الفنان أبو عركي البخيت و الفن الراقي الملتزم .. بقلم :د. عمر بادي
عمود : محور اللقيا
أديني رأيك بصغي ليك
بوضح وجهة نظري فيك
فاسمعني
الحد الأدنى بينا يكون
لغة الحوار
نعترف بأنو وطنا
بيعاني
الكلمات أعلاه مقطع من أغنية وطنية جديدة للفنان أبو عركي في شكل ميثاق شرف للرأي و الرأي الآخر في تناول قضايا الوطن , و هي من كلماته و لحنه و غنائه , و قد شدا بها في الحفل الرائع الذي نظمته جمعية الصحفيين السودانيين في المملكة العربية السعودية في رياض الخير في يوم 7 أبريل 2011 .
في حنايا الذاكرة يتجلى لي الفنان أبو عركي و عشقي القديم له منذ السبعينات من القرن الماضي حيث كان يتقاسم التسيد على الساحة الفنية في السودان مع رفيقه الفنان زيدان إبراهيم في ثنائية أثرت الوجدان الشبابي بأغنيات في غاية الروعة و لا زال صداها يضوع و ينداح مثالا للفن الجميل ! و أنا في فورة الشباب و العشق و التفتح ربطت تجاربي بصدى أغنياتهما , و الى اليوم أعود إلى مخزون الذاكرة متى إستمعت إلى تلك الأغنيات .
أذكر في تلك الفترة من السبعينات أن ذهبت ذات يوم إلى معهد الموسيقى و المسرح في زيارة إلى صديقي و قريبي الفنان الملحن فتحي المك الذي كان يدرس في المعهد آنذاك ووجدته داخل إحدى الغرف في تمرين صوتي . أخرجت له من جيبي قصيدة من النوع العاطفي التقليدي فأعجب بها و بدأ يردد في مقاطعها في محاولة لوضع لحن لها , و في هذا الأثناء دخل علينا الفنان أبو عركي الذي كان أيضا يدرس في معهد الموسيقى و تناول القصيدة و شرع في تردادها على إيقاع مفاتيح البيانو الذي كان بالغرفة :
أحلى الكلام عاهدت نفسي أقولو فيك
يا غالي أصلي فتنت بيك
و كان تعليقه أنها جميلة و موزونة , فسأله الأخ فتحي المك لم لا يغنيها ؟ و كان رد ابو عركي إنه يتخير كلمات أغنياته و يبحث فيها عن أشياء معينة , و هكذا تناول الفنان فتحي المك قصيدتي تلك و قام بتلحينها و لكنها ضاعت من ضمن ألحانه الكثيرة التي تخلى عنها بعدما إعتزل الغناء و التلحين و سار في ركب التدين . الفنان أبو عركي إذن يسعى إلى التجديد في الأغنية السودانية لغة و لحنا , و كما قال صديقي الأديب محمود محمد مدني يرحمه الله في أغنية ( يا قلب ) للفنان أبو عركي : ( دقينا أبواب الجديد , و أعدنا ترتيب المعاني ) . التجديد في المفردات يكون بفتح مساحات للتعابير الغريبة في نظر البعض كشراب عسل النحل و برتقالة الحبيبة و خيال الرمانة و تفاحة حواء ! و التجديد يكون بالرجوع للمفردات الموغلة في العامية كالرواكيب و الشيتن الكتر و موية المطر و التيراب , و التجديد يكون أيضا بالتفاؤل و بغرس الأمل في النفوس و بالوقوف مع إنسان السودان و بالرمز الذي يربط معنى الحبيبة بالوطن . كل ذلك يصاحبه نوع من جنون العباقرة يقال له ( الجن العاقل ) و هو مغاير ل ( الجن الكلكي ) !
كان الفنان أبو عركي قد حضر إلى المملكة العربية السعودية في زيارة عائلية لزوجته الدكتورة عفاف الصادق التي تعمل مغتربة في جنوب المملكة , و حينما عرض عليه إقامة حفل جماهيري للجالية السودانية بالرياض لم يتحمس لذلك بحجة عدم مصاحبة الفرقة الفنية له في رحلته , و كما هو معروف عنه فهو يهتم بالموسيقى في أغانيه و هو موزع موسيقي مؤهل . لكن كانت المفاجأة العظيمة له أن وجد في مدينة الرياض فرقة موسيقية مكتملة و مكونة من عازفين سودانيين قدامى و جدد , فقاد الفرقة خير قيادة رغم ضيق فترة ( البروفات ) التي سبقت الحفل . لذلك فقد غنى الفنان أبو عركي من أعماقه و زاده في ذلك تجاوب الجمهور معه الذي ملأ القاعة عن آخرها , و حينما كانوا يرددون : ( عركي , عركي ) كان يشير إلى الفرقة فيزدادوا تصفيقا لها . لقد إستهل أبو عركي حفله بأغنية ( جبل مرة ) رمزا لدارفور الجرح الغائر في خاصرة الوطن , و ظل يتلفت يمينا و يسارا في الصالة و في الحضور و في الثياب التي كانت كلها عبارة عن تظاهرة لونية , و هو يردد : ( حمرة و خضرة , زرقة و صفرة , و جمال ألوان , زي غيمة تغازل كل زهرة , و خيال رمانة على المجرى ) .
في حفله الساهر ذاك قال الفنان أبو عركي بضع كلمات للحضور الحاشد الذي تجاوب معه كثيرا , قال : ( عندما أكون خارج السودان كثيرا ما يسالونني عن كيف الحال هناك , فأجيب إننا مستمرين نعافر , فتعالوا عافروا معانا , و الما بقدر يعافر معانا يرسل لينا ... ) . في ذلك الحفل كرمته جمعية الصحفيين السودانيين بالمملكة و لكنه كان غير راض عن ذلك , و أشار في تواضع أن الذي يستحق التكريم هو الشعب السوداني الذي يكون تكريمه بمجانية التعليم و مجانية العلاج و تخفيف أعباء المعيشة ! هل رأيتم شخصا مثل أبو عركي مجذوبا إلى ( حضرة ) الشعب بهذه الدرجة ؟
في لقائه مع الشعراء و الأدباء في منتدى الأربعاء الأدبي بالرياض إرتجل ابو عركي كلمات قال فيها :
سودانيين ,
و محل ما بتبقوا
بتسروا العين
و إقترحنا عليه في ذلك اللقاء أن يكملها , و إلا فسوف نكملها نحن !
الإنحياز إلى الشعب السوداني و التمسك بجمر القضية و الإلتزام بالفن الرسالي و بالقيم الإنسانية و عدم الغناء و التمجيد للأنظمة الشمولية .. كان كل ذلك و لا زال ديدن الفنان أبو عركي في مسيرته الفنية .. و النتيجة مضايقة النظام له في أجهزة الإعلام و إقصائه عن المشاركات الفنية و التضييق عليه , إلى أن إتخذ قراره بكل كبرياء بالإبتعاد عن أجهزة الإعلام و مقاطعتها , و النتيجة أن صار يعيش على ( السليقة ) غير عابيء بتناقض الأضداد ! و عندما أعاد النظام النظر في سياساته القديمة مكرها لا بطلا و أطل وزير الثقافة السموأل خلف الله بمشاريعه التي أعادت للفن قيمته , عاد الفنان ابو عركي في ( ليالي أم درمان ) في حفله المحضور الرائع على المسرح القومي , عاد و كأنه لم ينقطع أبدا عن شعبه و جماهيره و غنى لهم و تجاوبوا معه . أبو عركي الآن يخرج في جولات فنية حول العالم و يغني للجميع و يربطهم بالوطن , و لديه مشروع لطرح أغنياته على ال ( يوتيوب ) في الإنترنت كي تكون في متناول الجميع .
أخيرا , لن أبرح سيرة الفنان أبو عركي قبل أن أحيي رفيقة دربه الدكتورة الشاعرة عفاف الصادق حمد النيل , التي وقفت بجانبه في رحلة عمر جميلة صاغتها كلمات في غاية الشفافية , و أنبتت من ( تيراب ) ارضها غرسات مهجوسات بالفن .
omar baday [ombaday@yahoo.com]