«الوراق».. سيرة متوهَّمة لمعاوية نور

 


 

 

تصلح الحلقة التي جاءت تحت عنوان« معاوية محمد نور: الطليعي المعذب» من برنامج الوراق الذي تبثه فضائية (سودانية24)، سواء في شكلها أم محاورها أو ضيفها، كأنموذج يجسد خفة وسطحية وكسل صنّاع محتوى الشاشة الصغيرة حين يتعلق الأمر بحاجات المجال الثقافي.

الحلقة التي قُدمت بعد تسجيلها– أي لم تكن مباشرة- بدت من الناحية الإخراجية شبيهة ببرنامج يبثه الراديو وليس التلفزيون؛ إذ لم يكشف توظيف المخرج للكاميرا عن أي طموح جمالي سوى إبراز الدلالة العامة للبرنامج بوصفه معنياً بالكتب والكتّاب، وذلك من خلال استغلال مساحة محدودة من صالة  مكتبة عامة، وتثبيت الكاميرا أمام المذيع وضيفه!

الحلقة التي استضافت الناقد والمترجم الدكتور عز الدين ميرغني، جاءت بلا مناسبة محددة؛ فلا احتفالية اِقْتضتهَا ولا فرضها صدور كتاب حول الأديب الراحل. وهذا انعكس على محاورها   إذ بدت فضفاضة ولم تقتصر على جانب واحد من سيرة معاوية بل شملت جوانب شتى: ميلاده، دراسته في كلية غردون، موقفه من الاستعمار، ورؤيته إلى التراث العربي، هجرته، كتاباته حول الشعر والنثر، إلخ.

 ومع ضيق زمن البرنامج(45 دقيقة) وعدم ارتباطه بحدث معين وتعدد المحاور وتنوعها، يبدو أن عز الدين ميرغني لم يجد طريقة ممكنة للكلام إلا عبر الاختزال هنا، والمبالغة هناك، والتلفيق هنالك!

 (أ)

في مستهل البرنامج طرح مقدمه السؤال التالي:

«طبعا هذا الجيل يمكن أن يكون لا يعرف من هو معاوية نور.. نبدأ بالتعريف»

وفي إجابته قال عز الدين ميرغني:« معاوية من مواليد الثلاثينيات.. »

طرح ميرغني هذه الإجابة بيقين تام، أي لم يسبقها أو يليها بكلمات تدلل على أن قوله يقع في باب التخمين أو الترجيح، إذ لم يستخدم مفردات مثل " يحتمل، أو ربما، أو أظن"، وقال كلامه بطريقة توحي بأنه واثق مما يقول!

ولم يصوب غسان علي عثمان– مقدم البرنامج ومعده- الخطأ وقبله، ثم راح للمحور التالي. وبما أن البرنامج يبث بعد تسجيله وليس مباشراً فمعد البرنامج هو الآخر لم يدرك الغلطة أو لعله لم ير في ما قيل ما يستدعي التصحيح أو الحذف.

قد تبدو هذه المعلومة للبعض مجرد زلّة وغير مهمة بالقدر الذي يوجب هذه الوقفة، ولكن الأمر يستحق في تقديري؛ ليس فقط لأن الموضوع  يتعلق بشخص جليل مثل معاوية محمد نور الذي صارت سيرته على كل لسان، ولكن أيضا لأن القائل هو ناقد معروف، ولعله الأشهر اليوم إلى جانب الدكتور مصطفى الصاوي، بعد توقف أو رحيل أو هجرة معظم الأسماء التي برزت في هذا المجال خلال العقدين الماضيين.

ناقد منظور المكانة كهذا ما الذي يجعله يأتي إلى التلفزيون من دون أن يدرس الموضوع  الذي دُعِيَ للحديث فيه؛ ليتكلم باستسهال ومن دون تثبت أو تدقيق؟ أهي الثقة العمياء بالذات، أم هو الإحساس بألا أحد يبالي بما يقال في الأدب؟

 ليس نادراً أن يعجز المرء عن تذكر تاريخ ميلاد أحدهم بالطبع ولكن النسيان لا يبيح اختلاق أي تاريخ والسلام كما فعل ميرغني، خاصة إذا كانت هذه المعلومة مذاعة لتصل إلى الملايين من متفرجي التلفزيون والـ(يوتيب)، سوى في أيامنا هذه أو في المستقبل.

من بعد،  كان ميلاد الأديب الراحل سنة 1909 هذا ما أورده الدكتور الطاهر محمد علي البشير الذي أعدّ وقدم كتاب« دراسات في الأدب الحديث: من آثار معاوية محمد نور» (الدار السودانية للكتب:1970)، وهو ما ذكره أيضا رشيد عثمان خالد الذي أعد وقدم كتاب« مؤلفات معاوية محمد نور: دراسات في الأدب والنقد وقصص وخواطر» (جامعة الخرطوم: 1970).

 لكن، بحسب وثيقة استخبارية أعدتها السلطات الاستعمارية في الخرطوم أوائل الثلاثينيات كان ميلاد معاوية سنة 1907. هذه الوثيقة نشرت للمرة الأولى في جريدة البلاغ المصرية بتاريخ 30 مارس 1947، وحوت أسماء، تورايخ ميلاد، قبائل، وتوجهات، وإمكانيات الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون بالخارج آنئذ.

 وقد أشار رشيد عثمان خالد إلى هذه الوثيقة في هامش مقدمته للكتاب «مؤلفات معاية محمد نور..»  ولكن اطلاعه عليها لم يحمله على تغيير التاريخ الذي أورده لميقات ميلاد معاوية.

على أي حال، من الواضح أن معاوية جاء إلى الدنيا في العشرية الأولى لا في ثلاثينيات القرن العشرين كما قال ميرغني.

(ب)

تابع ميرغني تعريفه معاوية، وقال هو « من أسرة دينية معروفة في أمدرمان [..] تدرج حتى وصل كلية غردون، ولقي فرصة بأنو يدرس الطب سنتين خارج السودان..».

مع أن ليس من الواضح لماذا أسبغ ميرغني صفة« الأسرة الدينية» على عائلة الأديب الراحل إلا أن ذلك مما يمكن الاختلاف حوله بالطبع؛ ولكن الصحيح أن معاوية درس الطب مدة قصيرة في كلية كتشنر الطبية بالخرطوم. هذا مذكور في العديد من المصادر، مثل كتاب «عربي يروي قصته..» لإدوراد عطية، وكذلك في مقدمة رشيد عثمان خالد المار ذكرها.

(ج)


سأل المقدم: « هل معاوية أول سوداني يكتب قصة قصيرة ؟»

أجاب ميرغني:« لا طبعا في ناس سبقوه..»

 المقدم: «زي منو؟ »

ميرغني: « ما بتذكر.. لكن القصة القصيرة السودانية ليها قرن من الزمان»

وهذا الذي قاله ميرغني يثير بغرابته سؤالاً: ما الذي يمكن أن يتذكره الناقد الأدبي حين يخفق في استعادة بعض الأسماء التي برزت في مشهد بدايات القصة القصيرة في بلده؟

(د)

  طرح ميرغني جملة من الأفكار المتطرفة أو التي يصعب على المرء أن يوافقه عليها. مثل قوله إن معاوية لم يتطرق في كتاباته إلى الشعر السوداني في تلك الفترة لأنه « كان شعراً ممتازاً» قياساً إلى الشعر المصري!

كذلك قوله إن معاوية لم يتناول بالنقد وضع القصة القصيرة في بلاده لأن « القصة القصيرة السودانية كانت متطورة في ذلك في الوقت» مقارنة بالقصة القصيرة المصرية، إلخ.

ولن نناقش ذلك لأن هذا المقال ليس معنياً بما يقع في إطار المفاهيم والاستنتاجات من كلام ميرغني إنما بما يعتبر من المعلومات والحقائق، وفي هذا الاتجاه يلاحظ أن ميرغني برهن على معاداة معاوية للاستعمار الإنجليزي بأنه لم يشغل أي وظيفة!

وهذا غير صائب، فلقد عمل معاوية في « مؤسسات الاستعمار» إذ كان سكرتيرا للغرفة التجارية عندما كان يتولى إدارتها الإغريقي جيراسيموس كونتوميكالوس (1883- 1954)، وكان معاوية في طليعة مستقبلي البعثة الاقتصادية المصرية حين زارت مقر الغرفة في الخرطوم سنة 1935.

(ه)

مع مضي دقائق البرنامج راح مقدمه يقترح بعض الرؤى والخواطر والخلاصات حول مسيرة معاوية ومعاصريه من الكتّاب السودانيين وكان ميرغني يتبنى تلك الأفكار أو يبصم عليها بــ «نعم».  نمثل لهذا الأمر بالفقرة التالية:

قال ميرغني: « كون المصريين يقبلوا كتاباته – معاوية- دي أول العبقرية..»

مقدم البرنامج: « لعله السوداني الوحيد الكان بيكتب في الوكت داك »

رد ميرغني: « نعم».

بالطبع لم يكن معاوية هو السوداني الوحيد الذي ينشر في الصحف المصرية؛ فثمة أسماء سودانية عديدة نشرت في صحف ومجلات الثقافة في القاهرة خلال عقدي العشرينيات والثلاثنينات، مثل محمد عشري الصديق الذي زامل معاوية في النشر بجريدة السياسة الأسبوعية، وكذلك عبد الله عشري الصديق، والتجاني يوسف بشير ونشرا في مجلة الرسالة، وغيرهم.

(و)

هناك إشارة وردت في هذا البرنامج - كما وردت في منابر سودانية أخرى- تفيد أن إدارة مجلة الفجر التي كانت تصدر في الخرطوم في الثلاثنينيات جارت على معاوية – بسبب الغيرة أو الحسد أو الايديولوجيا- ولم تنشر له مقالات كان أرسلها إليها! وهذا الكلام يرد غالباً من دون إحالة إلى مرجع أو وثيقة ما، شأن الكثير مما يثار حول معاوية نور.

الشاهد أن هذه المجلة كانت قريبة من أسرة معاوية، فلقد ساهم خاله الدرديري محمد عثمان مادياً في تأسيسها (أنظر مذاكرته، ص16)، وكان لاثنين – على الأقل- من أقرباء معاوية مساهمات في صفحاتها وهما السبكي خالد، ومصطفى التني، وإلى جانب ذلك احتفى معاوية شخصياً  بصدور هذه المجلة من خلال مقالة نشرها في الاجيبشن ميل تحت عنوان « مجهود أدبي سوداني». وقد أوردت الفجر في عددها الصادر (16 أغسطس 1934) خبر احتفاء معاوية بصدورها. ونقتبس ما أوردته المجلة كاملاً لعله يفيد في فهم هذه المسألة:

( أرسل إلينا مواطننا الأديب الأستاذ معاوية نور نزيل القاهرة قصاصة من جريدة الايجبشن ميل الانكليزية  التي تصدر في القاهرة ويشترك في تحريرها تضمنت كلمة للمواطن الفاضل عن الفجر بعنوان مجهود أدبي سوداني، وبعد أن رحب الأستاذ بالمجلة وذكر أبوابها ومباحثها وقدر  الجهد «المشكور» في إخراجها بهذا الثوب، عقب على ذلك باعتراضه على تخصص المجلة في ميادين الفنون والأداب وهي لا تفيد إلا « القليلين جدا الذين يستطيعون أن يسبحوا في هذه الأجواء» ونعى علينا عدم اشتمال المجلة لما يفيد «الفلاح» في حقله والعامل والتاجر في مباحث زراعية واقتصادية، إلخ.

ونحن نقدر للزميل نصيحته لأننا متأكدون من صدورها عن رغبة في الإصلاح وحب لخير هذا الوطن المحبوب، ونجيب على هذا بأننا قمنا بهذا الجهد لنسد فراغاً شاهدناه في مجتمعنا. وإذا قال الزميل أن الطبقة المتعلمة « تجد ما يشبع نهمها في الصحافة المصرية..» فأننا أردنا أن يكون [..] مسرح خاص لأدبنا الأصيل وأن نستغنى أخيراً «ولو بعض الشيء» عن خبز الصداقة؟ وليس الأدب كل ما نعالج فأدواؤنا الاجتماعية لها المقام الذي لا يهمل، وباب التثقيف العام يتسع لنشر كل ما يفيد الجمهور [..] وأننا لنستنجز الأستاذ معاوية وعده بالكتابة فيما يراه صالحاً لعله يكون قدوة صالحة للكثيرين من أدبائنا ومعلمينا وأطبائنا الذي ما زالوا يحجمون عن الجري في مضمار الإصلاح العلمي والاجتماعي والصحي ولعلهم يجيبون نداءه وندائنا- ونحن بعد في مستهل حياتنا وطاقتنا جد محدودة، وللتوسع عدته ومادته وآمالنا معقودة بتعضيد أمتنا الكريمة لنواصل السير إلى الأمام).

(أخيراً)

أخيراً، ولئن كان من الممكن تجاوز عجز ميرغني عن تذكر ميقات ميلاد معاوية كما ورد في الفقرة (أ) من هذا المقال؛ فكيف يمكن تفسير إخفاقه في تذكر عمر معاوية عندما توفي؟

لقد سأله مقدم البرنامج: « مات معاوية شاباً.. كم كان عمره؟»

 ردّ ميرغني: لم يصل إلى الثلاثين، توفى في حدود 28 أو 29 سنة.

والصحيح أن معاوية توفي وعمره 32 سنة أو أكثر( مات ديسمبر 1941).

 ****


essamgaseem3@gmail.com

 

آراء