل : هبيلا ، ابوجبيهة ، الترتر ، تلودي ، الأزرق الليري. الخ ، مما أدي لاستقطاب طبقي لصالح أغنياء المزارعين العاملين في الزراعة الآلية، مما أدي لانضمام أعداد كبيرة من أبناء النوبا للحركة الشعبية بسبب نهب أراضيهم الزراعية الخصبة.
كما أدت الزراعة الالية الي تدمير الغطاء النباتي جراء قطع الأشجار ، وتدمير البيئة والجفاف والتصحر الذي حدث في العام 1983/ 1984، مما أدي لتصبح المناطق الخصبة التي تقطنها قبائل الفور والداجو والبرتي والبرقو هدفا للنزوح لها من قبائل الابالة (رعاة الأبل) من شمال دارفور، ومن الزغاوة الذين تضررت مراعيهم بعد مجاعة 1983/1984 ، ومع قيام نظام الانقاذ اتخذ الصراع طابعا اثنيا بعد تسليح القبائل الرعوية وتكوين الجنجويد بهدف نهب اراضي تلك القبائل الخصبة ومواردها المعدنية، علي أساس المفهوالإسلامي " الأرض ملك لله" وعدم الاعتراف بملكية الحواكير للقبائل ، وادي للنزاع في دارفور الذي ساندت فيه الحكومة الجنجويد مما أدي لمقتل أكثر 300 ألف ونزوح أكثر 2,5 مليون ، مما أدي ليكون البشير ومن معه مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية ، وما زال الصراع مستمرا لتهب الأراضي الخصبة والثروات المعدنية ، كما حدث في جبل عامر الذي استولي علي ذهبه قائد الدعم السريع حميدتي، وجبل مون . الخ.
هذا اضافة للصراع في شمال السودان ضد السدود ، وشركات التعدين التي تنهب اراضي السكان المحليين ، وتستخدم المواد الضارة بالبيئة ( الزئبق ، السيانيد. الخ)، اضافة لأثر انفصال جنوب السودان الذي فقد فيه السودان أكثر من خمس اراضيه ، و 75% من عائد النفط ، فضلا عن احتلال مصر لحلايب وشلاتين وابوماد، في الشمال واثيوبيا للفشقة في الشرق وقبل ذلك في شمال السودان فقد السودان جزءا عزيزا من اراضيه وهي منطقة حلفا بكنوزها وأثارها التاريخية ، بعد اغراقها بقيام السد العالي.

2
اولا :
الأرض في السودان القديم :
المقصود بالسودان القديم هنا هوالفترة التي تغطي عصورماقبل التاريخ ( العصور الحجرية) التي عُرفت فيها ملكية القبيلة للأرض والتقاط الثمار والصيد وغير ذلك من سمات المجتمعات القبلية البدائية ، والعصور التاريخية حتي قيام ممالك النوبة المسيحية في نهاية القرن السادس الميلادي، بمعني أن تاريخ السودان القديم ينتهي مع بداية قيام الممالك المسيحية.
وعصور ماقبل التاريخ تشمل العصر الحجري القديم والوسيط والحديث " النيولوتي"، والعصور التاريخية تشمل حضارة المجموعات ومملكة كرمة، ومملكة نبتة ومملكة مروي ، وحضارة المجموعة(×)، حسب التسلسل الذي وضعه عالم الآثار" رايزنر
كيف كان وضع الأرض في السودان القديم ؟
تظهر مسألة ملكية الأرض في السودان باعتبارها ركيزة العمل في الزراعة والرعي مع قيام اقدم دولة سودانية هي مملكة كرمة كان ذلك نتاج التطور واتساع الفروق الاجتماعية وظهور الطبقات المالكة والتي كانت من وظائفها حماية امتيازات ( الملوك ، الكهنه، إلاداريين ، الموظفين …) وحماية التجارة وبسط الأمن، وبالتالي ظهر الجيش ليقوم بتلك الوظائف وتحت ظل هذه الدولة شهد السودان قيام أول مدن كبيرة وشهد أول انقسام بين المدينة والريف، كما تطورت التجارة مع المملكة المصرية وتطورت الصناعة الحرفية مثل الفخار ، السلاح، العناقريب، أدوات الزينة.الخ. وشهد السودان أول انقسام طبقي وعرف المجتمع طبقتين أساسيتين : الطبقة المالكة التي تشمل الملوك، وحكام الأقاليم، والكهنة، والإداريين، والموظفين، والتجار، وطبقة الشعب التي تضم المزارعين، والحرفيين، الرقيق ، الرعاة. كما عرفت دولة كرمة الفائض الاقتصادي الناتج من تطور الزراعة والرعي والتجارة والصناعة الحرفية ويتضح ذلك من الاكتشافات الأثرية التي أمدتنا بمعلومات عن تطور في تلك الجوانب .وعلي أساس هذه القاعدة الاقتصادية ولعوامل متداخلة ومتشابكة دينية وسياسية نشأت الدولة ويبدو أن تراكم الفائض الاقتصادي في يد الكهنة من العوامل التي أدت إلى قيام الدولة ونشأة المدينة التي قامت حول معبد أو مبني ديني ويتضح ذلك من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الكهنة والتي كانت تمد الدولة والمعابد بالاحتياجات.
كما تظهر قضية الأرض في مملكة نبتة في الآتي :
جاء في قطعة أخرى يصف فيها الملك (هارسيونيق) رحلته لارض نبته ،
حيث تم تتويجه يقول فيها :-
ياملك ارض المحس
تعال مندفعاً مع تيار النهر إلى..
تعال هنا لمعبد آمون ..
أعطى تاج الملوك ارض المحس
لاهبكم كل البقاع
ولاهبكم الفيضان العميم .
والأمطار الدافقة ..
واضع كل الأعداء تحت رحمتكم
فلا عاش من يعاديكم
والدم .. الدم .. للأعداء
من هذه الوثيقة تتضح وظائف أخرى من وظائف الملوك منها :ـ
أن الملك هو ممثل الاله آمون في الأرض ، وان هذا الملك هو الذي يهب الرعايا ( كل البقاع)
وإذا جاز التفسير يمكن القول بان الملك هو المتحكم في كل الأراضي الزراعية الخصبة التي يهبها لرعاياه للعمل فيها ، وانه يهبهم الفيضان العميم اللازم للزرع والضرع وبحسبان أن النيل هو عصب حياه رعايا نبته ، إضافة للأمطار الدافقة التي تسبب الفيضان والتي بدونها لا تكون حياة .
مملكة مروي
كانت مملكة مروي (300ق.م -350م) تطوراً ارقي واوسع في مسار الدولة السودانية ، وفيها تجسد الاستقلال الحضاري واللغوي والديني.
- في الجانب الاقتصادي: تطورت أساليب وفنون الرعي وتربية الحيوانات، حيث ظهر اهتمام اكبر بالماشية وبناء الحفائر لتخزين المياه واستعمالها في فترات الشح.
- دخلت الساقية السودان في العهد المروي ، واحدثت تطوراً هائلاً في القوه المنتجة حيث حلت قوة الحيوان محل قوة الإنسان العضلية ، وتم إدخال زراعة محاصيل جديدة ، أصبحت هنالك اكثر من دورة زراعية واحدة، وأحدثت توسعا في الأراضي الزراعية.
- ازدهرت علاقة مروي التجارية مع مصر في عهود البطالمة واليونان والرومان ، وكانت أهم صادرات مروي إلى مصر هي: سن الفيل والصمغ والروائح والخشب وريش النعام بالإضافة إلى الرقيق ، وكانت التجارة تتم بالمقايضة.
- شهدت مروي صناعة الحديد الذي شكل ثورة تقنية كبيرة، وتم استخدامه في صناعة الأسلحة وأدوات الإنتاج الزراعية مما أدى إلى تطور الزراعة والصناعة الحرفية ، كما تطورت صناعة الفخار المحلي اللامع.
واخيراً ، فيما يخص ملكية الأرض ،يمكن أن نتصور أن ملوك مروي الذين كانوا يحكمون باسم الآلهة ، كانت لهم سيطرة مطلقة علي الرعايا ، كما كانوا يمتلكون الأراضي الزراعية ويعتبرون العاملين فيها عبيداً لهم ، هذا إضافة إلى الضرائب والإتاوات التي كانت تصلهم من الرعايا والأقاليم من عائد الأراضي وغنائم واسلاب الحروب ومن عائد التجارة ، وعليه يمكن أن نتصور أن هؤلاء الملوك جمعوا ثروات تم تحويلها إلى كنوز من الذهب والفضة وانفاق جزء كبير منها في بناء الأهرامات والأعمال الفنية العظيمة الشامخة التي تلمسها في أطلال وأثار ـ مروي / كبوشية .

alsirbabo@yahoo.co.uk
////////////////////////////

 

آراء