الكوارث والسياسيون… دروس من الماضي والحاضر

 


 

 

في غالب الأحيان يستعد السياسي للتعامل مع الكوارث خاصة في دول العالم الإسلامي مسلحاً بالعديد من التبريرات التي يلتمس بها العذر لدى ضحايا الكوارث. ولربما لا تكون الحالة خاصة بفرد سياسي على وجه التحديد، وإنما بمطلق جمع السياسيين. فعقلية السياسيين تكاد تتشابه في الكثير من الأوجه، خاصة في التعامل مع قضايا الكوارث.. ولا يكترثون لها لأنها في الغالب الأعم تؤثر وبشكل أكثر مباشرة على الفئات الأكثر هشاشة في المجمتع most vulnerable groups ، وهؤلاء بالنسبة للسياسيين مجرد " زوائد" إجتماعية لا تقوى على عمليات التأثير والضغط على النخب السياسية لتحقيق مطالبهم، فضلاً عن كونهم يقعون في الهامش السياسي لأن معظمهم لا يهتم بالسياسة كونها عملية معقدة تستوجب إيلاء المزيد من الجهد وبذل الوقت في دهاليزها المبهمة المسالك، فالوقت والجهد بالنسبة لهؤلاء أغلى من أن يبذل في عملية يبدو - بالنسبة لهم - لا طائل من ورائها، أو أنها شأن يختص به أشخاص مفرغون أو شبه مفرغين لهذه العملية. بينما تلح عليهم أسباب كسب معيشتهم بالتركيز فيها دون غيرها من الشواغل. كما يتعامل السياسي من ناحية أخرى مع الكوارث بمبرر جاهز يستله من مكنون ثقافة تُعلي قيمة الإيمان بالقدر Fatalism فيتخذه مشجباً يعلق عليه كل ما يترتب على الكوارث من خسائر... دون أن يتكلفه ذلك كبير عناء في التبرير... فالكارثة عندما تُربط بالقدر "يتخدر" الضحايا ولا يقوون على إلقاء اللوم على السياسي حتى وإن كان التقصير بيناً وواضحاً.
على عموم الأمر يمكن القول إجمالاً أن موضوعة الكوارث والحد من مخاطرها لا تقع في سلم أولويات السياسي، رغم حضورها الطاغي على مسرح الأحداث، فمهما عظمت الخسائر، لن يعدم السياسي التبرير بالطرق المذكورة أعلاه. والتعويل على توالي الأحداث التي سريعاً ما تصرف الأنظار عن وقع الكارثة لأحداث أخرى تشد اهتمام الصفوة السياسية بينما يعجز الضحايا المتأثرين بالكوارث من القدرة على التعافي، وربما يهوون في قيعان الفقر أو يزداد فقرهم أكثر حدة . يبدو ذلك جلياً في الحالة السودانية والتي هي في الأصل ليست استثناء في دول العالم الثالث، فالملاحظ أن الاهتمام بقضايا الكوارث ومخاطرها لا يزال هماً محصوراً في دوائر ضيقة في معظمها أكاديمي، أو مرتبط بالكثير من المشروعات التي تنفذها منظمات الاغاثة الانسانية... وكلاهما لا يُغني في واقع الأمر عن الجهد الحكومي الرسمي الذي يجب أن يقوم به السياسيين ، فالعقدين الأخرين اللذين تصرما من هذه الألفية الجديدة لم يشهدا تحولاً حقيقياً في كيفية تعاطي السياسي لقضايا مخاطر الكوارث بالرغم من حضورها القوي في كل مظاهر الحياة اليومية الحديثة. وبالرغم من الطفرات الهائلة التي حدثت على المستوى العالمي للتعامل مع قضايا الكوارث و تبني استراتيجية دولية للتعامل مع الكوارث في عقد التسعينات.
فمن مفارقات القدر أن السودان وفي ذينك العقدين لم يشهد ما يعرف في أدبيات الكوارث " بالكارثة الكبرى Mega Disaster " وربما يعد ذلك من محاسن الصدف للسياسيين، إلا أن السودان غير محصن منها بتاتاً، و بالرغم من ذلك يمكن الزعم وبإطمئنان تام أن تاريخ ولاية الخرطوم الكبرى ومنذ الثمانينات هو تاريخ افرازات الكوارث التي شهدها السودان سواء أكانت مجاعات بسبب عوامل تذبذب المناخ من جفاف وتصحر أو حروب ونزاعات، التي أسفرت عن موجات نزوح كبيرة. وكلها في المحصلة النهائية نتيجة لإخفاقات سياسية. فكل محركات المخاطر Risk drivers الأساسية الأربعة (التدهور البيئي ، والتغير المناخي ، والتوسع الحضري المتسارع غير المنظم والفقر ) المعروفة توجد فيها بدرجات متفاوتة، إلا أن استعداد السياسي لم يزل هامشي ويبدو أنه لا يعي ما يمكن أن تترتب عليه انعكاسات الكوارث على مستقبل العملية السياسية برمتها.
وللتدليل على تجاهل السياسيون لقضايا الكوارث التي حدثت يمكن النظر لما حدث في مدينة بيروت كمثال. إن تراكم مادة خطرة وقابلة للانفجار مثل مادة نترات الامونيا في مخازن المرفأ يعد خطأ إداريا وسياسيا يتحمل وزره الطاقم السياسي لانعدام حساسيتهم بمخاطر مثل هذه المواد. لذلك يمكن القول أن الدمار الذي شهدته المدينة في البدء يشكل ادانة سياسية ولا يمكن للسياسيين أن يحيلوه للقدر. وإن فعلوا فلن يكون ذلك إلا ضمن محاولة للتبرير لن يهضمها شعب يدمغ الطبقة السياسية كلها بالفساد، لأنه خرج عليها ومازالت مطالبه ماثلة على طاولة السياسيين وهي الرحيل بلا استثناء وفق شعارهم الأثير الذي طرحوه منذ أشهر ( كلهم يعني كلهم). فالأمر الواضح والجلي أن المخاطر ودراستها والتعامل معها لا تقع عند السياسي في موقع الأهمية ولو بالنذر اليسير، فالحد من المخاطر يتطلب ثقافة مغايرة ربما ليست مبالغة القول إنها تبدأ بمقتضى الحديث الشريف (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) وقد لا تتوقف عند حد معين ذلك أنها عملية مستمرة ومعقدة بتعقد معطيات الحياة العصرية.
إن أكبر درس يمكن أن يُستفاد من التاريخ في إهمال السياسيين للكوارث يمكن استخلاصه من تجربة الإعصار المداري الذي ضرب باكستان الشرقية وقتها في نوفبر 1970 المعروف تاريخياً بأسم (بهولا Bhola )والذي شكل صدمة قوية للسكان بحيث فاق مداه تصوراتهم ولم يسمعوا به إلا عبر الإذاعات العالمية والذي راح ضحيته ما يفوق ربع ميلون نسمة. فضلاً عن خسائر مادية أتلفت كل المحاصيل الزراعية وجرفت آلالف المواشي وملايين الطيور الداجنة في البحر ، فقد تبنت الحكومة المركزية سياسة الإنكار و التهوين بمستويات الخسائر، لأن استعدادها و استجابتها للكارثة كانا فقيرين للغاية، مما ضاعف الشعور بالبغن وسط سكان إقليم البنغال الذين طالبوا من فورهم بالاستقلال التام من اسلام آباد، بل حتى عندما عُرض عليهم التصويت قالوا :(لقد صوت موتانا بجثثهم) وخاضوا حرب التحرير التي أسفرت عن انفصال بنغلاديش نهائياً عن باكستان، واضعة حداً لتلك الطموحات السياسية الكبرى التى حلم بها آباء القومية المسلمة Muslim nation التي نظّر لها القائد المؤسس محمد على جناح في 1947، لتظهر دولة البنغال الحرة ( بنغلاديش) في 1971 كعبرة لمن يعتبر.
د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية.
wadrajab222@gmail.com

 

آراء